القدس المملوكية.. الآثار في النفوس والجغرافيا.. قراءة في رحلة حظيرة الأُنس إلى حضرة القدس
عبد الله مفلح
أُثِرَ عن صلاحِ الدين الأيوبيّ في مفاوضاتِه مع ريتشارد قلبِ الأسد قولُه: "وأمّا القدس فهو لنا كما هو لكم، وهو أعظم عندنا ممّا هو عندكم، فإنّه مسرى نبيِّنا، ومجتَمَع الناسِ يوم الحشر، فلا تتصوّروا أنّنا ننزل عنه"[1]. ولمّا فتحَ الله على يدَيْه، وكانتْ أوّلُ خطبةِ جمعةٍ، ألقاها قاضي قضاة الشافعيّة في حلب محيي الدين بن الزكيّ[2]، فحمد الله على فضلِه، وبيّنَ فضائلَ القدسِ، ودعا لمواصلةِ الجهاد، ولفاتِحِ المدينة المقدّسة، فلمّا جاء مَن خلَفَ صلاحَ الدين من الأيّوبيّين أدخلوا القدسَ في ضروراتِهم السياسيّة ومفاوضاتِهم مع الفرنج، حتّى وصل الأمرُ حدَّ التنازُلِ عنها والتفريط بها، والضعفِ عن حمايتها، بل إنّ المعظّم عيسى الأيوبي هدم ما بناه من تحصيناتٍ وأسوار حول القدس، حتّى لا تكون مركزًا قويًّا تنطلق منه الحملاتُ الصليبيّة إلى بقيّة المدنِ[3]، وجرى تقديمُ أمْنِ مصرَ وخطّها التجاريّ مع المدن الإيطاليّة على أمْن الأرض المقدّسة وعلى القدسِ. فلمّا استقرَّ الأمرُ للماليكِ بعد تغلُّبهم على الأيّوبيّين ظهر تغييرٌ سياسيٌّ في صورةِ القدس لم ينخَرِم طوال حكم المماليك الّذي استمرّ أكثر من 250 عامًا، ألا وهو: القدس لا يُساوَمُ عليها، فلم تعد مطمعًا ممكنَ المنالِ لأيّ عدوانٍ أوروبيٍّ أو مغوليّ.
قد يكون لهذا التغيير الكبير في صورة القدس أسبابُه من أنّ المماليك نجحوا في القضاء على الوجودِ الصليبيّ في البلاد المقدّسةِ وإن تأخَّرَ هذا حتّى عام 1291م على يد الأشرف خليل بن قلاوون حين طردهم من عكّا، إلّا أنّ الصليبيّن لم يحاولوا مدّ أبصارِهم نحو القدس؛ ربّما لضعفِهم في تلك الفترة عن مواجهة المماليك، الذين تعاظم نفوذهم وقوّتهم بعد ذلك، وبعد طردِهم المغولَ وتصدّيهم لهم في معركة عين جالوت.
لقد أوْلى المماليكُ المدينةَ المقدّسة اهتمامًا ملحوظًا، وعلى الرغم من أنّها لم تلعب دورًا كبيرًا في اعتباراتهم السياسيّة والعسكريّة، فإنّ أهميّتها بالنسبة لهم بوصفها مكانًا إسلاميًّا مقدَّسًا موثّقةٌ توثيقًا جيّدًا[4]. فأنت تجدُ حركةً عمرانيّةً ووقفيّةً كبيرةً هدفتْ إلى: تدريس الفقه وموضوعات الدراسة الإسلاميّة المتّصلة به، وإلى رعاية الحياة الصوفيّة، فقد أصبحتِ القدس بهذه المرافقِ العمرانيّة والوقفيّة مركزًا لدراسة الفقه والحديث، مع تصدُّرٍ للمذهب الشافعيّ، بعد جعل صلاح الدين الأيوبيُّ مدرستَه الصلاحيّة مركزًا لتدريس الفقه الشافعيّ، وهي التي أقامَها مكانَ كنيسة القدّيسة حنّة، إذ يمكن اعتبار المدرسة مقرَّ المذهبِ في مدينة القدس في عصري الأيّوبيّين والمملوكيّين من بعدهم[5]، وحسبَ روزين أيالون فإنّ اعتبار القدسِ مدينةَ منفىً يُرسَلُ إليها القادةُ المماليكُ غيرُ المرغوب فيهم، قد جعلها تشهد هذا النموّ من خلال انخراطهم الشخصيّ في شؤونها، وأنت تجدُ كثيرًا من معالمها العمرانيّة جاءت بمبادراتٍ شخصيّة، من القادةِ المنفيّين أو التجّارِ أو سيّداتِ المجتمع المشهورات، ولا ينفي هذا الاهتمامَ الرسميَّ المملوكيَّ، إذ سيتوضَّحُ شيءٌ منه في رحلة ابن نباتة المصريّ مع الوزير الأمينيّ إلى القدس، وقد جعلنا هذه المقالةَ رحلةً في الرحلة، ليظهرَ لنا فيها اهتمام المماليك الرسميّ بالحركة العمرانيّة والوقفيّة في فلسطين عامّة والقدس خاصّة.
الرحلة.. السباحة في الجغرافية
قالوا عن الرحلة بوصفها أدبًا فنيًا: إنّها "عينُ الجغرافيا المُبصِرة"[6] إذ تُعطيكَ الصورة الجغرافيّة المكانيّة الّتي احتوت مجتمعًا ما بكلّ ما فيه من تقاطعاتٍ سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة، فهي صورةٌ عن مؤثّرٍ مهمّ في المجتمع هو المكان، الّذي يُسهِمُ في صوغِ المجتمع بشيءٍ ممّا هو عليه، ولن تجد هذه الصورة الجغرافيّة بهذا الجلاء في غير أدبِ الرحلة، يقرِنُ المكانَ بأهلِه، فصاحبُ الرحلة يتغيّا الوصفَ، قصدًا، فإن لم يقصِدْه، ظهرَ رغمًا عنه، لأنّ الإنسان لا يتفلّتُ بسهولةٍ من حتميّة المكانِ، لأنّه مكوِّنٌ من مكوّنات هويّته الناشئة عن حِسِّ عَينِه، والإنسانُ ابن بيئتِه؛ تصلحُ المقولةُ في الاجتماع ولا تنتفي عند الجغرافيا، بما تُؤثّر في ساكِنها والمنتمي إليها.
