أداة الاحتلال لتفريغها.. هكذا عاش المقدسي مراد العباسي يومه الأخير بالقدس قبل إبعاده نهائيا
الجزيرة نت
القدس المحتلة-
صباح الجمعة، الثالث من يونيو/حزيران 2022، يحاول المقدسي مراد غازي العباسي "التلذذ" بكل دقيقة مع والديه وزوجته وأطفاله الستة في بيته ببلدة سلوان جنوبي المسجد الأقصى المبارك.
تناول العباسي (42 عاما) فطوره المعتاد من كعك القدس، وحاول أن يعيش بكل جوارحه اجتماع العائلة الصباحي اليوم الجمعة، ثم أطال النظر على إطلالة بيته الفريدة، قبل أن يغادره مضطرا نحو مدينة رام الله بالضفة المحتلة.
وكانت شرطة الاحتلال سلمّت العباسي، يوم 19 مايو/أيار الماضي، قرارا يقضي بإبعاده عن القدس بشكل نهائي، وبضرورة مغادرتها في غضون 14 يوما، وإلا سيتعرض للاعتقال والسجن، مع إبلاغه بتغريم أي شخص يؤويه داخل القدس -حتى لو كان من عائلته- بمبلغ يقارب 1500 دولار.
وُلد وعاش هنا
وبعد أن وُلد ودرس وعمل في بلدة سلوان، يقول العباسي -للجزيرة نت- "أعيش هنا منذ 42 عاما، وفي ليلة وضحاها أطرد إلى الأبد".
وينحدر الرجل من إحدى عائلات البلدة الأصلية، لكن الاحتلال قرر اقتلاعه من جذوره وسلخه عن عائلته بذريعة وجود "ملفات سرية" تستدعي طرده.
ورغم تأصله في القدس، لا يملك العباسي بطاقة الإقامة الزرقاء الخاصة بالمقدسيين، فقد كان جده يعمل في مدينة رام الله شمال القدس، عند احتلال ما تبقى منها في حرب عام 1967، وفاتَه الإحصاء الإسرائيلي للموجودين بداخلها الذي أعطى بطاقات للفلسطينيين في القدس آنذاك، بينما استثنى من هم خارجها.
رحلة لم الشمل
تزوّج العباسي من فتاة مقدسية عام 2001، وأنجبا 6 أبناء، ليتمكن بعد ذلك من تقديم طلب "لم الشمل" لوزارة داخلية الاحتلال.
وفي حال موافقة الاحتلال على الطلب، يجمع هذا الإجراء العائلات الفلسطينية عبر وثائق رسمية، وهو يُعنى بالعائلات التي يكون أحد الزوجين فيها من الضفة الغربية أو قطاع غزة، والآخر من القدس أو الداخل المحتل.
ويمنع الاحتلال الإسرائيلي كل فلسطيني لا يحمل الجنسية الإسرائيلية أو رقم هوية إسرائيلية -دائمة أو مؤقتة- من دخول القدس المحتلة إلا بتصريح، أو بمعاملة "لم شمل" مدرجة لدى وزارة داخليته، وهي التي تنضوي على تقييدات وشروط عدة. وصادق الكنيست الإسرائيلي مارس/آذار الماضي على قانون منعها بشكل نهائي.
وتمكّن العباسي عام 2015، بعد 15 عاما من زواجه، من استلام معاملة "لم الشمل"، وكان يتوجه سنويا إلى مبنى وزارة الداخلية في حي وادي الجوز بالقدس لتجديدها.
أما قبلها، فقد كان يستصدر تصاريح دخول وإقامة دورية، مستعينا بعمله في مستشفى المقاصد بمنطقة الطور داخل مدينة القدس.
التهمة "لايك"
لم يدم الأمر طويلا، ففي عام 2017 جُمّد تصريح العباسي لـ8 أشهر بسبب تفاعله بالإعجاب (لايك) على صورة شهيد فلسطيني في موقع فيسبوك، ولم يُفعّل تصريح دخوله مرة أخرى إلا بعد تقديمه كتاب اعتذار عن ذلك.
