هل تسطر مسيرة الأعلام 2023 حقبة جديدة في القدس؟
عبد الله معروف
كانت مسيرة الأعلام إحدى الصواعق التي فجرت معركة عام 2021 في الأراضي الفلسطينية، وكان الغضب لدى اليمين الإسرائيلي المتطرف واضحا بعد أن تسببت المعركة يومها في إفشال مسيرة الأعلام التي اعتادها المتطرفون سنويا. وعلى العكس تماما، اعتبر اليمين المتطرف عام 2022 أنه ثأر لهزيمته المدوية في العام المنصرم، واستعاد قوته نسبيا، حين تمكن من إتمام مسيرة الأعلام في القدس بالشكل الذي خطط له دون رد فعل من الفصائل الفلسطينية.
هذا ما فتح الباب للتساؤل حول مسيرة الأعلام هذا العام من حيث الشكل والمصير والأبعاد. فهي تقليد سنوي مرتبط بما يسمى “يوم القدس”، وهو عيد وطني إسرائيلي تم إقراره عام 1968 لإحياء اليوم الذي تمكنت فيه إسرائيل من احتلال شرقي القدس عام 1967، ويجري الاحتفال به بالتقويم العبري القمري، حيث يقع في تاريخ 28 من شهر “إيار” العبري، وسيصادف في هذا العام يوم الجمعة 19 مايو/أيار الجاري.
ترجع قصة مسيرة الأعلام إلى الذكرى السنوية الأولى للاحتلال الإسرائيلي لشرقي القدس عام 1967، حيث قام بعض أفراد اليمين المتطرف عام 1968 بمبادرةٍ فرديةٍ منهم بإجراء مسيرةٍ في شرقي القدس وهم يحملون الأعلام الإسرائيلية، بمناسبة مرور عام على احتلال شرقي القدس. وبدأ هذا التقليد منذ ذلك الوقت يتخذ طابع الاحتفال الوطني بما يسمى “توحيد شطري القدس”، وتأكيدا للسيادة الإسرائيلية على شرقي المدينة المقدسة. إلا أن هذا التقليد لم يخرج أبدا عن أتباع التيار اليمين القومي الإسرائيلي عموما ولم يشارك فيه اليسار على مدار 50 عاما، ولذلك فإنه يعتبر أحد محطات استعراض قوة اليمين السياسية في القدس التي تعتبرها إسرائيل عاصمتها.
ومع تطور أساليب عمل اليمين الإسرائيلي، فإن تيار أقصى اليمين الديني الذي تمثله “الصهيونية الدينية”، والذي ينتمي له ما يسمى اليوم “اتحاد منظمات المعبد” والقوى التابعة له والمتحالفة معه مثل منظمة “بأيدينا” ومنظمة “العودة إلى جبل المعبد” وغيرها من المنظمات اليمينية، استفاد من فكرة مسيرة الأعلام السنوية في “يوم القدس”، ليستنسخ منها فكرة “مسيرة الأبواب”، وهي تتعلق بالدرجة الأولى بالمسجد الأقصى المبارك الذي تطالب هذه الجماعات بتحويله إلى معبد. حيث ابتدعت هذه الجماعات عام 2003 فكرة المسيرة الشهرية حول أبواب المسجد الأقصى، وترتبط ببداية الشهور العبرية، بحيث يقوم أفراد هذه الجماعات بالسير في جماعات حول المسجد الأقصى المبارك وأمام بواباته في الليلة الأولى من كل شهر عبري مطالبين بإقامة المعبد على أنقاض الأقصى.
ولأن العيد الوطني المسمى “يوم القدس” يأتي سنويا متزامنا مع نهاية شهر “إيار” العبري وبداية شهر “سيفان”، فإن الأمور فيه تصل إلى ذروتها، حيث يجتمع آلاف المتطرفين رافعين الأعلام الإسرائيلية في مسيرة الأعلام السنوية، ومتجولين في شوارع القدس كافة، وصولا إلى باب العامود الذي يدخلون منه إلى قلب الحي الإسلامي في القدس مخترقين البلدة القديمة بمحاذاة السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك باتجاه منطقة حائط البراق حيث تنتهي هذه المسيرة هناك قبيل غروب الشمس. ثم تبدأ بعدها بيومين مسيرة الأبواب الشهرية حول بوابات المسجد الأقصى التي ينفذها أتباع جماعات المعبد التي تمثل أقصى اليمين الديني المتطرف.