من هنا، يمكن أن نضعَ أدب الرحلة في السياقِ الذين نريدُه: معرفيًّا، دينيًّا، عاطفيًّا، تحرّريًّا، أو ذلك كلّه، يجتمع في مدينة مثل القدس، كتبوا عنها، ودوّنوا رحلاتهم إليها، أكانوا من أهلها أو غير أهلها، وكلّهم يتمنّاها مدينته، ويراها في حدودِه الّتي إذا دخَلَتْها اتّسعَتْ فوق ما يُمنّي.
وإذا عددنا أدب الرحلة بأنّه: "النثر الأدبيّ الّذي يتّخذ من الرحلة موضوعًا"[7] فإنّ أدبيّته كامنةٌ في لغته التعبيريّة، وفي ما يُقدّمه من تعلُّقاتٍ بتاريخ الأدب المتّسعةِ مذاهبُه باتّساع غاياتنا منه. ونحن هنا نصرف أذهاننا عن محاولاتِ إدخالِ أدب الرحلة في نزاعاتِ الأسبقيّة في مضمارِ القصّة ونسبته إليها، إذ لا أراه يقف على أرضيّة ثابتة من الرأيّ في هذه النسبة، وهو تشنُّجٌ في النظرِ إلى التراث الّذي لا يُمانِعُ أنْ تكونَ القصّةُ بما هي عليه اليومَ من أصول البناء الفنّيّ القصصيّ مُنجَزًا لغيرِنا استفدنا منه أو استفاد منّا، وعليه فأدب الرحلة لا يقتربُ ولا يطّرِدُ في نماذجه مع ما ادّعاه الذين صنّفوه ضمن القصّة، بل إنّ المقامات -الهمذانيّ هنا لأسبقيّته- في بنائها القصصيّ أقربُ نسبةً إلى القصّة من أدب الرحلة، ومع ذلك فلا يُسلَّم بجعلِ المقامةِ قصّةً بما هي عليه في أيّامنا هذه.
القدس.. مدادٌ وصحائف
أمّا القدسُ فكثُرتِ التأليفاتُ فيها وعنها، بدءًا بكتب الفضائل الّتي تبيّن فضلَها وتدعو إلى الدفاع عنها وزيارتها من باب القدسيّة المكانيّة الّتي شرّفها اللهُ بها، وليس انتهاءً بكتبِ التاريخ الّتي تُبيِّنُ الحضاراتِ المتعاقبةَ عليها، وإنجازاتِ كلّ حضارةٍ، بل وتمايُزَ فتراتِ الحضارةِ نفسِها في هذه المدينة بما أحدثتْه من منجزاتٍ وتغييرات. ويظلّ الدّين أبدًا بوّابة الدخول لهذه المدينة، ويظلُّ يأمُلُ المُتقرِّبُ من القدسِ أن يُعطَى شرعيّةً سياسيّةً أو دينيّةً أو كلتيهما معًا بأن نزلتْ القدسُ في حكمِه، فهي تجذبُ الرحّالة بمختلفِ دياناتهم، وكلٌّ يرى فيها هواه.
ويمكن، للاستزادة في أدب الرحلات إلى القدس، النظرُ إلى عمل الباحث المصريّ عرفة علي في كتابه (القدس العتيقة مدينة التاريخ والمقدّسات) إذ اختار ثلاث رحلاتٍ إلى القدس: رحلة بتاحيا الراتسبونيّ، ورحلة الحاجّ الروسيّ دانيال الراهب، ورحلة ناصر خسرو، والرحّالةُ هؤلاء موزّعون بين الدياناتِ الثلاثة.
رحلة "حظيرة الأُنْسِ إلى حضرةِ القُدْس": بداية الأُنْسِ
يومَ الأحد من عام 2021م، قُبَيْلَ اقتحام الـ28 من رمضان، في عامِ سيفِ القدس، زرتُ مكتبةَ المسجد الأقصى، المكتبة الختنيّة، الّتي تقعُ بين المسجدِ القبليّ ومئذنة المغاربة، نظرتُ في كتب الرّحلاتِ إلى فلسطين والقدس، فوجدتُ كتابًا لابن نباتة المصريّ (ت: 768هـ) عنوانُه: "رحلة حظيرة الأنس إلى حضرة القدس"، فدفعني صغرُ حجمه إلى قراءته في جلسة واحدة، فأحببتُ أنْ أُلخِّصَ الكتابَ تلخيصًا سريعًا في أقلّ من صفحة، فكتبتُ تلخيصَه على ورقةٍ يتيمة، وحين انتهيْتُ وضعتُها داخلَ كتابٍ اشتريتُه من سوق القطانين، ووضعْتُ الكتابَ داخلَ سجّادة الصلاة، ثمّ بُعيْدَ الفجرِ، جهّز النّاسُ أنفسَهم للاقتحام، فجعلتُ السّجّادة بما فيها داخل نافذةٍ يتيمةٍ في مدخل الأقصى القديم على أمل أن أعود بعد انتهاء الأحداث لأخذها، غيرَ أنّي أُخْرِجْتُ وبقيتْ سجّادة الصّلاة وما فيها هناك، ومنذ ذلك اليوم، وبيني وهذا الكتاب شيء خفيٌّ في نفسي، وأُقدِمُ ثمّ أحجِمُ عن الكتابة عنه.
كان الكتابُ جميلًا، يُبينُ حبَّ النّاسِ للقدس من قديم، ويُظهِرُ بلا رَيبٍ الاهتمام العمرانيّ المملوكيّ بالقدسِ، وارتباطَهم بها، ويُظهِرُ إسهامات الوزير الأمينيّ، عبد الله بن تاج الرئاسة، في مجالات الأوقاف والتجديد العمرانيّ في الشّام ومصر، وكذلك دورَه في بناء المدارس والزّوايا والمقاماتِ وتجديدها، وفيه غاياتٌ أدبيّة من حُسْن الإنشاء.
أمّا ابن نباتة المصريّ، صاحبُ الرحلةِ والكتاب، فهو: أبو بكر محمّد بن الحسن بن نباتة المصريّ، المولود في القاهرة، سنة 686هـ، اتّصل ابنُ نباتة في تعلُّمِه بابن دقيق العيد، وبهاء الدين بن النحّاس، النحويّ المعروف، وقيس بن سلطان الضرير[8]، كان أديبًا ذا مؤلَّفاتٍ شعريّة كثيرة، ونثريّة منها: سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون، ومجمع الفرائد، ورسالة المفاخرةِ بين السيف والقلم، وله كتابُنا هذا الّذي نكتب عنه: حظيرة الأنس في حضرة القدس، الّذي كتبه خلال رحلته عام 735هـ.
