سبعة ميادين خطيرة يواجه فيها المقدسيون بمفردهم مخططات الاحتلال
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدولية
عربي بوست
لا يمكن الحديث عن القدس المحتلة من دون المرور على قضيتين بالغتي الأهمية، الأولى ما تتعرض له المدينة منذ احتلال شطريها عام 1967، فقد مرت السنوات الـ55 الماضية قاسية صعبة، فلم يترك الاحتلال حجراً في المدينة إلا وحاول تهويده أو استئصاله.
أما القضية الثانية فهي إرادة المغالبة لدى المقدسيين، الذين حافظوا طوال السنوات الماضية على إرادة مواجهة العدو، وصمدوا في مدينتهم، ولم ينل تغول الاحتلال من عزيمتهم. ونسلط الضوء في هذا المقال على 7 ميادين تشهد مواجهة لمخططات الاحتلال، ويعمل المقدسيون من خلالها على عرقلة المحتل وأذرعه المختلفة، والحفاظ على جزء من هوية المدينة.
الديموغرافية صراعٌ يخافه الاحتلال
عملت سلطات الاحتلال منذ احتلال القدس على ترسيخ غلبة سكانية يهودية في شطري المدينة المحتلة، وعلى الرغم من هذه الإجراءات إلا أن الفلسطينيين في عام 2020 يشكلون نحو 39% من مجموع السكان في القدس المحتلة، بحسب معطيات الاحتلال. ما يعني أن الوجود الديموغرافي الفلسطيني في القدس يشكل معضلة تترصد الاحتلال، حتى وصفتها بعض مستوياته بأنها "قنبلة ديموغرافية". وإلى جانب تحول القدس إلى مدينة طاردة للمستوطنين، تشير الزيادة الطبيعية للفلسطينيين في المدينة إلى أن نسبتهم ستصل في عام 2030 إلى نحو 43%، وفي عام 2050 ستبلغ هذه النسبة نحو 49%، ما سيسمح للفلسطينيين بتشكيل كتلة ديموغرافية كبيرة، ستسهم في المزيد من مواجهة سياسات الاحتلال التهويدية.
وتؤشر هذه المعطيات إلى أن تخوف الاحتلال من الوجود الفلسطيني في القدس مبني على استشراف تحول الكتلة السكانية في القدس المحتلة، إلى كتلة توازي أعداد المستوطنين، وهذا ما يعني أن كل سياسات الاحتلال لتحويل القدس عاصمة لدولته لا يسكنها إلا المستوطنون قد باءت بالفشل.
أسهمت أذرع الاحتلال المختلفة في تثبيت اقتحامات المسجد الأقصى، التي تتكرر بشكلٍ شبه يومي، وأدى هذا التثبيت إلى تكثيف الوجود اليهودي داخل الأقصى، وما يتصل بذلك من أداء المستوطنين للصلوات اليهوديّة العلنية، في سياق ما يُعرف بـ"التأسيس المعنوي للمعبد". إضافةً إلى ترسيخ الأعياد اليهودية لتكون مناسباتٍ لتدنيس المسجد والاعتداء على مكوناته البشرية، ورفع حجم أعداد المشاركين في الاقتحامات.
ومن الملاحظ أن إرادة المواجهة لدى الفلسطينيين تعود بالظهور أمام تصاعد المخاطر التي يتعرض لها الأقصى، فقد شهد المسجد المبارك ومحيطه عدداً من الهبات النوعية، التي أسهمت في قلب المعادلة مع الاحتلال، أبرزها هبة البوابات الإلكترونية عام 2017، وهبة باب الرحمة عام 2019، وهبة باب العمود عام 2021، وقد شكل الرباط فيهما العامل الأبرز لنجاح الهبات، إن كان أمام أبواب المسجد أو في داخله. وشهد عام 2022 عدداً من الأحداث التي أشارت إلى عودة الرباط إلى الأقصى، إلا أن تعامل الاحتلال الوحشي معها أضعف هذه العودة، ولكنها في المقابل أظهرت أن الفلسطينيين في القدس والمناطق المحتلة عام 1948 قادرون على إعادة فعالية الرباط إلى المسجد، وذلك عبر أدوات عدة.
