شيّعه آلاف الفلسطينيين في الأقصى.. رحيل عبد الله صبري أحد ركائز العمل الطبي والإنساني بالقدس
جمان أبو عرفة
الجزيرة نت
القدس المحتلة
صلى الطبيب الثمانيني عبد الله صبري الفجر والضحى، ثم قرأ القرآن وتناول فطوره الأخير مع أسرته، وهمّ ليصلي الجمعة مع نجله سامر بالمسجد الأقصى، ويستمع لخطبة شقيقه أمين المنبر الشيخ عكرمة صبري، لكن جلطة قلبية حادة أصابته وهو يمشي بالمقبرة اليوسفية شرق المسجد، فارتقت روحه إلى بارئها، ليُدفن اليوم التالي ضمن جنازة مهيبة في مقبرة باب الرحمة، على بعد أمتار من مكان وفاته.
في ذلك اليوم، ودعت فلسطين وعاصمتها القدس المحتلة أكبر طبيب ممارس فيها (عن سن 88 عاما) حيث بقي يعالج المرضى حتى ليلة وفاته، ولم ينقطع عن الطبابة رغم كبر سنه، ورحل وهو عضو فاعل في نقابة الأطباء، ورئيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بالقدس، ورئيس اتحاد الجمعيات الخيرية بالمدينة المقدسة.
بعد رحيله، نكّس مستشفى الهلال الأحمر بالقدس أعلامه، ومشى في جنازته أسطول من مركبات الإسعاف التي حملت صورته في شوارع القدس وحول سورها، ثم حمل نعشه إلى المسجد الأقصى موظفو الهلال الفلسطيني بزيّهم الأحمر الميداني، وهناك صلى عليه آلاف الفلسطينيين الذين داوى مرضاهم لأكثر من 60 عاما.
شقيق وابن خطيبي الأقصى
الطبيب عبد الله الملقب بأبي السعيد هو الشقيق الأكبر لخطيب المسجد الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا الشيخ عكرمة صبري، وهما نجلا قاضي القدس وخطيب الأقصى الشيخ سعيد صبري الذي توفي عام 1973.
وقبيل وفاة شقيقه، كان الشيخ عكرمة يتحضر ليخطب الجمعة في المصلين، ولم يعلم بخبره إلا بعد أن فرغ من خطبة لامست هموم المقدسيين، كعادته.
واستقبل الشيخ صبري آلاف الفلسطينيين في خيمة العزاء المقامة قرب مقر الهلال الأحمر في حي الصوانة بالطور، وهو يتكئ على عصاه متأثرا وكأنه تيتّم للمرة الثانية، وقال للجزيرة نت ينعى شقيقه الأكبر "كان الطبيب الإنسان الذي خدم القدس بصمت، وله بصمات في مستشفى جمعية المقاصد الخيرية، وجمعية الهلال الأحمر، وجمعية المعاقين حركيا، وعمل حتى وفاته على خدمة القدس ومواطنيها".
عيادة لا تغلق
ولد الطبيب الراحل عام 1934 في مدينة قلقيلية، وانتقل مع أسرته إلى القدس حيث عمل قاضيا فيها، ثم سافر إلى مصر ليدرس الطب في جامعة عين شمس، وبعد تخرجه عمل طبيبا للجيش العربي الأردني شرق القدس قبل احتلالها، ثم في مستشفى "الهوسبيس" النمساوي في طريق الواد، ثم افتتح عيادته الخاصة في شارع صلاح الدين بالقدس، والتي ظل يستقبل المراجعين فيها حتى وفاته.
سكن هذا الطبيب بلدة شعفاط، وتزوج من ابنة أول مبعد فلسطيني عام 1967 الشيخ عبد الحميد السائح، وأنجب منها 5 أبناء، وغدا لهما نحو 20 حفيدا.
في خيمة العزاء، تمالكت زوجته نائلة السائح قواها، وقالت بعيون ممتلئة بالدموع للجزيرة نت "أثناء كورونا، لم يتوقف عن العمل وافتتح عيادته في بيتنا، كنا نسمع صوت ضحكته مع المرضى، كان سهلا لينا معهم، كثير المزاح خفيف الظل، لقد داوى أجيالا عديدة وقصده المرضى من كل أنحاء فلسطين" وأضافت "متعه الله بصحة جيدة، فكان يصلي في الأقصى باستمرار، ويصوم شهر رمضان حتى عامه الأخير".
اعتمر قبل وفاته وأوصى بالعلم
صمتت الزوجة المكلومة ثم قالت لابنتها الرابعة نبال "تحدثي أنت لا أستطيع المتابعة" مسحت نبال دموعها وتابعت كلام أمها "لم يكن أبا فقط، كان المعلم والقدوة، لقد عدت من السفر قبل أسبوع، وفي يوم طائرتي توفي والدي، وحظيت بوداعه، نظرت إلى جثمانه وقلت له: لقد أكملت رسالتك يا أبت والدور علينا".