اتّصلَ ابنُ نباتةَ بنفر من الوجهاء ورجال الدولة يمدحهم، منهم: الوزير أمين الدين عبد اللّه بن تاج الرئاسة الصاحبيّ؛ الّذي اصطحب ابنَ نباتةَ إلى القدس في هذه الرحلةِ سنة 735ه، ثمّ جعله ناظرًا على كنيسة القيامة[9]، يزور القدس، كلَّ عامٍ، ليجمع "متحصّل كنيسة القيامة" من الزوّار. كان الوزيرُ أمين الدين عبد الله بن تاج الرئاسة وزير الدولةِ المملوكيّة، وهي رُتبةٌ يوحِي اسمُها بعلوِّها، غيرَ أنّها شهدتْ زمنَ المماليكِ تراجعًا في الصلاحيّاتِ والتأثير، فاستحداثُ وظيفة نيابةِ السلطانِ حجّمَ وقيّدَ صلاحيّات الوزيرِ وجعلَه "كناظرِ المال لا يتعدّى الحديثَ فيه، ولا يتّسِعُ له التصرُّفُ في مجالٍ، ولا تمتدُّ يدُه في الولاية والعزل؛ لتطلُّع السلطانِ إلى الإحاطةِ بجزيئات الأحوال"[10] فأنت تجدُ أن الوزير تكاد تنحصرُ وظيفتُه في البحثِ في الأمور الماليّة، لذلك ظلّتْ تتضاءلُ هذه الوظيفة ويترفّع عنها الأمراء حتّى أُلغِيَتْ سنة 730هـ/ 1329م في عهد الناصر محمّد بن قلاوون، ويقول عنها ابن خلدون: "فصارتْ مرؤوسةً ناقصة، فاستنكفَ أهل هذه الرتبة العالية في الدولة عن اسم الوزارة، وصار صاحب الأحكامِ والنظر بالجند يُسمّى عندهم بالنائب لهذا العهد، وبقي اسم الحاجبِ في مدلوله، واختصّ اسم الوزير عندهم بالنظر بالجباية"[11]
وإنّما سُمّي الوزيرُ بالصاحبيّ؛ لأنّ الوزارة إذا تسلَّمها واحدٌ من أرباب القلمِ سُمّيَ بالصاحب، وإذا تسلّمها واحد من أرباب السيف اكتُفِيَ بلقبِ الوزير.[12] وقد جاءتْ هذه الرحلة إلى القدس حين كان أمين الدين الصاحبيّ ناظرًا في دمشقَ، وقد كان أمين الدولةِ قبطيًّا فأسلمَ.
ومن عجيبِ تأليف الكتاب أنّ الدّاعي له نيّةُ الوزير الأمينيّ التّخفيف والتّسليةَ عن ابن نباتة لوفاة ابنه عبد الرّحيم، إذ حزِنَ عليه حتّى طال حزنُه، فأمرَه بمصاحبته، وأن يصِفَ له منازلَ الرحلة وطرقها، وانظرْ إلى رقّة لغته الّتي لا تخلو من ضرورات الإنشاء من بديعيّاتٍ متنوّعة من سجع ومقابلة وتوريةٍ وغير ذلك من طرائق نثر ذلك الزمنِ، حين عبّرَ عن ذلك: "وكان له في اصطحابي مقصد -تقبَّل الله عملَه الصالح ومتجره الرابح- وذلك أنّي كنتُ لابسًا ثيابَ الحزنِ على ولدي، مقيمًا بين المقابر إقامةً تفتَّ حبّة قلبي على قطعة من كبدي، ساقيًا روض الحزن بغمائم الجفون، باكيًا على دنيا وجْهٍ عاجلَتْه الأيّام بصرف المنون، ..، وأمرني أن أصِفَ له المنازلَ والطرق"[13]
فأوّل منطلَقِ الرحلةِ من دمشق، وزمانُه أوّلُ الربيع سنة 735هـ، يقول: "فلمّا عزمَ بدمشقَ المحروسة سنة خمس وثلاثين على زيارة القدس الشريف، ..، والأرض قد شرعت في لباس حَلْيها وحُلَلها، ومراعي الربيع قد وعدتْ من الشمس بتسمين حَمْلِها"[14]، ثمّ ساروا جنوبًا إلى الكسوة، الّتي تعدّ أوّل منزلٍ تنزلِ به القوافلُ الخارجة من دمشقَ نحو مصرَ[15]، ثمّ وصلوا الصنمين، أوائلَ حوارانَ، فنزلوا عند رأس الماءِ ثمّ الحصين[16]، فنزلوا عجلون ونصبوا خيامَهم تحت قلعتها المشهورة، ثمّ سلكوا الغورَ حتّى وصلوا مَشْهَد أبي عبيدة عامر بن الجرّاح ومقامَه الّذي يتبع اليوم محافظة البلقاء الأردنيّة، في البلدةِ الّتي تحمل اسمه، حتّى وصلوا القدس بمعيّة الغمام، وزاروا باب الرّحمةِ، والصخرةَ المشرّفةَ، وبكوا في حضرةِ الشوقِ المقدّس. ويذكر ابنُ نباتةَ ما يُبيِّنُ الاعتناء المملوكيّ بالقدس: "ونظرْنا آثارًا قديمةً تُذهِلُ عيون النظّارة، وآثارًا متجدّدةً في هذه الدولة القاهرة تقصُر عنها العبارة، ومحاسنَ يقف في طريق الزيارة متأمّلُها، ..، فمنها ما هو مخصوص بالحرم الشريف نستلم كالحجّاج أركانه، ونقلِّبُ وجوهَنا في سماء سقفٍ يكاد يمطر علينا لُجَينُه وعِقيانُه، ونشاهد رخامًا بلغ في الحسن والمحلّ الأقصى."[17]
ويذكر زيارتهم للأروقة، ومصادفتهم للحياة الصوفيّة الّتي كان يُعتَنى بطرقِها وأبنيتها وحلقاتِ الذكر والعلمِ فيها، إذ يقول: "ثمّ تُلِيَتِ الختمات الّتي شرّف الله تعالى ذكرها ومواعيد التفاسير والرقائق الّتي أجرَتِ الأوقاف الصّاحبيّة أجرَها" ويذكرُ حسناتِ الوزير الأمينيّ من عطاياه للفقراء، وتوزيع الأثوابِ.