الصمود في وجه محاولات تهويد الهوية الحضارية والتاريخية لمدينة القدس
تستهدف سلطات الاحتلال هوية القدس المحتلة الحضارية والتاريخية، وتعمل على إحاطة المسجد الأقصى المبارك بعشرات المعالم اليهوديّة، إلى جانب الحفريات التي يشرف عليها عددٌ من الجهات الإسرائيلية أسفل وفي محيط الأقصى لإنشاء مدينة يهوديّة ضمن مشروع "تأهيل الحوض المقدّس" التهويدي، وقد حوَّل الاحتلال بعض هذه الحفريات إلى متاحف وكُنس. وفي السنوات الماضية صعّد الاحتلال من بناء المعالم التهويديّة في البلدة القديمة، ويسعى من خلالها إلى إدارة عمليات اقتحام المسجد الأقصى، وتشويه المظهر العربي والإسلامي للمدينة، وقد تصاعد بناء هذه المعالم منذ افتتاح كنيس الخراب في عام 2010.
وعلى الرغم من محاولات الاحتلال تشويه الوجه الحضاري للمدينة، فإن عدة عقبات ماثلة أمامه، تمنعه من تحقيق أهدافه، أبرزها عمق الهوية الدينية في القدس المحتلة، وهي هوية ركيزتها الأولى المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية، وما تمثله من نقطة جذب للمؤمنين من القدس وخارجها، ومع ما يتعرض له المسجد الأقصى من اعتداءات ومحاولات تقسيم إلا أن جهود الفلسطينيين للدفاع عنه، جزءٌ من تثبيت هذه الهوية.
وإلى جانب أهمية المقدسات يشكل ثبات الفلسطينيين في البلدة القديمة، وحفاظهم على نسيجها العمراني مواجهةً صامتة لما يقوم به الاحتلال، خاصة أن أذرع الاحتلال تحاول الاستيلاء على العديد من منازل البلدة بشتى الوسائل، وتقدم إغراءات مالية ضخمة لأصحابها، وفي السنوات الماضية حولت العديد من العائلات المقدسية منازلهم من ملك خاص إلى "وقفٍ ذري" لسد الطريق أمام محاولات تسريبها إلى أذرع الاحتلال.
التكاتف الشعبي والثبات في القدس في مواجهة تصاعد هدم منازل الفلسطينيين ومنشآتهم
تشكل سياسة هدم منازل الفلسطينيين ومنشآتهم واحدةً من أدوات الاحتلال الرامية إلى إخراج الفلسطينيين خارج القدس المحتلة، وحرمانهم من البقاء في المدينة، وقد صعدت أذرع الاحتلال في السنوات الأخيرة عمليات الهدم، ففي تقديراتٍ لبلدية الاحتلال في القدس المحتلة، يصل عدد المباني المعرضة للهدم إلى نحو عشرين ألف مبنى، بذريعة البناء من دون ترخيص. وبحسب معطيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) هدمت سلطات الاحتلال ما بين 1/1/2009 و15/10/2022 نحو 1725 منزلًا ومنشأة.
وإلى جانب الإرادة والوعي بأهمية البقاء في القدس المحتلة في مواجهة الاحتلال وأذرعه المحتلة، تُسهم الحملات الشعبية في تثبيت الفلسطينيين، وهي على قسمين، إما حملات تعمل على إبقاء الوعي بمخاطر التهجير، وضرورة البقاء في القدس، على غرار حملة "بطلعش" التي أطلقها نشطاء في بداية عام 2021، وهدفت الحملة إلى تسليط الضوء على معاناة أصحاب البيوت المهدمة في المدينة المحتلة.
أما القسم الثاني فهو حملات لإعادة المنازل المهدمة، وخاصة تلك العائدة للشهداء والأسرى من منفذي العمليات الفردية.