وأضافت نبال "ذهبنا سويا لأداء العمرة قبل شهر من وفاته، كان يحثنا على العلم ويصر على عودتنا إلى القدس لنخدمها به، قبل يوم من وفاته اجتمعت العائلة فقال لنا موصيا: عليكم بالعلم يا أبنائي ويا أحفادي".
فلسطين-المسجد الأقصى-موظفو الهلال الأحمر في القدس يحملون نعش مديرهم الراحل عبد الله صبري للصلاة عليه في المسجد الأقصى-الجزيرة نت-تصوير طواقم الهلال الأحمر مع الإذن بالنشر
شعلة العمل الخيري
لم يقتصر عطاء الطبيب القلقيلي المقدسي على الطب فقط، فقد نشط في العمل الخيري والتطوعي، وساهم في تأسيس وإدارة العديد من المؤسسات المقدسية، وفق ما قاله نجله الأكبر سعيد للجزيرة نت، حيث أكد أن والده ترأس جمعية المعاقين حركيا، وكان نائب رئيس جمعية الهلال الأحمر في فلسطين والخارج، وعضو مجلس إدارة مستشفى جمعية المقاصد الخيرية، وعضو مجلس إدارة كلية القرآن الكريم، بالإضافة إلى عضويته باللجنة الاستشارية لجامعة القدس.
كان لافتا تأثر موظفي جمعية الهلال الأحمر في القدس بوفاة مدير مؤسستهم الطبيب صبري، فقد وقفوا جميعا في خيمة العزاء وجهدوا لوداع يليق بمن قالوا إنه أبوهم وليس مديرهم.
سونيا أبو صوي التي تعمل رئيسة قسم المشتريات بالجمعية منذ 18 عاما، تقول للجزيرة نت "لقد تيتم الجميع بعد رحيله، كان يعاملنا بتواضع وكأننا أسرة واحدة، ويحرص على نجاحنا وإتقاننا العمل، في آخر اجتماع إداري معه قال لنا: اليوم اجتمعت بكم، ويمكن ألا أكون المرة القادمة، أوصيكم بأن يكون عملكم للقدس وأن تبقوا اسمها عاليا".
رسالتي تنتهي بانتهاء حياتي
في فبراير/شباط الماضي، نال الدكتور صبري "جائزة فلسطين الصحية الأولى 2022" التي منحتها له نقابة الأطباء في فلسطين ومؤسسات أخرى تقديرا لجهوده الطبية والخيرية.
ظلت القدس حاضرة في قلب طبيبها، فقال في أحدث لقاء إعلامي قبل وفاته "رسالتي لا تنتهي إلا بانتهاء حياتي، وأؤمن تماما بأن الطب قمة العمل الإنساني، ربنا إذا أعطى الإنسان الصحة والعافية فيجب أن يستغلها في خدمة مجتمعه.. القدس هي العنوان لفلسطين ولكل المسلمين.. هذه المدينة يجب أن يخدمها كل إنسان ويحافظ عليها لأنها في خطر، العمل العام مهم جدا، كلما عملت أعطاني الله القوة والقدرة، لا أبغي في ذلك إلا رضا الله ثم الوالدين".
جمان أبو عرفة
الجزيرة نت
القدس المحتلة
صلى الطبيب الثمانيني عبد الله صبري الفجر والضحى، ثم قرأ القرآن وتناول فطوره الأخير مع أسرته، وهمّ ليصلي الجمعة مع نجله سامر بالمسجد الأقصى، ويستمع لخطبة شقيقه أمين المنبر الشيخ عكرمة صبري، لكن جلطة قلبية حادة أصابته وهو يمشي بالمقبرة اليوسفية شرق المسجد، فارتقت روحه إلى بارئها، ليُدفن اليوم التالي ضمن جنازة مهيبة في مقبرة باب الرحمة، على بعد أمتار من مكان وفاته.
في ذلك اليوم، ودعت فلسطين وعاصمتها القدس المحتلة أكبر طبيب ممارس فيها (عن سن 88 عاما) حيث بقي يعالج المرضى حتى ليلة وفاته، ولم ينقطع عن الطبابة رغم كبر سنه، ورحل وهو عضو فاعل في نقابة الأطباء، ورئيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بالقدس، ورئيس اتحاد الجمعيات الخيرية بالمدينة المقدسة.
بعد رحيله، نكّس مستشفى الهلال الأحمر بالقدس أعلامه، ومشى في جنازته أسطول من مركبات الإسعاف التي حملت صورته في شوارع القدس وحول سورها، ثم حمل نعشه إلى المسجد الأقصى موظفو الهلال الفلسطيني بزيّهم الأحمر الميداني، وهناك صلى عليه آلاف الفلسطينيين الذين داوى مرضاهم لأكثر من 60 عاما.
شقيق وابن خطيبي الأقصى
الطبيب عبد الله الملقب بأبي السعيد هو الشقيق الأكبر لخطيب المسجد الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا الشيخ عكرمة صبري، وهما نجلا قاضي القدس وخطيب الأقصى الشيخ سعيد صبري الذي توفي عام 1973.