إن الملاحَظ أن مسيرة الأعلام السنوية تعد أوسع وأشمل من حيث شكلها وأبعادها من مسيرة الأبواب الشهرية المرتبطة حصرا بالمسجد الأقصى المبارك وترتبط بجماعات المعبد المتطرفة فقط. حيث تتسع مسيرة الأعلام السنوية في “يوم القدس” لتشمل جميع أطياف اليمين الإسرائيلي الذي يشمل كلا من التيار اليميني القومي وتيار الصهيونية الدينية، وتشمل مدينة القدس عموما، وخاصة أحياءها العربية.
لكن يبدو أن تيار الصهيونية الدينية المتطرف الإسرائيلي الذي يتربع اليوم على عرش اثنتين من أهم الوزارات في الحكومة الإسرائيلية: وزارة المالية التي يرأسها بتسلئيل سموتريتش، ووزارة الأمن القومي التي يرأسها إيتمار بن غفير، قد قرر المضي قدما في استغلال مناصبه الحساسة في حكومة نتنياهو الحالية إلى أبعد حد، ليعلن لأول مرة في تاريخ الصراع نيته تحويل مسار مسيرة الأعلام هذا العام لتدخل المسجد الأقصى المبارك في سابقة هي الأولى من نوعها إن حدثت.
وللمفارقة، فإن “يوم القدس” يأتي هذا العام في يوم جمعة، وهو يوم لا تتم فيه أي اقتحامات للمسجد الأقصى في العادة، خوفا من الاصطدام بالغالبية الفلسطينية المسلمة في المسجد يوم الجمعة. ولكن هذا لم يثن هذه الجماعات عن هدفها بضم المسجد الأقصى إلى تقاليد مسيرة الأعلام السنوية، ولذلك فإنها أعلنت لجمهورها أنها ستحتفل بما يسمى “يوم القدس” قبل يوم واحد من موعده الرسمي، أي يوم الخميس 18 مايو/أيار، وأنها في هذا الصدد قررت أن تعمل على اقتحام المسجد الأقصى المبارك اقتحاما خاصا في فترة العصر من يوم الخميس (وهو موعد مسيرة الأعلام كل سنة)، على أن يدخل المتطرفون المسجد الأقصى من باب الأسباط، وليس من باب المغاربة الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال بالكامل، ويرفعوا الأعلام الإسرائيلية بكثافة داخل المسجد الأقصى المبارك. وهو المشهد الذي -إن حصل- سيقلب المعادلة تماما في مدينة القدس بل في المنطقة بالكامل.
وفي طلبها الذي قدمته إلى قيادة الشرطة الإسرائيلية للسماح لها بإقامة هذه المسيرة يوم الخميس القادم، سجلت جماعة “العودة إلى جبل المعبد” اعتقادها أن العدد المتوقع للمشاركين في هذه المسيرة داخل المسجد الأقصى سيكون 7500 شخصا، وهو أمر في منتهى الغرابة، ذلك أن جماعات المعبد المتطرفة لم تتمكن في أفضل وأقوى حالاتها من جمع أكثر من 2200 متطرف في اليوم نفسه، ويبدو أنها بذلك تعول على أتباع اليمين القومي الذين يشاركون بالآلاف كل عام في مسيرة الأعلام في القدس، وتعتبر أنه يمكن إقناع هؤلاء خلال المسيرة بتحويل اتجاه حركتهم هذا العام لتدخل المسجد الأقصى المبارك عصر الخميس وتحقق المشهد الذي تريده هذه الجماعات.
إن هذا الأمر لو تم بهذا الشكل فسيكون سابقة لها ما بعدها، ونجاح هذه العملية سيعني تمكن إسرائيل من فرض أجندتها بالكامل على المسجد الأقصى المبارك وإعلان سيادتها الكاملة عليه وربما طرد الأوقاف الإسلامية نهائيا من المسجد، أما فشل هذا المسعى فسيعزز قيمة الردع التي يمثلها المسجد الأقصى، وهو ما سيعطي الفلسطينيين المزيد من الوقت لتأخير وعرقلة المشروع الإسرائيلي في المسجد.
وربما تعي الفصائل الفلسطينية المشتبكة حاليا مع إسرائيل في غزة ما يجري وتفهمه. وما يدعو للاعتقاد بذلك هو ما تناقلته وسائل الإعلام حول وضع الفصائل الفلسطينية موضوع مسيرة الأعلام على طاولة التفاوض لوقف إطلاق النار في غزة، بل وإقدامها على إطلاق صاروخ سقط في مدينة القدس يوم الخميس الماضي، وهو إشارة ينبغي التقاطها وفهم مغزاها، لأنها تشير إلى أن الفصائل الفلسطينية استوعبت الدرسين عام 2021 وعام 2022.