ويكشف الرجل المبعد أنه تعرض مرارا للابتزاز من قبل شرطة ومخابرات الاحتلال، وأخبروه "تعاونك معنا يحدد مصير معاملة لم الشمل".
عاش العباسي في توجس وترقب دائم حتى عام 2021، حين تعرض للاعتقال من أبواب المسجد الأقصى، ثم من حاجز الزيتونة قرب الطور، وتعرض للتحقيق والمساءلة في مراكز شرطة الاحتلال عن وثيقته الرسمية وأمور أخرى، وقال إنه في ذلك العام لوحده حُقق معه 6 مرات.
قرار الطرد
منذ ذلك الحين، بدأ العد التنازلي، حين ذهب إلى مبنى وزارة الداخلية الإسرائيلية في القدس لتجديد وثيقة دخوله للمدينة، لكنهم أخبروه بتوجههم لإلغاء التصريح و"لم الشمل"، والسبب أنه "لا يحترم إسرائيل وقوانينها"، ولديهم "معلومات سرية تدعم ذلك التوجه". وفي مارس/آذار الماضي، تلقى العباسي قرارا نهائيا بطرده من القدس.
استعان العباسي خلال سجاله الطويل مع الاحتلال بمؤسسات حقوقية ومحامين على نفقته الخاصة، لحماية وجوده في القدس، وصولا إلى التقدم بطلب استئناف ضد قرار طرده، وهناك في محكمة الاستئناف التي عُقدت بمستوطنة "جفعات شاؤول" حدث ما لم يتوقعه.
يصف المبعد تفاصيل الجلسة قائلا "سألني القاضي أين تصلّي؟ كان يقاطع الجلسة ويذهب إلى غرفة مجاورة ليستمع إلى أناس لا أعلمهم، ثم عاد ليقول إنه عاين معلومات مصدّقة بأنني أشكّل خطرا على الأمن القومي لدولة إسرائيل والشارع العام". ويضيف العباسي "لا يمكن للقاضي التدخل، لأن القرار صادر من الشاباك (جهاز المخابرات الإسرائيلية)".
رُفض استئناف العباسي، ولإعادة تفعيل قضيته قانونيا يحتاج إلى نحو 12 ألفا و500 دولار، مع انعدام احتمال سقوط قرار طرده، وفق محامين مخضرمين.
وكان مراد العباسي قد أُبعد عن القدس لمدة عامين ابتداءً من 2004، واعتقل شهرين بناء على المبررات الضبابية ذاتها.
ومنذ بداية العام الجاري، وثّقت الجزيرة نت إبعاد 8 فلسطينيين عن مدينة القدس، آخرهم مراد العباسي. في حين تفيد مصادر المؤسسات الحقوقية بأن وزارة الداخلية الإسرائيلية سحبت حق الإقامة في القدس من 14 ألفا و500 فلسطيني على الأقل، بحجج مختلفة، منذ احتلال باقي المدينة عام 1967.
خسر كل شيء
عمل العباسي 17 عاما في مكتب للنقل في حي عين اللوزة، قريبا من بيته في حارة العباسية، وبعد إبعاده عن القدس، سيمسي من دون عمل وبلا بيت أو عائلة، فهو المعيل الوحيد لعائلته، التي لن تستطيع الانتقال للعيش معه برام الله خشية سحب وثائق إقامتها في القدس، أما هو فسيقضي أيام إبعاده الأولى في فندق حتى يتدبر بيتا للسكن.
وهو يلقي نظرة الوداع على نباتات بيته المزهرة، قال مراد العباسي "هذا الملف السري المجهول أظلم حياتي وتركني في دوامة، لقد أماتوني وأنا حي، كل مسؤولية العائلة ستمسي على زوجتي، لقد فاجئني ابني المقبل على امتحانات الثانوية العامة قائلا: لا أريد أن أتخرج أو أفرح بدون والدي".
وختم "رغم كل ذلك لن أفقد الأمل، مهما فعلوا سأعود في النهاية لأن جذوري هنا، سأخرج جسدا فقط وروحي ستبقى في القدس".