معركة التعليم والحفاظ على ما بقي من قطاع التعليم في القدس المحتلة
شهدت السنوات الماضية استهدافاً متصاعداً لقطاع التعليم في القدس المحتلة، وتحرم سلطات الاحتلال مدارس الشطر الشرقي من المدينة من التمويل اللازم لمواكبة تزايد أعداد الطلبة المقدسيين، خاصة تلك التي ما زالت متمسكة بتدريس المنهاج الفلسطيني، في مقابل إغداق ميزانيات هائلة على المدارس التي تدرس منهاج الاحتلال، إضافةً إلى استمرار محاولاتها لدفع المزيد من المدارس نحو الدخول في مظلتها.
ولم تقف سلطات الاحتلال عند مخططاتها سالفة الذكر، بل تعمل على ممارسة المزيد من الضغوط على المدارس المقدسية، وآخرها محاولات فرض المنهاج المحرف على طلاب مدارس الإيمان والإبراهيمية في القدس المحتلة. ويواجه الفلسطينيون محاولات الاحتلال لأسرلة قطاع التعليم من خلال:
- دور لجان أولياء الأمور في الحفاظ على التعليم في القدس، وتنوع أدوارهم من توزيع المنهاج الفلسطيني على الطلاب، وقيامهم بالإضرابات والوقفات الاحتجاجية في وجه قرارات الاحتلال.
- تمسك عدد من المدارس في القدس المحتلة بالمنهاج الفلسطيني، وعدم قبولها تلقي أية معونات ودعم من منظومة الاحتلال، وهذا ما يسهم في تعزيز صمودها على الرغم من أعبائها المالية.
- فشل المنظومة الإسرائيلية التعليمية في تشويه مدارك المقدسيين، إن كان على صعيد تقبلهم للاحتلال، وخضوعهم له، أو على صعيد مواجهته في مختلف المحطات والهبات.
المؤسسات الأهلية في القدس، تحدي البقاء في وجه سياسات الاحتلال الإلغائية
تستهدف سلطات الاحتلال المؤسسات الأهلية في القدس، في سياق إفراغ المدينة من الجهات القادرة على إسناد المقدسيين، وتقديم الدعم لهم، ما يسمح لهم بالتحرر من قبضة الاحتلال ومؤسساته الصحية والتعليمية، لذلك عمل الاحتلال على إنهاء وجود المؤسسات الأهلية في القدس، عبر التضييق عليها، ومن ثم حظرها وإغلاقها، وقد أغلق الاحتلال عشرات المؤسسات الأهلية العاملة للقدس داخل المدينة وخارجها، وبحسب معطيات مقدسية أغلقت سلطات الاحتلال أكثر من 100 مؤسسة أهلية فلسطينية في القدس.
إلا أن هذه الهجمة العنيفة لم تفلح في إنهاء المؤسسات الأهلية بشكلٍ كامل، ففي عام 2020 ذكرت دراسة صادرة عن مركز "القدس لبحث السياسات" الإسرائيلي، أن الشطر الشرقي للقدس يتضمن نحو 300 مؤسسة أهلية، من بينها 244 مؤسسة تعمل في الميدان. وتتنوع اهتمامات هذه المؤسسات ما بين الرياضة والتعليم، والمجتمع، وشؤون المرأة، وغيرها. ومن المؤشرات المهمة التي أوردتها هذه الدراسة الإسرائيلية، أن 15% من التمويل الذي تتلقاه هذه المؤسسات يأتي من مصادر فلسطينية داخل الشطر الشرقي للقدس، ومن الضفة الغربية، في حين يبلغ حجم التمويل القادم من العالم العربي بما فيه الأردن نحو 10%. وتؤشر هذه المعطيات إلى أن البيئة الفلسطينية هي الرافعة الأبرز لهذه المؤسسات بعد الدعم الدولي.