ففي الأول نجحت الفصائل الفلسطينية بوضع القدس في مقدمة أجندتها، مما أدى إلى توحيد الساحات الفلسطينية كافة في معركة كان لها نتائج كبيرة على مستوى الردع في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية، وأما في العام التالي فكان عدم رد الفصائل على استفزازات المستوطنين واقتحامهم المسجد الأقصى صباح ما يسمى “يوم القدس” وتأدية الصلوات الجماعية علانية فيه، ثم تحرك مسيرة الأعلام بحرية تامة عند باب العامود مع نشر فيديوهات لبعض أفرادها يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم ويستفزون المقدسيين، دافعا للحكومة الإسرائيلية لتسريع عملية تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك، ورافعا كبيرا لآمال اليمين الإسرائيلي المتطرف تجاه تحقيق رؤيته للاستفراد بالمسجد الأقصى والعمل على فرض تقسيمه بين المسلمين واليهود، وهو ما يجري على قدم وساق منذ بداية هذا العام.
ولذلك فإنه يمكن القول إن مسيرة الأعلام واحتفالات ما يسمى “يوم القدس” مسألة لا تنفك بحال عن العدوان الإسرائيلي على غزة، ولا يمكن فصل الملفين عن بعضهما، خاصة أن إسرائيل كانت المبادرة هذه المرة، وهي التي أطلقت الصاروخ الأول وأعلنت بداية المعركة. ونظرة إلى طبيعة العلاقة المتوترة بين اليمين المتطرف ومكتب نتنياهو قبيل بدء الهجوم على غزة تعطي فكرة عن المدى الذي يمكن أن يصل إليه ابتزاز بن غفير وسموتريتش لنتنياهو ليتمكنا من تحقيق ما لم يستطع أحد تحقيقه في تاريخ الصراع في أقدس وأشد البقاع حساسية في المنطقة. ويبدو أن وحدة الساحات وترابطها أصبحت بالفعل أمرا واقعا فقط لم تتمكن إسرائيل من تفكيكها، وبالتالي فإن ما يجري في غزة ونتائجه سيجد صداه ليس في القدس فقط، بل في قلب المسجد الأقصى.
عبد الله معروف
كانت مسيرة الأعلام إحدى الصواعق التي فجرت معركة عام 2021 في الأراضي الفلسطينية، وكان الغضب لدى اليمين الإسرائيلي المتطرف واضحا بعد أن تسببت المعركة يومها في إفشال مسيرة الأعلام التي اعتادها المتطرفون سنويا. وعلى العكس تماما، اعتبر اليمين المتطرف عام 2022 أنه ثأر لهزيمته المدوية في العام المنصرم، واستعاد قوته نسبيا، حين تمكن من إتمام مسيرة الأعلام في القدس بالشكل الذي خطط له دون رد فعل من الفصائل الفلسطينية.
هذا ما فتح الباب للتساؤل حول مسيرة الأعلام هذا العام من حيث الشكل والمصير والأبعاد. فهي تقليد سنوي مرتبط بما يسمى “يوم القدس”، وهو عيد وطني إسرائيلي تم إقراره عام 1968 لإحياء اليوم الذي تمكنت فيه إسرائيل من احتلال شرقي القدس عام 1967، ويجري الاحتفال به بالتقويم العبري القمري، حيث يقع في تاريخ 28 من شهر “إيار” العبري، وسيصادف في هذا العام يوم الجمعة 19 مايو/أيار الجاري.
ترجع قصة مسيرة الأعلام إلى الذكرى السنوية الأولى للاحتلال الإسرائيلي لشرقي القدس عام 1967، حيث قام بعض أفراد اليمين المتطرف عام 1968 بمبادرةٍ فرديةٍ منهم بإجراء مسيرةٍ في شرقي القدس وهم يحملون الأعلام الإسرائيلية، بمناسبة مرور عام على احتلال شرقي القدس. وبدأ هذا التقليد منذ ذلك الوقت يتخذ طابع الاحتفال الوطني بما يسمى “توحيد شطري القدس”، وتأكيدا للسيادة الإسرائيلية على شرقي المدينة المقدسة. إلا أن هذا التقليد لم يخرج أبدا عن أتباع التيار اليمين القومي الإسرائيلي عموما ولم يشارك فيه اليسار على مدار 50 عاما، ولذلك فإنه يعتبر أحد محطات استعراض قوة اليمين السياسية في القدس التي تعتبرها إسرائيل عاصمتها.