يظهرُ في رحلة ابن نباتة أنّ بناء الرواقِ عند المدرسة الأمينيّة جرى حينها، بل إنّ المدرسة الأمينيّة كانتْ ممّا بناه الأمين الصاحبيّ، عام 730هـ، كانت تُدعى بدار الإمام؛ لسُكْنى الشيخِ الإمام فيها، يحدّ المدرسةَ شرقًا الطريقُ الداخل إلى باب الملك فيصل، وشمالًا طريقُ المجاهدين، وغربًا المدرسةُ الفارسيّة، وجنوبًا ساحةُ المسجد الأقصى، وللمدرسة المطلّة على ساحات الأقصى بابٌ وغرفٌ فوق رواق الأقصى الشماليّ، وهي ذات طوابق أربعة، الأوّل منها بمستوى الرواق الشماليّ، وفيه قبر ضياء الدين الهكاريّ[18].
المدرسة الأمينية
بعد سبعة أيّام في القدس اتّجهوا نحو الخليل، ومرّوا بالمقامِ الّذي يُزَعمُ أنّ فيه قبر سيّدنا يونس عليه السلام في حلحول شماليّ الخليل، واتّجهوا إلى مقام النبيّ إبراهيم عليه السلام، وأكلوا العدس هناك، وكذلك تُليَت الختمات ووُزِّعت الهبات. ويُلحَظُ هنا أنّ الارتباطَ بين المسجد الأقصى في القدس والمسجد الإبراهيميّ في الخليل كان حاضرًا في الدولة المملوكيّة، إذ إنّ وظيفة ناظرِ الحرميْنِ الشريفيْن (الأقصى والإبراهيمي) كانت تُعطَى في الغالب للشخصِ ذاته، ينظرُ في شؤونهما وأوقافهما واحتياجاتهما.
ومن الخليل اتّجهت الرحلة نحو الرملة، وكان الجامع الأبيض قد خرب وتهدَّمَ، فأمر الوزير الأمينيّ بعمارته، وبناء ما اندثر منه، يقول ابن نباتة: "وبنى من المكرمات ما ثبت، ولولا إبداع سعادته ما ثبت البناء فوق الرملة".
ومن الرملة اتّجهوا لزيارة مشهد يحيى وزكريّا عليهما السلام، والّذي يتّضح لي: أنّ المشهد المقصود الّذي يُنسَبُ إليهما يقع في سبسطية، وذكر كذلك زيارته لقبر بنيامين أخي يوسف عليه السلام، وقبر يوسف نفسه، ولستُ أدري موقعهما. ثمّ توجّهوا نحو بيسان في طريق العودةِ، وزاروا مشهد معاذ بن جبل رضي الله عنه، وأمر الصاحبي بتجديد عمارته، وبناء مطهرة له، ثم عادوا الطريق ذاتها التي سلكوها أوّل الرحلة حتّى دمشق.
وكتاب الرحلة غير متوفّرٍ على الشبكة العنكبوتيّة، غير أنّي وجدتُه في المكتبة الختنيّة في القدس، وفي مكتبة بلديّة البيرة، وفي مكتبة بلديّة رام الله، وقد صدرَ عن مؤسّسة إحياء التراث الإسلاميّ، لمؤلّفه الّذي كان يشغل مدير مؤسّسة إحياء التراث الإسلاميّ حمد أحمد عبد الله يوسف.
وربّما صرفتْ جزالةُ لغة الرحلةِ وكثرة بديعِها مريدي التاريخ والوصفِ عن الاستفادةِ منها، وأخملَتْ ذكرِها، غيرَ أنّك تخرجُ منها باستنتاجاتٍ وأوصافٍ عامّة كثيرةٍ، تقودُ الباحث والمتتبّع إلى تكوين خلاصاتٍ واستنتاجاتٍ خاصّة حول تلك الفترة المملوكيّة فيما يتعلّق بطرق السير والحياة المعماريّة، وغير ذلك، مع لَحْظِ أنّ هذه اللغة التي كُتِبَتْ بها الرحلة لم تكن متكلَّفةً في ذلك العصرِ؛ بل هي من عاداتِ الإنشاء والكتابة التي جرى السير بها على نهجٍ معيّن في الكتابة والمراسلات، وحتّى التأريخ.
[1] النوادر السلطانيّة والمحاسن اليوسفيّة، ابن شدّاد
[2] القدس في التاريخ، تحرير: كامل العسيلي، منشورات الجامعة الأردنية، 1992، ص205
[3] ينقل نور مصالحة في كتابه: (فلسطين: أربعة آلاف عام من التاريخ) عن راندال روجرز أنّ الصليبيّين كانوا مقاتلين مرهوبي الجانب في حصار الحصون والقلاع، وأنّ الأيّوبيّين أغرقوا ركام بعض أسوار وحاميات المدن الساحليّة بالمياه؛ لمنع أيّ رسوٍّ مُحتَمَلٍ في مرافئ هذه المدن، كغزّة، وصور.
[4] القدس في التاريخ، تحرير: كامل العسيلي، منشورات الجامعة الأردنية، 1992، ص216
[5] القدس في التاريخ، تحرير: كامل العسيلي، منشورات الجامعة الأردنية، 1992، ص208
[6] القدس العتيقة مدينة التاريخ والمقدّسات، عرفة علي، الهيئة العامّة لقصور الثقافة، القاهرة، 2007، ط1، ص89
[7] مشوار كتب الرحلة قديمًا وحديثًا، سيّد حامد النساج، مكتبة غريب، ص5
[8] تاريخ الأدب العربيّ، عمر فرّوخ، ج3، ص794
[9] كان أتباع الفرق النصرانية يختلفون في النظارة والإشراف على كنيسة القيامة في القدس، لذلك جعلت النظارة عليها منذ أمد طويل جدًّا لنفر من المسلمين.
[10] القلقشنديّ، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، عالم الكتب، القاهرة، ج4، ص28
[11] مقدّمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، ج1، ص298
[12] حسن إبراهيم، دراسات في تاريخ المماليك البحريّة، مكتبة النهضة المصريّة، مصر، ط1، 1948، ص225
[13] ثمرات الأوراق، ابن حجّة الحمويّ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ص238
[14] المرجع السابق نفسه، ص239
[15] معجم البلدان، ياقوت الحمويّ، دار صادر، بيروت، ط8، ج4، ص461
[16] ربّما هي البلدة الأردنيّة التابعة لمحافظة إربد في الجنوب الشرقيّ منها، والمتأمّل لخطّ سيرِ الرحلة يجدُ أنّ مرورَهم فيها شديدُ الورود، والله أعلم.