الجزيرة نت
القدس المحتلة-
صباح الجمعة، الثالث من يونيو/حزيران 2022، يحاول المقدسي مراد غازي العباسي "التلذذ" بكل دقيقة مع والديه وزوجته وأطفاله الستة في بيته ببلدة سلوان جنوبي المسجد الأقصى المبارك.
تناول العباسي (42 عاما) فطوره المعتاد من كعك القدس، وحاول أن يعيش بكل جوارحه اجتماع العائلة الصباحي اليوم الجمعة، ثم أطال النظر على إطلالة بيته الفريدة، قبل أن يغادره مضطرا نحو مدينة رام الله بالضفة المحتلة.
وكانت شرطة الاحتلال سلمّت العباسي، يوم 19 مايو/أيار الماضي، قرارا يقضي بإبعاده عن القدس بشكل نهائي، وبضرورة مغادرتها في غضون 14 يوما، وإلا سيتعرض للاعتقال والسجن، مع إبلاغه بتغريم أي شخص يؤويه داخل القدس -حتى لو كان من عائلته- بمبلغ يقارب 1500 دولار.
وُلد وعاش هنا
وبعد أن وُلد ودرس وعمل في بلدة سلوان، يقول العباسي -للجزيرة نت- "أعيش هنا منذ 42 عاما، وفي ليلة وضحاها أطرد إلى الأبد".
وينحدر الرجل من إحدى عائلات البلدة الأصلية، لكن الاحتلال قرر اقتلاعه من جذوره وسلخه عن عائلته بذريعة وجود "ملفات سرية" تستدعي طرده.
ورغم تأصله في القدس، لا يملك العباسي بطاقة الإقامة الزرقاء الخاصة بالمقدسيين، فقد كان جده يعمل في مدينة رام الله شمال القدس، عند احتلال ما تبقى منها في حرب عام 1967، وفاتَه الإحصاء الإسرائيلي للموجودين بداخلها الذي أعطى بطاقات للفلسطينيين في القدس آنذاك، بينما استثنى من هم خارجها.
رحلة لم الشمل
تزوّج العباسي من فتاة مقدسية عام 2001، وأنجبا 6 أبناء، ليتمكن بعد ذلك من تقديم طلب "لم الشمل" لوزارة داخلية الاحتلال.
وفي حال موافقة الاحتلال على الطلب، يجمع هذا الإجراء العائلات الفلسطينية عبر وثائق رسمية، وهو يُعنى بالعائلات التي يكون أحد الزوجين فيها من الضفة الغربية أو قطاع غزة، والآخر من القدس أو الداخل المحتل.
ويمنع الاحتلال الإسرائيلي كل فلسطيني لا يحمل الجنسية الإسرائيلية أو رقم هوية إسرائيلية -دائمة أو مؤقتة- من دخول القدس المحتلة إلا بتصريح، أو بمعاملة "لم شمل" مدرجة لدى وزارة داخليته، وهي التي تنضوي على تقييدات وشروط عدة. وصادق الكنيست الإسرائيلي مارس/آذار الماضي على قانون منعها بشكل نهائي.
وتمكّن العباسي عام 2015، بعد 15 عاما من زواجه، من استلام معاملة "لم الشمل"، وكان يتوجه سنويا إلى مبنى وزارة الداخلية في حي وادي الجوز بالقدس لتجديدها.
أما قبلها، فقد كان يستصدر تصاريح دخول وإقامة دورية، مستعينا بعمله في مستشفى المقاصد بمنطقة الطور داخل مدينة القدس.
التهمة "لايك"
لم يدم الأمر طويلا، ففي عام 2017 جُمّد تصريح العباسي لـ8 أشهر بسبب تفاعله بالإعجاب (لايك) على صورة شهيد فلسطيني في موقع فيسبوك، ولم يُفعّل تصريح دخوله مرة أخرى إلا بعد تقديمه كتاب اعتذار عن ذلك.