المقاومة في القدس جذوة لا تنطفئ
تعدّ القدس المحتلة واحدةً من المساحات الرئيسية للعمل المقاوم، ومواجهة محاولات الاحتلال فرض سيطرته على المناطق الفلسطينية، وتشهد المدينة المحتلة العديد من العمليات النوعية، إضافةً إلى عشرات نقاط المواجهة في الكثير من أحياء المدينة المحتلة، وأظهرت معطيات التقرير السنوي حال القدس الصادر عن مؤسسة القدس الدولية تصاعد العمليات في القدس المحتلة خلال السنوات السابقة، بسبب الآتي:
- تصاعدت مخططات التهويد، من الاعتداء على المسجد الأقصى، ومحاولات الاحتلال فرض المكون اليهودي داخله، وصولاً إلى محاولات تهجير الأحياء الفلسطينية.
- حالة المواجهة الشاملة في مجمل المناطق الفلسطينية المحتلة، وهذا ما يشكل رافعة للعمل المقاوم، وفرصة لإشغال قوات الاحتلال في أكثر من موضع في وقتٍ واحد.
- انسداد الأفق السياسي، وتعاظم موجة التطبيع، بما يرسخ في أذهان الفلسطينيين أنه لا إمكانية لنيل الحقوق إلا بمقاومة الاحتلال وإفشال مخططاته عبر مواجهته بكل السبل.
وتشير المعطيات إلى تصاعدٍ نوعي في أعداد العمليات في عام 2022، ففي رصدٍ لعمليات المقاومة منذ بداية العام الجاري أصدره مركز المعلومات الفلسطيني "معطى"، أعلن أن الضفة الغربية والقدس المحتلتين شهدتا أكثر من 10 آلاف عمل مقاوم منذ بداية عام 2022، من بينها 639 عملية إطلاق نار، و33 عملية طعن ومحاولة طعن، وبحسب المركز أدت عمليات المقاومة إلى مقتل نحو 29 مستوطناً إسرائيلياً، من بينهم جنودٌ في جيش الاحتلال وشرطته، وهي الحصيلة الأعلى منذ سنواتٍ عدة.
علي ابراهيم
باحث في مؤسسة القدس الدولية
عربي بوست
لا يمكن الحديث عن القدس المحتلة من دون المرور على قضيتين بالغتي الأهمية، الأولى ما تتعرض له المدينة منذ احتلال شطريها عام 1967، فقد مرت السنوات الـ55 الماضية قاسية صعبة، فلم يترك الاحتلال حجراً في المدينة إلا وحاول تهويده أو استئصاله.
أما القضية الثانية فهي إرادة المغالبة لدى المقدسيين، الذين حافظوا طوال السنوات الماضية على إرادة مواجهة العدو، وصمدوا في مدينتهم، ولم ينل تغول الاحتلال من عزيمتهم. ونسلط الضوء في هذا المقال على 7 ميادين تشهد مواجهة لمخططات الاحتلال، ويعمل المقدسيون من خلالها على عرقلة المحتل وأذرعه المختلفة، والحفاظ على جزء من هوية المدينة.
الديموغرافية صراعٌ يخافه الاحتلال
عملت سلطات الاحتلال منذ احتلال القدس على ترسيخ غلبة سكانية يهودية في شطري المدينة المحتلة، وعلى الرغم من هذه الإجراءات إلا أن الفلسطينيين في عام 2020 يشكلون نحو 39% من مجموع السكان في القدس المحتلة، بحسب معطيات الاحتلال. ما يعني أن الوجود الديموغرافي الفلسطيني في القدس يشكل معضلة تترصد الاحتلال، حتى وصفتها بعض مستوياته بأنها "قنبلة ديموغرافية". وإلى جانب تحول القدس إلى مدينة طاردة للمستوطنين، تشير الزيادة الطبيعية للفلسطينيين في المدينة إلى أن نسبتهم ستصل في عام 2030 إلى نحو 43%، وفي عام 2050 ستبلغ هذه النسبة نحو 49%، ما سيسمح للفلسطينيين بتشكيل كتلة ديموغرافية كبيرة، ستسهم في المزيد من مواجهة سياسات الاحتلال التهويدية.