[17] ثمرات الأوراق، ابن حجّة الحمويّ، ص241
[18] من قادة صلاح الدين الأيّوبيّ ومستشاريه
عبد الله مفلح
أُثِرَ عن صلاحِ الدين الأيوبيّ في مفاوضاتِه مع ريتشارد قلبِ الأسد قولُه: "وأمّا القدس فهو لنا كما هو لكم، وهو أعظم عندنا ممّا هو عندكم، فإنّه مسرى نبيِّنا، ومجتَمَع الناسِ يوم الحشر، فلا تتصوّروا أنّنا ننزل عنه"[1]. ولمّا فتحَ الله على يدَيْه، وكانتْ أوّلُ خطبةِ جمعةٍ، ألقاها قاضي قضاة الشافعيّة في حلب محيي الدين بن الزكيّ[2]، فحمد الله على فضلِه، وبيّنَ فضائلَ القدسِ، ودعا لمواصلةِ الجهاد، ولفاتِحِ المدينة المقدّسة، فلمّا جاء مَن خلَفَ صلاحَ الدين من الأيّوبيّين أدخلوا القدسَ في ضروراتِهم السياسيّة ومفاوضاتِهم مع الفرنج، حتّى وصل الأمرُ حدَّ التنازُلِ عنها والتفريط بها، والضعفِ عن حمايتها، بل إنّ المعظّم عيسى الأيوبي هدم ما بناه من تحصيناتٍ وأسوار حول القدس، حتّى لا تكون مركزًا قويًّا تنطلق منه الحملاتُ الصليبيّة إلى بقيّة المدنِ[3]، وجرى تقديمُ أمْنِ مصرَ وخطّها التجاريّ مع المدن الإيطاليّة على أمْن الأرض المقدّسة وعلى القدسِ. فلمّا استقرَّ الأمرُ للماليكِ بعد تغلُّبهم على الأيّوبيّين ظهر تغييرٌ سياسيٌّ في صورةِ القدس لم ينخَرِم طوال حكم المماليك الّذي استمرّ أكثر من 250 عامًا، ألا وهو: القدس لا يُساوَمُ عليها، فلم تعد مطمعًا ممكنَ المنالِ لأيّ عدوانٍ أوروبيٍّ أو مغوليّ.
قد يكون لهذا التغيير الكبير في صورة القدس أسبابُه من أنّ المماليك نجحوا في القضاء على الوجودِ الصليبيّ في البلاد المقدّسةِ وإن تأخَّرَ هذا حتّى عام 1291م على يد الأشرف خليل بن قلاوون حين طردهم من عكّا، إلّا أنّ الصليبيّن لم يحاولوا مدّ أبصارِهم نحو القدس؛ ربّما لضعفِهم في تلك الفترة عن مواجهة المماليك، الذين تعاظم نفوذهم وقوّتهم بعد ذلك، وبعد طردِهم المغولَ وتصدّيهم لهم في معركة عين جالوت.
لقد أوْلى المماليكُ المدينةَ المقدّسة اهتمامًا ملحوظًا، وعلى الرغم من أنّها لم تلعب دورًا كبيرًا في اعتباراتهم السياسيّة والعسكريّة، فإنّ أهميّتها بالنسبة لهم بوصفها مكانًا إسلاميًّا مقدَّسًا موثّقةٌ توثيقًا جيّدًا[4]. فأنت تجدُ حركةً عمرانيّةً ووقفيّةً كبيرةً هدفتْ إلى: تدريس الفقه وموضوعات الدراسة الإسلاميّة المتّصلة به، وإلى رعاية الحياة الصوفيّة، فقد أصبحتِ القدس بهذه المرافقِ العمرانيّة والوقفيّة مركزًا لدراسة الفقه والحديث، مع تصدُّرٍ للمذهب الشافعيّ، بعد جعل صلاح الدين الأيوبيُّ مدرستَه الصلاحيّة مركزًا لتدريس الفقه الشافعيّ، وهي التي أقامَها مكانَ كنيسة القدّيسة حنّة، إذ يمكن اعتبار المدرسة مقرَّ المذهبِ في مدينة القدس في عصري الأيّوبيّين والمملوكيّين من بعدهم[5]، وحسبَ روزين أيالون فإنّ اعتبار القدسِ مدينةَ منفىً يُرسَلُ إليها القادةُ المماليكُ غيرُ المرغوب فيهم، قد جعلها تشهد هذا النموّ من خلال انخراطهم الشخصيّ في شؤونها، وأنت تجدُ كثيرًا من معالمها العمرانيّة جاءت بمبادراتٍ شخصيّة، من القادةِ المنفيّين أو التجّارِ أو سيّداتِ المجتمع المشهورات، ولا ينفي هذا الاهتمامَ الرسميَّ المملوكيَّ، إذ سيتوضَّحُ شيءٌ منه في رحلة ابن نباتة المصريّ مع الوزير الأمينيّ إلى القدس، وقد جعلنا هذه المقالةَ رحلةً في الرحلة، ليظهرَ لنا فيها اهتمام المماليك الرسميّ بالحركة العمرانيّة والوقفيّة في فلسطين عامّة والقدس خاصّة.
الرحلة.. السباحة في الجغرافية
قالوا عن الرحلة بوصفها أدبًا فنيًا: إنّها "عينُ الجغرافيا المُبصِرة"[6] إذ تُعطيكَ الصورة الجغرافيّة المكانيّة الّتي احتوت مجتمعًا ما بكلّ ما فيه من تقاطعاتٍ سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة، فهي صورةٌ عن مؤثّرٍ مهمّ في المجتمع هو المكان، الّذي يُسهِمُ في صوغِ المجتمع بشيءٍ ممّا هو عليه، ولن تجد هذه الصورة الجغرافيّة بهذا الجلاء في غير أدبِ الرحلة، يقرِنُ المكانَ بأهلِه، فصاحبُ الرحلة يتغيّا الوصفَ، قصدًا، فإن لم يقصِدْه، ظهرَ رغمًا عنه، لأنّ الإنسان لا يتفلّتُ بسهولةٍ من حتميّة المكانِ، لأنّه مكوِّنٌ من مكوّنات هويّته الناشئة عن حِسِّ عَينِه، والإنسانُ ابن بيئتِه؛ تصلحُ المقولةُ في الاجتماع ولا تنتفي عند الجغرافيا، بما تُؤثّر في ساكِنها والمنتمي إليها.