ويكشف الرجل المبعد أنه تعرض مرارا للابتزاز من قبل شرطة ومخابرات الاحتلال، وأخبروه "تعاونك معنا يحدد مصير معاملة لم الشمل".
عاش العباسي في توجس وترقب دائم حتى عام 2021، حين تعرض للاعتقال من أبواب المسجد الأقصى، ثم من حاجز الزيتونة قرب الطور، وتعرض للتحقيق والمساءلة في مراكز شرطة الاحتلال عن وثيقته الرسمية وأمور أخرى، وقال إنه في ذلك العام لوحده حُقق معه 6 مرات.
قرار الطرد
منذ ذلك الحين، بدأ العد التنازلي، حين ذهب إلى مبنى وزارة الداخلية الإسرائيلية في القدس لتجديد وثيقة دخوله للمدينة، لكنهم أخبروه بتوجههم لإلغاء التصريح و"لم الشمل"، والسبب أنه "لا يحترم إسرائيل وقوانينها"، ولديهم "معلومات سرية تدعم ذلك التوجه". وفي مارس/آذار الماضي، تلقى العباسي قرارا نهائيا بطرده من القدس.
استعان العباسي خلال سجاله الطويل مع الاحتلال بمؤسسات حقوقية ومحامين على نفقته الخاصة، لحماية وجوده في القدس، وصولا إلى التقدم بطلب استئناف ضد قرار طرده، وهناك في محكمة الاستئناف التي عُقدت بمستوطنة "جفعات شاؤول" حدث ما لم يتوقعه.
يصف المبعد تفاصيل الجلسة قائلا "سألني القاضي أين تصلّي؟ كان يقاطع الجلسة ويذهب إلى غرفة مجاورة ليستمع إلى أناس لا أعلمهم، ثم عاد ليقول إنه عاين معلومات مصدّقة بأنني أشكّل خطرا على الأمن القومي لدولة إسرائيل والشارع العام". ويضيف العباسي "لا يمكن للقاضي التدخل، لأن القرار صادر من الشاباك (جهاز المخابرات الإسرائيلية)".
رُفض استئناف العباسي، ولإعادة تفعيل قضيته قانونيا يحتاج إلى نحو 12 ألفا و500 دولار، مع انعدام احتمال سقوط قرار طرده، وفق محامين مخضرمين.
وكان مراد العباسي قد أُبعد عن القدس لمدة عامين ابتداءً من 2004، واعتقل شهرين بناء على المبررات الضبابية ذاتها.
ومنذ بداية العام الجاري، وثّقت الجزيرة نت إبعاد 8 فلسطينيين عن مدينة القدس، آخرهم مراد العباسي. في حين تفيد مصادر المؤسسات الحقوقية بأن وزارة الداخلية الإسرائيلية سحبت حق الإقامة في القدس من 14 ألفا و500 فلسطيني على الأقل، بحجج مختلفة، منذ احتلال باقي المدينة عام 1967.
خسر كل شيء
عمل العباسي 17 عاما في مكتب للنقل في حي عين اللوزة، قريبا من بيته في حارة العباسية، وبعد إبعاده عن القدس، سيمسي من دون عمل وبلا بيت أو عائلة، فهو المعيل الوحيد لعائلته، التي لن تستطيع الانتقال للعيش معه برام الله خشية سحب وثائق إقامتها في القدس، أما هو فسيقضي أيام إبعاده الأولى في فندق حتى يتدبر بيتا للسكن.
وهو يلقي نظرة الوداع على نباتات بيته المزهرة، قال مراد العباسي "هذا الملف السري المجهول أظلم حياتي وتركني في دوامة، لقد أماتوني وأنا حي، كل مسؤولية العائلة ستمسي على زوجتي، لقد فاجئني ابني المقبل على امتحانات الثانوية العامة قائلا: لا أريد أن أتخرج أو أفرح بدون والدي".
وختم "رغم كل ذلك لن أفقد الأمل، مهما فعلوا سأعود في النهاية لأن جذوري هنا، سأخرج جسدا فقط وروحي ستبقى في القدس".