وتؤشر هذه المعطيات إلى أن تخوف الاحتلال من الوجود الفلسطيني في القدس مبني على استشراف تحول الكتلة السكانية في القدس المحتلة، إلى كتلة توازي أعداد المستوطنين، وهذا ما يعني أن كل سياسات الاحتلال لتحويل القدس عاصمة لدولته لا يسكنها إلا المستوطنون قد باءت بالفشل.
أسهمت أذرع الاحتلال المختلفة في تثبيت اقتحامات المسجد الأقصى، التي تتكرر بشكلٍ شبه يومي، وأدى هذا التثبيت إلى تكثيف الوجود اليهودي داخل الأقصى، وما يتصل بذلك من أداء المستوطنين للصلوات اليهوديّة العلنية، في سياق ما يُعرف بـ"التأسيس المعنوي للمعبد". إضافةً إلى ترسيخ الأعياد اليهودية لتكون مناسباتٍ لتدنيس المسجد والاعتداء على مكوناته البشرية، ورفع حجم أعداد المشاركين في الاقتحامات.
ومن الملاحظ أن إرادة المواجهة لدى الفلسطينيين تعود بالظهور أمام تصاعد المخاطر التي يتعرض لها الأقصى، فقد شهد المسجد المبارك ومحيطه عدداً من الهبات النوعية، التي أسهمت في قلب المعادلة مع الاحتلال، أبرزها هبة البوابات الإلكترونية عام 2017، وهبة باب الرحمة عام 2019، وهبة باب العمود عام 2021، وقد شكل الرباط فيهما العامل الأبرز لنجاح الهبات، إن كان أمام أبواب المسجد أو في داخله. وشهد عام 2022 عدداً من الأحداث التي أشارت إلى عودة الرباط إلى الأقصى، إلا أن تعامل الاحتلال الوحشي معها أضعف هذه العودة، ولكنها في المقابل أظهرت أن الفلسطينيين في القدس والمناطق المحتلة عام 1948 قادرون على إعادة فعالية الرباط إلى المسجد، وذلك عبر أدوات عدة.
الصمود في وجه محاولات تهويد الهوية الحضارية والتاريخية لمدينة القدس
تستهدف سلطات الاحتلال هوية القدس المحتلة الحضارية والتاريخية، وتعمل على إحاطة المسجد الأقصى المبارك بعشرات المعالم اليهوديّة، إلى جانب الحفريات التي يشرف عليها عددٌ من الجهات الإسرائيلية أسفل وفي محيط الأقصى لإنشاء مدينة يهوديّة ضمن مشروع "تأهيل الحوض المقدّس" التهويدي، وقد حوَّل الاحتلال بعض هذه الحفريات إلى متاحف وكُنس. وفي السنوات الماضية صعّد الاحتلال من بناء المعالم التهويديّة في البلدة القديمة، ويسعى من خلالها إلى إدارة عمليات اقتحام المسجد الأقصى، وتشويه المظهر العربي والإسلامي للمدينة، وقد تصاعد بناء هذه المعالم منذ افتتاح كنيس الخراب في عام 2010.
وعلى الرغم من محاولات الاحتلال تشويه الوجه الحضاري للمدينة، فإن عدة عقبات ماثلة أمامه، تمنعه من تحقيق أهدافه، أبرزها عمق الهوية الدينية في القدس المحتلة، وهي هوية ركيزتها الأولى المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية، وما تمثله من نقطة جذب للمؤمنين من القدس وخارجها، ومع ما يتعرض له المسجد الأقصى من اعتداءات ومحاولات تقسيم إلا أن جهود الفلسطينيين للدفاع عنه، جزءٌ من تثبيت هذه الهوية.