ومع تطور أساليب عمل اليمين الإسرائيلي، فإن تيار أقصى اليمين الديني الذي تمثله “الصهيونية الدينية”، والذي ينتمي له ما يسمى اليوم “اتحاد منظمات المعبد” والقوى التابعة له والمتحالفة معه مثل منظمة “بأيدينا” ومنظمة “العودة إلى جبل المعبد” وغيرها من المنظمات اليمينية، استفاد من فكرة مسيرة الأعلام السنوية في “يوم القدس”، ليستنسخ منها فكرة “مسيرة الأبواب”، وهي تتعلق بالدرجة الأولى بالمسجد الأقصى المبارك الذي تطالب هذه الجماعات بتحويله إلى معبد. حيث ابتدعت هذه الجماعات عام 2003 فكرة المسيرة الشهرية حول أبواب المسجد الأقصى، وترتبط ببداية الشهور العبرية، بحيث يقوم أفراد هذه الجماعات بالسير في جماعات حول المسجد الأقصى المبارك وأمام بواباته في الليلة الأولى من كل شهر عبري مطالبين بإقامة المعبد على أنقاض الأقصى.
ولأن العيد الوطني المسمى “يوم القدس” يأتي سنويا متزامنا مع نهاية شهر “إيار” العبري وبداية شهر “سيفان”، فإن الأمور فيه تصل إلى ذروتها، حيث يجتمع آلاف المتطرفين رافعين الأعلام الإسرائيلية في مسيرة الأعلام السنوية، ومتجولين في شوارع القدس كافة، وصولا إلى باب العامود الذي يدخلون منه إلى قلب الحي الإسلامي في القدس مخترقين البلدة القديمة بمحاذاة السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك باتجاه منطقة حائط البراق حيث تنتهي هذه المسيرة هناك قبيل غروب الشمس. ثم تبدأ بعدها بيومين مسيرة الأبواب الشهرية حول بوابات المسجد الأقصى التي ينفذها أتباع جماعات المعبد التي تمثل أقصى اليمين الديني المتطرف.
إن الملاحَظ أن مسيرة الأعلام السنوية تعد أوسع وأشمل من حيث شكلها وأبعادها من مسيرة الأبواب الشهرية المرتبطة حصرا بالمسجد الأقصى المبارك وترتبط بجماعات المعبد المتطرفة فقط. حيث تتسع مسيرة الأعلام السنوية في “يوم القدس” لتشمل جميع أطياف اليمين الإسرائيلي الذي يشمل كلا من التيار اليميني القومي وتيار الصهيونية الدينية، وتشمل مدينة القدس عموما، وخاصة أحياءها العربية.
لكن يبدو أن تيار الصهيونية الدينية المتطرف الإسرائيلي الذي يتربع اليوم على عرش اثنتين من أهم الوزارات في الحكومة الإسرائيلية: وزارة المالية التي يرأسها بتسلئيل سموتريتش، ووزارة الأمن القومي التي يرأسها إيتمار بن غفير، قد قرر المضي قدما في استغلال مناصبه الحساسة في حكومة نتنياهو الحالية إلى أبعد حد، ليعلن لأول مرة في تاريخ الصراع نيته تحويل مسار مسيرة الأعلام هذا العام لتدخل المسجد الأقصى المبارك في سابقة هي الأولى من نوعها إن حدثت.
وللمفارقة، فإن “يوم القدس” يأتي هذا العام في يوم جمعة، وهو يوم لا تتم فيه أي اقتحامات للمسجد الأقصى في العادة، خوفا من الاصطدام بالغالبية الفلسطينية المسلمة في المسجد يوم الجمعة. ولكن هذا لم يثن هذه الجماعات عن هدفها بضم المسجد الأقصى إلى تقاليد مسيرة الأعلام السنوية، ولذلك فإنها أعلنت لجمهورها أنها ستحتفل بما يسمى “يوم القدس” قبل يوم واحد من موعده الرسمي، أي يوم الخميس 18 مايو/أيار، وأنها في هذا الصدد قررت أن تعمل على اقتحام المسجد الأقصى المبارك اقتحاما خاصا في فترة العصر من يوم الخميس (وهو موعد مسيرة الأعلام كل سنة)، على أن يدخل المتطرفون المسجد الأقصى من باب الأسباط، وليس من باب المغاربة الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال بالكامل، ويرفعوا الأعلام الإسرائيلية بكثافة داخل المسجد الأقصى المبارك. وهو المشهد الذي -إن حصل- سيقلب المعادلة تماما في مدينة القدس بل في المنطقة بالكامل.
