الخلاف وغياب الأخلاق

الدكتور صالح نصيرات

  • الأربعاء 18, مايو 2022 10:51 ص
  • الخلاف وغياب الأخلاق
في عالم تتشابك فيه المصالح و العلاقات، ويكثر فيه الكلام من قبل الجاهل ونصف العالم، يصبح الخلاف في الرأي والفكر ميدانا لتسميم العقول، ووسيلة للاستعلاء والتكبر على الآخر.

الخلاف وغياب 
الأخلاق

في عالم تتشابك فيه المصالح و العلاقات، ويكثر فيه الكلام من قبل الجاهل ونصف العالم، يصبح الخلاف في الرأي والفكر ميدانا لتسميم العقول، ووسيلة للاستعلاء والتكبر على الآخر. وهذه الظاهرة ليست جديدة بالكلية، إذ أن الخلاف موجود بين الفرق والجماعات والأحزاب بكل أطيافها ومسمياتها ومرجعياتها. ولكن مع وجود وسائل التواصل بين أيدي عموم الناس، أصبحت الظاهرة مقلقة إلى درجة كبيرة. فقد عبّر كثير من العقلاء عن خوفهم من بعث الفتن باستخدام الإثارة والتحريض المباشر وغير المباشر. ويبدو لي أن البعث اللامحمود للفتن يعود إلى أسباب كثيرة ولعل من أهمها فقدان المرجعية الأخلاقية في الخلاف.
في كتابه المميز" منظومة القيم المقاصدية وتجلياتها التربوية" يناقش الدكتور فتحي ملكاوي في الجزء الأول من الكتاب دور التوحيد في بناء منظومة أخلاقية على مستوى الفرد والجماعة. فهو يتنقل بالقارىء عبر العصور الإسلامية ابتداء من الراشدين إلى وقتنا الحاضر. وفي هذه الرحلة يقدم للقارىء صورة عن حالة الأمة في تعاملها مع التوحيد، وكيف استطاع هذا المفهوم أن يجعل للأمة مرجعية واحدة في قيمها العليا. فالتوحيد ليس مجرد عبارة يقولها المسلم ليدخل عالم الإيمان والإسلام، ولكنه منظومة متكاملة تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وتقدم للمسلم مجموعة من القيم الفرعية التي تجعل الحياة ميدانا فسيحا لتطبيق تلك القيم، والعيش من خلالها بسلام وأمان، ليس للمسلم فقط بل للإنسانية كلها.
فالتوحيد -مصدر القيم-  يدعو إلى بناء مجتمع الفضيلة من خلال التزكية التي تتولى العبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة توفيرها للمسلم. فالعبادات ليست غايات في نهاية المطاف بل وسائل للارتقاء والتطهر "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب و الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين". 
والتوحيد في غايته العظمى يتمثل في تحقيق موعود الله سبحانه "ليظهره على الدين كله". وهو ظهور التعاون والتكافل والتسامح، وليس ظهور الاستبعاد والإذلال واحتقار الإنسان لأخيه الإنسان. وهو ظهور الاستخلاف الذي يتمثل قيم التوحيد كلها من محبة وإخاء واحترام لكرامة الإنسان. 
وعندما تغيب هذه القيم عن المسلمين اليوم، وتصبح قضية الكثيرين منهم الانتصار في معارك الخلاف الفقهي والعقدي والاجتماعي والسياسي -وهو خلاف اجتهادي في المقام الأول- فإن من المتوقع أن يبقى المسلمون يدورون حول أنفسهم دون تحقيق مقاصد الدين في الحياة.
فأي معنى للعبادات والإكثار من التمتمة والدروشة والتركيز على الأشكال دون المضامين، وتقييم الآخر من خلال مجموعة من الأحكام التي جاء بها الفقهاء  عبر اجتهادات بشرية عرضة للخطأ والصواب وشوهها أتباعهم، حتى أصبح المسلم اليوم هدفا لإخوانه الذين يرون الإسلام من خلال ثقب صغير، ونظرة تشاؤمية سوداوية، لاتقيم لمعاني الإسلام الكبرى وقيمه العظمى أي حساب، ولا يتذكر هؤلاء الذين همهم الأول والأخير البحث عن الأخطاء وتضخيمها أنهم يساهمون بشكل مباشر في حالة التراجع و البقاء في دائرة التخلف الحضاري و القيمي.
لقد رأيت شريطا مصورا لشاب يشتم جماعة إسلامية ويتهمها بكل ما أوتي من مفردات قبيحة، لا لشيئ إلا أنه تربى على كراهية الآخر حتى ولو اشترك معه في 90% من الإسلام. ويعلم الله أنه في خطابه ذاك أبان عن جهل فاضح، فلو راجع أدبيات الجماعة بروح المؤمن الحق وعقلية المتدبر لما وضع نفسه في هذا الموقف المشين.
إن من مصائبنا اليوم أن نعيش في جلباب الآخرين الذين اجتهدوا لزمانهم وفق منهجية صالحة لهم، ثم نجعل من اجتهاداتهم البشرية معايير مطلقة في حياتنا. وهذه الحالة تكرسها جماعات وأفراد يعلون -للأسف- من شأن الظلمة والقتلة والمفسدين في الأرض باسم طاعة ولي الأمر مقابل لعاعة من الدنيا، ولايبالون في الولوغ في أعراض المسلمين  لخلاف بسيط دون اعتبار لموقف سيقفونه بين يدي الله سبحانه حيث يتبرأ منهم أولئك الظلمة والفجار "إذ تبرا الذين أتُبعوا من الذين اتبعوا ورأو العذاب وتقطعت بهم الأسباب".

د.صالح نصيرات