وإلى جانب أهمية المقدسات يشكل ثبات الفلسطينيين في البلدة القديمة، وحفاظهم على نسيجها العمراني مواجهةً صامتة لما يقوم به الاحتلال، خاصة أن أذرع الاحتلال تحاول الاستيلاء على العديد من منازل البلدة بشتى الوسائل، وتقدم إغراءات مالية ضخمة لأصحابها، وفي السنوات الماضية حولت العديد من العائلات المقدسية منازلهم من ملك خاص إلى "وقفٍ ذري" لسد الطريق أمام محاولات تسريبها إلى أذرع الاحتلال.
التكاتف الشعبي والثبات في القدس في مواجهة تصاعد هدم منازل الفلسطينيين ومنشآتهم
تشكل سياسة هدم منازل الفلسطينيين ومنشآتهم واحدةً من أدوات الاحتلال الرامية إلى إخراج الفلسطينيين خارج القدس المحتلة، وحرمانهم من البقاء في المدينة، وقد صعدت أذرع الاحتلال في السنوات الأخيرة عمليات الهدم، ففي تقديراتٍ لبلدية الاحتلال في القدس المحتلة، يصل عدد المباني المعرضة للهدم إلى نحو عشرين ألف مبنى، بذريعة البناء من دون ترخيص. وبحسب معطيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) هدمت سلطات الاحتلال ما بين 1/1/2009 و15/10/2022 نحو 1725 منزلًا ومنشأة.
وإلى جانب الإرادة والوعي بأهمية البقاء في القدس المحتلة في مواجهة الاحتلال وأذرعه المحتلة، تُسهم الحملات الشعبية في تثبيت الفلسطينيين، وهي على قسمين، إما حملات تعمل على إبقاء الوعي بمخاطر التهجير، وضرورة البقاء في القدس، على غرار حملة "بطلعش" التي أطلقها نشطاء في بداية عام 2021، وهدفت الحملة إلى تسليط الضوء على معاناة أصحاب البيوت المهدمة في المدينة المحتلة.
أما القسم الثاني فهو حملات لإعادة المنازل المهدمة، وخاصة تلك العائدة للشهداء والأسرى من منفذي العمليات الفردية.
معركة التعليم والحفاظ على ما بقي من قطاع التعليم في القدس المحتلة
شهدت السنوات الماضية استهدافاً متصاعداً لقطاع التعليم في القدس المحتلة، وتحرم سلطات الاحتلال مدارس الشطر الشرقي من المدينة من التمويل اللازم لمواكبة تزايد أعداد الطلبة المقدسيين، خاصة تلك التي ما زالت متمسكة بتدريس المنهاج الفلسطيني، في مقابل إغداق ميزانيات هائلة على المدارس التي تدرس منهاج الاحتلال، إضافةً إلى استمرار محاولاتها لدفع المزيد من المدارس نحو الدخول في مظلتها.
ولم تقف سلطات الاحتلال عند مخططاتها سالفة الذكر، بل تعمل على ممارسة المزيد من الضغوط على المدارس المقدسية، وآخرها محاولات فرض المنهاج المحرف على طلاب مدارس الإيمان والإبراهيمية في القدس المحتلة. ويواجه الفلسطينيون محاولات الاحتلال لأسرلة قطاع التعليم من خلال:
- دور لجان أولياء الأمور في الحفاظ على التعليم في القدس، وتنوع أدوارهم من توزيع المنهاج الفلسطيني على الطلاب، وقيامهم بالإضرابات والوقفات الاحتجاجية في وجه قرارات الاحتلال.
- تمسك عدد من المدارس في القدس المحتلة بالمنهاج الفلسطيني، وعدم قبولها تلقي أية معونات ودعم من منظومة الاحتلال، وهذا ما يسهم في تعزيز صمودها على الرغم من أعبائها المالية.
- فشل المنظومة الإسرائيلية التعليمية في تشويه مدارك المقدسيين، إن كان على صعيد تقبلهم للاحتلال، وخضوعهم له، أو على صعيد مواجهته في مختلف المحطات والهبات.