من هنا، يمكن أن نضعَ أدب الرحلة في السياقِ الذين نريدُه: معرفيًّا، دينيًّا، عاطفيًّا، تحرّريًّا، أو ذلك كلّه، يجتمع في مدينة مثل القدس، كتبوا عنها، ودوّنوا رحلاتهم إليها، أكانوا من أهلها أو غير أهلها، وكلّهم يتمنّاها مدينته، ويراها في حدودِه الّتي إذا دخَلَتْها اتّسعَتْ فوق ما يُمنّي.
وإذا عددنا أدب الرحلة بأنّه: "النثر الأدبيّ الّذي يتّخذ من الرحلة موضوعًا"[7] فإنّ أدبيّته كامنةٌ في لغته التعبيريّة، وفي ما يُقدّمه من تعلُّقاتٍ بتاريخ الأدب المتّسعةِ مذاهبُه باتّساع غاياتنا منه. ونحن هنا نصرف أذهاننا عن محاولاتِ إدخالِ أدب الرحلة في نزاعاتِ الأسبقيّة في مضمارِ القصّة ونسبته إليها، إذ لا أراه يقف على أرضيّة ثابتة من الرأيّ في هذه النسبة، وهو تشنُّجٌ في النظرِ إلى التراث الّذي لا يُمانِعُ أنْ تكونَ القصّةُ بما هي عليه اليومَ من أصول البناء الفنّيّ القصصيّ مُنجَزًا لغيرِنا استفدنا منه أو استفاد منّا، وعليه فأدب الرحلة لا يقتربُ ولا يطّرِدُ في نماذجه مع ما ادّعاه الذين صنّفوه ضمن القصّة، بل إنّ المقامات -الهمذانيّ هنا لأسبقيّته- في بنائها القصصيّ أقربُ نسبةً إلى القصّة من أدب الرحلة، ومع ذلك فلا يُسلَّم بجعلِ المقامةِ قصّةً بما هي عليه في أيّامنا هذه.
القدس.. مدادٌ وصحائف
أمّا القدسُ فكثُرتِ التأليفاتُ فيها وعنها، بدءًا بكتب الفضائل الّتي تبيّن فضلَها وتدعو إلى الدفاع عنها وزيارتها من باب القدسيّة المكانيّة الّتي شرّفها اللهُ بها، وليس انتهاءً بكتبِ التاريخ الّتي تُبيِّنُ الحضاراتِ المتعاقبةَ عليها، وإنجازاتِ كلّ حضارةٍ، بل وتمايُزَ فتراتِ الحضارةِ نفسِها في هذه المدينة بما أحدثتْه من منجزاتٍ وتغييرات. ويظلّ الدّين أبدًا بوّابة الدخول لهذه المدينة، ويظلُّ يأمُلُ المُتقرِّبُ من القدسِ أن يُعطَى شرعيّةً سياسيّةً أو دينيّةً أو كلتيهما معًا بأن نزلتْ القدسُ في حكمِه، فهي تجذبُ الرحّالة بمختلفِ دياناتهم، وكلٌّ يرى فيها هواه.
ويمكن، للاستزادة في أدب الرحلات إلى القدس، النظرُ إلى عمل الباحث المصريّ عرفة علي في كتابه (القدس العتيقة مدينة التاريخ والمقدّسات) إذ اختار ثلاث رحلاتٍ إلى القدس: رحلة بتاحيا الراتسبونيّ، ورحلة الحاجّ الروسيّ دانيال الراهب، ورحلة ناصر خسرو، والرحّالةُ هؤلاء موزّعون بين الدياناتِ الثلاثة.
رحلة "حظيرة الأُنْسِ إلى حضرةِ القُدْس": بداية الأُنْسِ
يومَ الأحد من عام 2021م، قُبَيْلَ اقتحام الـ28 من رمضان، في عامِ سيفِ القدس، زرتُ مكتبةَ المسجد الأقصى، المكتبة الختنيّة، الّتي تقعُ بين المسجدِ القبليّ ومئذنة المغاربة، نظرتُ في كتب الرّحلاتِ إلى فلسطين والقدس، فوجدتُ كتابًا لابن نباتة المصريّ (ت: 768هـ) عنوانُه: "رحلة حظيرة الأنس إلى حضرة القدس"، فدفعني صغرُ حجمه إلى قراءته في جلسة واحدة، فأحببتُ أنْ أُلخِّصَ الكتابَ تلخيصًا سريعًا في أقلّ من صفحة، فكتبتُ تلخيصَه على ورقةٍ يتيمة، وحين انتهيْتُ وضعتُها داخلَ كتابٍ اشتريتُه من سوق القطانين، ووضعْتُ الكتابَ داخلَ سجّادة الصلاة، ثمّ بُعيْدَ الفجرِ، جهّز النّاسُ أنفسَهم للاقتحام، فجعلتُ السّجّادة بما فيها داخل نافذةٍ يتيمةٍ في مدخل الأقصى القديم على أمل أن أعود بعد انتهاء الأحداث لأخذها، غيرَ أنّي أُخْرِجْتُ وبقيتْ سجّادة الصّلاة وما فيها هناك، ومنذ ذلك اليوم، وبيني وهذا الكتاب شيء خفيٌّ في نفسي، وأُقدِمُ ثمّ أحجِمُ عن الكتابة عنه.
كان الكتابُ جميلًا، يُبينُ حبَّ النّاسِ للقدس من قديم، ويُظهِرُ بلا رَيبٍ الاهتمام العمرانيّ المملوكيّ بالقدسِ، وارتباطَهم بها، ويُظهِرُ إسهامات الوزير الأمينيّ، عبد الله بن تاج الرئاسة، في مجالات الأوقاف والتجديد العمرانيّ في الشّام ومصر، وكذلك دورَه في بناء المدارس والزّوايا والمقاماتِ وتجديدها، وفيه غاياتٌ أدبيّة من حُسْن الإنشاء.
أمّا ابن نباتة المصريّ، صاحبُ الرحلةِ والكتاب، فهو: أبو بكر محمّد بن الحسن بن نباتة المصريّ، المولود في القاهرة، سنة 686هـ، اتّصل ابنُ نباتة في تعلُّمِه بابن دقيق العيد، وبهاء الدين بن النحّاس، النحويّ المعروف، وقيس بن سلطان الضرير[8]، كان أديبًا ذا مؤلَّفاتٍ شعريّة كثيرة، ونثريّة منها: سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون، ومجمع الفرائد، ورسالة المفاخرةِ بين السيف والقلم، وله كتابُنا هذا الّذي نكتب عنه: حظيرة الأنس في حضرة القدس، الّذي كتبه خلال رحلته عام 735هـ.