وفي طلبها الذي قدمته إلى قيادة الشرطة الإسرائيلية للسماح لها بإقامة هذه المسيرة يوم الخميس القادم، سجلت جماعة “العودة إلى جبل المعبد” اعتقادها أن العدد المتوقع للمشاركين في هذه المسيرة داخل المسجد الأقصى سيكون 7500 شخصا، وهو أمر في منتهى الغرابة، ذلك أن جماعات المعبد المتطرفة لم تتمكن في أفضل وأقوى حالاتها من جمع أكثر من 2200 متطرف في اليوم نفسه، ويبدو أنها بذلك تعول على أتباع اليمين القومي الذين يشاركون بالآلاف كل عام في مسيرة الأعلام في القدس، وتعتبر أنه يمكن إقناع هؤلاء خلال المسيرة بتحويل اتجاه حركتهم هذا العام لتدخل المسجد الأقصى المبارك عصر الخميس وتحقق المشهد الذي تريده هذه الجماعات.
إن هذا الأمر لو تم بهذا الشكل فسيكون سابقة لها ما بعدها، ونجاح هذه العملية سيعني تمكن إسرائيل من فرض أجندتها بالكامل على المسجد الأقصى المبارك وإعلان سيادتها الكاملة عليه وربما طرد الأوقاف الإسلامية نهائيا من المسجد، أما فشل هذا المسعى فسيعزز قيمة الردع التي يمثلها المسجد الأقصى، وهو ما سيعطي الفلسطينيين المزيد من الوقت لتأخير وعرقلة المشروع الإسرائيلي في المسجد.
وربما تعي الفصائل الفلسطينية المشتبكة حاليا مع إسرائيل في غزة ما يجري وتفهمه. وما يدعو للاعتقاد بذلك هو ما تناقلته وسائل الإعلام حول وضع الفصائل الفلسطينية موضوع مسيرة الأعلام على طاولة التفاوض لوقف إطلاق النار في غزة، بل وإقدامها على إطلاق صاروخ سقط في مدينة القدس يوم الخميس الماضي، وهو إشارة ينبغي التقاطها وفهم مغزاها، لأنها تشير إلى أن الفصائل الفلسطينية استوعبت الدرسين عام 2021 وعام 2022.
ففي الأول نجحت الفصائل الفلسطينية بوضع القدس في مقدمة أجندتها، مما أدى إلى توحيد الساحات الفلسطينية كافة في معركة كان لها نتائج كبيرة على مستوى الردع في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية، وأما في العام التالي فكان عدم رد الفصائل على استفزازات المستوطنين واقتحامهم المسجد الأقصى صباح ما يسمى “يوم القدس” وتأدية الصلوات الجماعية علانية فيه، ثم تحرك مسيرة الأعلام بحرية تامة عند باب العامود مع نشر فيديوهات لبعض أفرادها يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم ويستفزون المقدسيين، دافعا للحكومة الإسرائيلية لتسريع عملية تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك، ورافعا كبيرا لآمال اليمين الإسرائيلي المتطرف تجاه تحقيق رؤيته للاستفراد بالمسجد الأقصى والعمل على فرض تقسيمه بين المسلمين واليهود، وهو ما يجري على قدم وساق منذ بداية هذا العام.
ولذلك فإنه يمكن القول إن مسيرة الأعلام واحتفالات ما يسمى “يوم القدس” مسألة لا تنفك بحال عن العدوان الإسرائيلي على غزة، ولا يمكن فصل الملفين عن بعضهما، خاصة أن إسرائيل كانت المبادرة هذه المرة، وهي التي أطلقت الصاروخ الأول وأعلنت بداية المعركة. ونظرة إلى طبيعة العلاقة المتوترة بين اليمين المتطرف ومكتب نتنياهو قبيل بدء الهجوم على غزة تعطي فكرة عن المدى الذي يمكن أن يصل إليه ابتزاز بن غفير وسموتريتش لنتنياهو ليتمكنا من تحقيق ما لم يستطع أحد تحقيقه في تاريخ الصراع في أقدس وأشد البقاع حساسية في المنطقة. ويبدو أن وحدة الساحات وترابطها أصبحت بالفعل أمرا واقعا فقط لم تتمكن إسرائيل من تفكيكها، وبالتالي فإن ما يجري في غزة ونتائجه سيجد صداه ليس في القدس فقط، بل في قلب المسجد الأقصى.