الحوار مع الأبناء: مادة الحوار وردود الأفعال (2) د. صالح نصيرات
يتاسس الحوار على مهارتي الاستماع والحديث، وهما من أكثر المهارات اللغوية/الاجتماعية التي نستخدمها يوميا، حيث نقضي معظم يومنا بين مستمعين ومتحدثين، سواء أكان ذلك في البيت أوفي العمل أوفي الشارع. وهذا يعني أن على الأبوين والأبناء العمل بجدية على تطوير هاتين المهارتين والتدرب على يد المحترفين -وهذا شيء طبيعي- ليتقنوا هاتين المهارتين. فعندما يتحدث شخص ما فإنه يتوقع أن يقابل بالاستماع والإنصات والإصغاء وهي درجات مختلفة من الاستماع. فالانشغال عن المتحدث بأي شيء يعيق التواصل وقد يؤدي إلى النفور وعدم تكرار الفعل الكلامي. وكذلك فإن المستمع يتوقع حديثا خاليا من إيماءات وإيحاءات سلبية أونغمة استهتار أواستخفاف أو سخرية ليواصل الاستماع.
ولو نظرنا في طبيعة مايدور من أحاديث سنجد أن معظم الحديث بين الأبناء و الآباء يدور حول "متطلبات" الحياة اليومية : طلب مصروف، طلب شراء ملابس وكتب، دفع رسوم، الإذن بالخروج من البيت ... الخ. فقليلا ما يتحدث الأبناء عن مشكلاتهم في المدرسة أو الجامعة أو مع اصدقائهم لأسباب كثيرة. وقد يسيء الإبن أو الابنة اختيار التوقيت للحصول على ما يريد فيكون الصدود وعدم الاستجابة، بل قد يكون تعليق الأب على الطلبات سلبيا بسبب ظروف معينة أو إيجابيا حسب القدرة. وهذا النوع من الحديث ليس حوارا. أما الأبوان فغالبا ما يكون حديثهم عبارة عن أسئلة عن الدراسة والاصدقاء والدرجات والاختبارات وهي أمور يكره الأبناء الإجابة عليها، وإن أجابوا فستكون مقتضبة دون الدخول في التفاصيل. وقد يسأل الآباء المتدينون أبناءهم وبناتهم عن الصلاة وربما بعض الأمور المتعلقة باللباس والحديث مع الزملاء. وهي أيضا قد تكون أشبه ب"تحقيق" منه بتساؤل بريء. وقد تكون نغمة الأسئلة ولغة الجسد توحي بعدم الثقة والتشكيك وهذا يقطع التواصل وقد ينسحب الإبن أو الإبنة بشعور سلبي تجاه الأب أو الأم، أو قد يتطور الحديث بشكل سلبي ليتحول إلى نقاش بلا طائل.
ولعل قلة الحديث عن الأمور الحياتية والمشكلات التي تواجه الأبناء مرده إلى غياب الثقة بين الطرفين. فماذا سيكون جواب الأب لابنته التي قد تفتح حوارا معه حول علاقتها بزملائها مثلا؟ وماذا سيكون جواب الأب لابنه عندما يحدثه عن مشكلة بينه وبين استاذه؟
لماذا يحجم الأبناء عن الحديث بصدق وشفافية وانفتاح مع آبائهم وأمهاتهم؟ الجواب هو خشية ردة الفعل التي قد لا تتناسب ابدا مع طبيعة "البوح" او الحديث الخاص. كم نسبة الآباء والأمهات الذين يتفاعلون مع مثل هذا النوع من الحديث فيطرحون اسئلة أو يطلبون توضيحا باسلوب بعيد عن التجريح او التشكيك؟
تخيل معي أن ياتي الإبن أو الإبنة ليتجرأ ويتحدث لأبيه عن فشله في مقرر دراسي أو ان درجاته اقل مما يتوقعه الأب أو الأم؟ أو تخيل ان الإبن أو الإبنة يتحدث عن مشاركته في نشاط "سياسي" أو ديني أو تجمع اجتماعي يتخلله بعض الفقرات كالغناء أو الرقص؟ ماذا وكيف ستكون ردة الفعل؟
بالتأكيد ستكون ردة الفعل منسجمة مع قناعات الأب حول تلك القضايا فكم أب سيشجع ابنه أو ابنته على المشاركة في هكذا نشاطات؟ وكم سيرفض الحديث في هذه الموضوعات ابتداء؟
عندما يلاحظ الأب أو الأم أن الأبناء يقضون وقتا طويلا على الهاتف تحدثا ومشاهدة واستماعا فماذا ستكون نوعية الأسئلة وردات الفعل؟
وما نوع الحوار الذي سيدور بينهم؟
كم نسبة الآباء و الأمهات الذين يدركون أن الحياة اليوم بكل تعقيداتها ووسائل العيش تختلف اختلافا جذريا عن الأمس؟ وكيف يتصرفون على اساس هذا الإدراك؟ وكم الذين يعيشون في حالة "إنكار" فيعتقدون أن ما نشهده اليوم هو أمر عارض أو أنه حقيقة واقعة لابد من التعامل معها باساليب وطرائق تربوية وتوعوية مختلفة؟
فهل سيكون نتاج التربية في بيت على راسه أب سلبي، غضوب وعصبي المزاج ، بخيل في ماله ومشاعره، منغلق على نفسه، أناني ولايجتهد في تطوير قدراته ومهاراته و معارفه كنتاج تربية البيت الذي فيه اب إيجابي، منفتح، محاور، واع لدوره ، مجتهد على نفسه، كريم في مشاعره وماله. وهذا ينطبق على الأم بدرجات متفاوتة حسب ظروفها وقدراتها.
لنتذكر جميعا أننا نحصد ما نزرع، وأن أساليبنا التربوية هي المسؤولة إلى حد كبير عما نلقاه ونشاهده. فمن يربي ابناءه على الثقة والإيجابية والشفافية سيكون محل ثقتهم ولن يترددوا في الانفتاح عليه والحديث معه باطمئنان والعكس هو الصحيح.