اتّصلَ ابنُ نباتةَ بنفر من الوجهاء ورجال الدولة يمدحهم، منهم: الوزير أمين الدين عبد اللّه بن تاج الرئاسة الصاحبيّ؛ الّذي اصطحب ابنَ نباتةَ إلى القدس في هذه الرحلةِ سنة 735ه، ثمّ جعله ناظرًا على كنيسة القيامة[9]، يزور القدس، كلَّ عامٍ، ليجمع "متحصّل كنيسة القيامة" من الزوّار. كان الوزيرُ أمين الدين عبد الله بن تاج الرئاسة وزير الدولةِ المملوكيّة، وهي رُتبةٌ يوحِي اسمُها بعلوِّها، غيرَ أنّها شهدتْ زمنَ المماليكِ تراجعًا في الصلاحيّاتِ والتأثير، فاستحداثُ وظيفة نيابةِ السلطانِ حجّمَ وقيّدَ صلاحيّات الوزيرِ وجعلَه "كناظرِ المال لا يتعدّى الحديثَ فيه، ولا يتّسِعُ له التصرُّفُ في مجالٍ، ولا تمتدُّ يدُه في الولاية والعزل؛ لتطلُّع السلطانِ إلى الإحاطةِ بجزيئات الأحوال"[10] فأنت تجدُ أن الوزير تكاد تنحصرُ وظيفتُه في البحثِ في الأمور الماليّة، لذلك ظلّتْ تتضاءلُ هذه الوظيفة ويترفّع عنها الأمراء حتّى أُلغِيَتْ سنة 730هـ/ 1329م في عهد الناصر محمّد بن قلاوون، ويقول عنها ابن خلدون: "فصارتْ مرؤوسةً ناقصة، فاستنكفَ أهل هذه الرتبة العالية في الدولة عن اسم الوزارة، وصار صاحب الأحكامِ والنظر بالجند يُسمّى عندهم بالنائب لهذا العهد، وبقي اسم الحاجبِ في مدلوله، واختصّ اسم الوزير عندهم بالنظر بالجباية"[11]
وإنّما سُمّي الوزيرُ بالصاحبيّ؛ لأنّ الوزارة إذا تسلَّمها واحدٌ من أرباب القلمِ سُمّيَ بالصاحب، وإذا تسلّمها واحد من أرباب السيف اكتُفِيَ بلقبِ الوزير.[12] وقد جاءتْ هذه الرحلة إلى القدس حين كان أمين الدين الصاحبيّ ناظرًا في دمشقَ، وقد كان أمين الدولةِ قبطيًّا فأسلمَ.
ومن عجيبِ تأليف الكتاب أنّ الدّاعي له نيّةُ الوزير الأمينيّ التّخفيف والتّسليةَ عن ابن نباتة لوفاة ابنه عبد الرّحيم، إذ حزِنَ عليه حتّى طال حزنُه، فأمرَه بمصاحبته، وأن يصِفَ له منازلَ الرحلة وطرقها، وانظرْ إلى رقّة لغته الّتي لا تخلو من ضرورات الإنشاء من بديعيّاتٍ متنوّعة من سجع ومقابلة وتوريةٍ وغير ذلك من طرائق نثر ذلك الزمنِ، حين عبّرَ عن ذلك: "وكان له في اصطحابي مقصد -تقبَّل الله عملَه الصالح ومتجره الرابح- وذلك أنّي كنتُ لابسًا ثيابَ الحزنِ على ولدي، مقيمًا بين المقابر إقامةً تفتَّ حبّة قلبي على قطعة من كبدي، ساقيًا روض الحزن بغمائم الجفون، باكيًا على دنيا وجْهٍ عاجلَتْه الأيّام بصرف المنون، ..، وأمرني أن أصِفَ له المنازلَ والطرق"[13]
فأوّل منطلَقِ الرحلةِ من دمشق، وزمانُه أوّلُ الربيع سنة 735هـ، يقول: "فلمّا عزمَ بدمشقَ المحروسة سنة خمس وثلاثين على زيارة القدس الشريف، ..، والأرض قد شرعت في لباس حَلْيها وحُلَلها، ومراعي الربيع قد وعدتْ من الشمس بتسمين حَمْلِها"[14]، ثمّ ساروا جنوبًا إلى الكسوة، الّتي تعدّ أوّل منزلٍ تنزلِ به القوافلُ الخارجة من دمشقَ نحو مصرَ[15]، ثمّ وصلوا الصنمين، أوائلَ حوارانَ، فنزلوا عند رأس الماءِ ثمّ الحصين[16]، فنزلوا عجلون ونصبوا خيامَهم تحت قلعتها المشهورة، ثمّ سلكوا الغورَ حتّى وصلوا مَشْهَد أبي عبيدة عامر بن الجرّاح ومقامَه الّذي يتبع اليوم محافظة البلقاء الأردنيّة، في البلدةِ الّتي تحمل اسمه، حتّى وصلوا القدس بمعيّة الغمام، وزاروا باب الرّحمةِ، والصخرةَ المشرّفةَ، وبكوا في حضرةِ الشوقِ المقدّس. ويذكر ابنُ نباتةَ ما يُبيِّنُ الاعتناء المملوكيّ بالقدس: "ونظرْنا آثارًا قديمةً تُذهِلُ عيون النظّارة، وآثارًا متجدّدةً في هذه الدولة القاهرة تقصُر عنها العبارة، ومحاسنَ يقف في طريق الزيارة متأمّلُها، ..، فمنها ما هو مخصوص بالحرم الشريف نستلم كالحجّاج أركانه، ونقلِّبُ وجوهَنا في سماء سقفٍ يكاد يمطر علينا لُجَينُه وعِقيانُه، ونشاهد رخامًا بلغ في الحسن والمحلّ الأقصى."[17]
ويذكر زيارتهم للأروقة، ومصادفتهم للحياة الصوفيّة الّتي كان يُعتَنى بطرقِها وأبنيتها وحلقاتِ الذكر والعلمِ فيها، إذ يقول: "ثمّ تُلِيَتِ الختمات الّتي شرّف الله تعالى ذكرها ومواعيد التفاسير والرقائق الّتي أجرَتِ الأوقاف الصّاحبيّة أجرَها" ويذكرُ حسناتِ الوزير الأمينيّ من عطاياه للفقراء، وتوزيع الأثوابِ.