المؤسسات الأهلية في القدس، تحدي البقاء في وجه سياسات الاحتلال الإلغائية
تستهدف سلطات الاحتلال المؤسسات الأهلية في القدس، في سياق إفراغ المدينة من الجهات القادرة على إسناد المقدسيين، وتقديم الدعم لهم، ما يسمح لهم بالتحرر من قبضة الاحتلال ومؤسساته الصحية والتعليمية، لذلك عمل الاحتلال على إنهاء وجود المؤسسات الأهلية في القدس، عبر التضييق عليها، ومن ثم حظرها وإغلاقها، وقد أغلق الاحتلال عشرات المؤسسات الأهلية العاملة للقدس داخل المدينة وخارجها، وبحسب معطيات مقدسية أغلقت سلطات الاحتلال أكثر من 100 مؤسسة أهلية فلسطينية في القدس.
إلا أن هذه الهجمة العنيفة لم تفلح في إنهاء المؤسسات الأهلية بشكلٍ كامل، ففي عام 2020 ذكرت دراسة صادرة عن مركز "القدس لبحث السياسات" الإسرائيلي، أن الشطر الشرقي للقدس يتضمن نحو 300 مؤسسة أهلية، من بينها 244 مؤسسة تعمل في الميدان. وتتنوع اهتمامات هذه المؤسسات ما بين الرياضة والتعليم، والمجتمع، وشؤون المرأة، وغيرها. ومن المؤشرات المهمة التي أوردتها هذه الدراسة الإسرائيلية، أن 15% من التمويل الذي تتلقاه هذه المؤسسات يأتي من مصادر فلسطينية داخل الشطر الشرقي للقدس، ومن الضفة الغربية، في حين يبلغ حجم التمويل القادم من العالم العربي بما فيه الأردن نحو 10%. وتؤشر هذه المعطيات إلى أن البيئة الفلسطينية هي الرافعة الأبرز لهذه المؤسسات بعد الدعم الدولي.
المقاومة في القدس جذوة لا تنطفئ
تعدّ القدس المحتلة واحدةً من المساحات الرئيسية للعمل المقاوم، ومواجهة محاولات الاحتلال فرض سيطرته على المناطق الفلسطينية، وتشهد المدينة المحتلة العديد من العمليات النوعية، إضافةً إلى عشرات نقاط المواجهة في الكثير من أحياء المدينة المحتلة، وأظهرت معطيات التقرير السنوي حال القدس الصادر عن مؤسسة القدس الدولية تصاعد العمليات في القدس المحتلة خلال السنوات السابقة، بسبب الآتي:
- تصاعدت مخططات التهويد، من الاعتداء على المسجد الأقصى، ومحاولات الاحتلال فرض المكون اليهودي داخله، وصولاً إلى محاولات تهجير الأحياء الفلسطينية.
- حالة المواجهة الشاملة في مجمل المناطق الفلسطينية المحتلة، وهذا ما يشكل رافعة للعمل المقاوم، وفرصة لإشغال قوات الاحتلال في أكثر من موضع في وقتٍ واحد.
- انسداد الأفق السياسي، وتعاظم موجة التطبيع، بما يرسخ في أذهان الفلسطينيين أنه لا إمكانية لنيل الحقوق إلا بمقاومة الاحتلال وإفشال مخططاته عبر مواجهته بكل السبل.
وتشير المعطيات إلى تصاعدٍ نوعي في أعداد العمليات في عام 2022، ففي رصدٍ لعمليات المقاومة منذ بداية العام الجاري أصدره مركز المعلومات الفلسطيني "معطى"، أعلن أن الضفة الغربية والقدس المحتلتين شهدتا أكثر من 10 آلاف عمل مقاوم منذ بداية عام 2022، من بينها 639 عملية إطلاق نار، و33 عملية طعن ومحاولة طعن، وبحسب المركز أدت عمليات المقاومة إلى مقتل نحو 29 مستوطناً إسرائيلياً، من بينهم جنودٌ في جيش الاحتلال وشرطته، وهي الحصيلة الأعلى منذ سنواتٍ عدة.