يظهرُ في رحلة ابن نباتة أنّ بناء الرواقِ عند المدرسة الأمينيّة جرى حينها، بل إنّ المدرسة الأمينيّة كانتْ ممّا بناه الأمين الصاحبيّ، عام 730هـ، كانت تُدعى بدار الإمام؛ لسُكْنى الشيخِ الإمام فيها، يحدّ المدرسةَ شرقًا الطريقُ الداخل إلى باب الملك فيصل، وشمالًا طريقُ المجاهدين، وغربًا المدرسةُ الفارسيّة، وجنوبًا ساحةُ المسجد الأقصى، وللمدرسة المطلّة على ساحات الأقصى بابٌ وغرفٌ فوق رواق الأقصى الشماليّ، وهي ذات طوابق أربعة، الأوّل منها بمستوى الرواق الشماليّ، وفيه قبر ضياء الدين الهكاريّ[18].
المدرسة الأمينية
بعد سبعة أيّام في القدس اتّجهوا نحو الخليل، ومرّوا بالمقامِ الّذي يُزَعمُ أنّ فيه قبر سيّدنا يونس عليه السلام في حلحول شماليّ الخليل، واتّجهوا إلى مقام النبيّ إبراهيم عليه السلام، وأكلوا العدس هناك، وكذلك تُليَت الختمات ووُزِّعت الهبات. ويُلحَظُ هنا أنّ الارتباطَ بين المسجد الأقصى في القدس والمسجد الإبراهيميّ في الخليل كان حاضرًا في الدولة المملوكيّة، إذ إنّ وظيفة ناظرِ الحرميْنِ الشريفيْن (الأقصى والإبراهيمي) كانت تُعطَى في الغالب للشخصِ ذاته، ينظرُ في شؤونهما وأوقافهما واحتياجاتهما.
ومن الخليل اتّجهت الرحلة نحو الرملة، وكان الجامع الأبيض قد خرب وتهدَّمَ، فأمر الوزير الأمينيّ بعمارته، وبناء ما اندثر منه، يقول ابن نباتة: "وبنى من المكرمات ما ثبت، ولولا إبداع سعادته ما ثبت البناء فوق الرملة".
ومن الرملة اتّجهوا لزيارة مشهد يحيى وزكريّا عليهما السلام، والّذي يتّضح لي: أنّ المشهد المقصود الّذي يُنسَبُ إليهما يقع في سبسطية، وذكر كذلك زيارته لقبر بنيامين أخي يوسف عليه السلام، وقبر يوسف نفسه، ولستُ أدري موقعهما. ثمّ توجّهوا نحو بيسان في طريق العودةِ، وزاروا مشهد معاذ بن جبل رضي الله عنه، وأمر الصاحبي بتجديد عمارته، وبناء مطهرة له، ثم عادوا الطريق ذاتها التي سلكوها أوّل الرحلة حتّى دمشق.
وكتاب الرحلة غير متوفّرٍ على الشبكة العنكبوتيّة، غير أنّي وجدتُه في المكتبة الختنيّة في القدس، وفي مكتبة بلديّة البيرة، وفي مكتبة بلديّة رام الله، وقد صدرَ عن مؤسّسة إحياء التراث الإسلاميّ، لمؤلّفه الّذي كان يشغل مدير مؤسّسة إحياء التراث الإسلاميّ حمد أحمد عبد الله يوسف.
وربّما صرفتْ جزالةُ لغة الرحلةِ وكثرة بديعِها مريدي التاريخ والوصفِ عن الاستفادةِ منها، وأخملَتْ ذكرِها، غيرَ أنّك تخرجُ منها باستنتاجاتٍ وأوصافٍ عامّة كثيرةٍ، تقودُ الباحث والمتتبّع إلى تكوين خلاصاتٍ واستنتاجاتٍ خاصّة حول تلك الفترة المملوكيّة فيما يتعلّق بطرق السير والحياة المعماريّة، وغير ذلك، مع لَحْظِ أنّ هذه اللغة التي كُتِبَتْ بها الرحلة لم تكن متكلَّفةً في ذلك العصرِ؛ بل هي من عاداتِ الإنشاء والكتابة التي جرى السير بها على نهجٍ معيّن في الكتابة والمراسلات، وحتّى التأريخ.
[1] النوادر السلطانيّة والمحاسن اليوسفيّة، ابن شدّاد
[2] القدس في التاريخ، تحرير: كامل العسيلي، منشورات الجامعة الأردنية، 1992، ص205
[3] ينقل نور مصالحة في كتابه: (فلسطين: أربعة آلاف عام من التاريخ) عن راندال روجرز أنّ الصليبيّين كانوا مقاتلين مرهوبي الجانب في حصار الحصون والقلاع، وأنّ الأيّوبيّين أغرقوا ركام بعض أسوار وحاميات المدن الساحليّة بالمياه؛ لمنع أيّ رسوٍّ مُحتَمَلٍ في مرافئ هذه المدن، كغزّة، وصور.
[4] القدس في التاريخ، تحرير: كامل العسيلي، منشورات الجامعة الأردنية، 1992، ص216
[5] القدس في التاريخ، تحرير: كامل العسيلي، منشورات الجامعة الأردنية، 1992، ص208
[6] القدس العتيقة مدينة التاريخ والمقدّسات، عرفة علي، الهيئة العامّة لقصور الثقافة، القاهرة، 2007، ط1، ص89
[7] مشوار كتب الرحلة قديمًا وحديثًا، سيّد حامد النساج، مكتبة غريب، ص5
[8] تاريخ الأدب العربيّ، عمر فرّوخ، ج3، ص794
[9] كان أتباع الفرق النصرانية يختلفون في النظارة والإشراف على كنيسة القيامة في القدس، لذلك جعلت النظارة عليها منذ أمد طويل جدًّا لنفر من المسلمين.
[10] القلقشنديّ، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، عالم الكتب، القاهرة، ج4، ص28
[11] مقدّمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، ج1، ص298
[12] حسن إبراهيم، دراسات في تاريخ المماليك البحريّة، مكتبة النهضة المصريّة، مصر، ط1، 1948، ص225
[13] ثمرات الأوراق، ابن حجّة الحمويّ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ص238
[14] المرجع السابق نفسه، ص239
[15] معجم البلدان، ياقوت الحمويّ، دار صادر، بيروت، ط8، ج4، ص461
[16] ربّما هي البلدة الأردنيّة التابعة لمحافظة إربد في الجنوب الشرقيّ منها، والمتأمّل لخطّ سيرِ الرحلة يجدُ أنّ مرورَهم فيها شديدُ الورود، والله أعلم.
[17] ثمرات الأوراق، ابن حجّة الحمويّ، ص241
[18] من قادة صلاح الدين الأيّوبيّ ومستشاريه