وقبيل وفاة شقيقه، كان الشيخ عكرمة يتحضر ليخطب الجمعة في المصلين، ولم يعلم بخبره إلا بعد أن فرغ من خطبة لامست هموم المقدسيين، كعادته.
واستقبل الشيخ صبري آلاف الفلسطينيين في خيمة العزاء المقامة قرب مقر الهلال الأحمر في حي الصوانة بالطور، وهو يتكئ على عصاه متأثرا وكأنه تيتّم للمرة الثانية، وقال للجزيرة نت ينعى شقيقه الأكبر "كان الطبيب الإنسان الذي خدم القدس بصمت، وله بصمات في مستشفى جمعية المقاصد الخيرية، وجمعية الهلال الأحمر، وجمعية المعاقين حركيا، وعمل حتى وفاته على خدمة القدس ومواطنيها".
عيادة لا تغلق
ولد الطبيب الراحل عام 1934 في مدينة قلقيلية، وانتقل مع أسرته إلى القدس حيث عمل قاضيا فيها، ثم سافر إلى مصر ليدرس الطب في جامعة عين شمس، وبعد تخرجه عمل طبيبا للجيش العربي الأردني شرق القدس قبل احتلالها، ثم في مستشفى "الهوسبيس" النمساوي في طريق الواد، ثم افتتح عيادته الخاصة في شارع صلاح الدين بالقدس، والتي ظل يستقبل المراجعين فيها حتى وفاته.
سكن هذا الطبيب بلدة شعفاط، وتزوج من ابنة أول مبعد فلسطيني عام 1967 الشيخ عبد الحميد السائح، وأنجب منها 5 أبناء، وغدا لهما نحو 20 حفيدا.
في خيمة العزاء، تمالكت زوجته نائلة السائح قواها، وقالت بعيون ممتلئة بالدموع للجزيرة نت "أثناء كورونا، لم يتوقف عن العمل وافتتح عيادته في بيتنا، كنا نسمع صوت ضحكته مع المرضى، كان سهلا لينا معهم، كثير المزاح خفيف الظل، لقد داوى أجيالا عديدة وقصده المرضى من كل أنحاء فلسطين" وأضافت "متعه الله بصحة جيدة، فكان يصلي في الأقصى باستمرار، ويصوم شهر رمضان حتى عامه الأخير".
اعتمر قبل وفاته وأوصى بالعلم
صمتت الزوجة المكلومة ثم قالت لابنتها الرابعة نبال "تحدثي أنت لا أستطيع المتابعة" مسحت نبال دموعها وتابعت كلام أمها "لم يكن أبا فقط، كان المعلم والقدوة، لقد عدت من السفر قبل أسبوع، وفي يوم طائرتي توفي والدي، وحظيت بوداعه، نظرت إلى جثمانه وقلت له: لقد أكملت رسالتك يا أبت والدور علينا".
وأضافت نبال "ذهبنا سويا لأداء العمرة قبل شهر من وفاته، كان يحثنا على العلم ويصر على عودتنا إلى القدس لنخدمها به، قبل يوم من وفاته اجتمعت العائلة فقال لنا موصيا: عليكم بالعلم يا أبنائي ويا أحفادي".
فلسطين-المسجد الأقصى-موظفو الهلال الأحمر في القدس يحملون نعش مديرهم الراحل عبد الله صبري للصلاة عليه في المسجد الأقصى-الجزيرة نت-تصوير طواقم الهلال الأحمر مع الإذن بالنشر
شعلة العمل الخيري
لم يقتصر عطاء الطبيب القلقيلي المقدسي على الطب فقط، فقد نشط في العمل الخيري والتطوعي، وساهم في تأسيس وإدارة العديد من المؤسسات المقدسية، وفق ما قاله نجله الأكبر سعيد للجزيرة نت، حيث أكد أن والده ترأس جمعية المعاقين حركيا، وكان نائب رئيس جمعية الهلال الأحمر في فلسطين والخارج، وعضو مجلس إدارة مستشفى جمعية المقاصد الخيرية، وعضو مجلس إدارة كلية القرآن الكريم، بالإضافة إلى عضويته باللجنة الاستشارية لجامعة القدس.
كان لافتا تأثر موظفي جمعية الهلال الأحمر في القدس بوفاة مدير مؤسستهم الطبيب صبري، فقد وقفوا جميعا في خيمة العزاء وجهدوا لوداع يليق بمن قالوا إنه أبوهم وليس مديرهم.
سونيا أبو صوي التي تعمل رئيسة قسم المشتريات بالجمعية منذ 18 عاما، تقول للجزيرة نت "لقد تيتم الجميع بعد رحيله، كان يعاملنا بتواضع وكأننا أسرة واحدة، ويحرص على نجاحنا وإتقاننا العمل، في آخر اجتماع إداري معه قال لنا: اليوم اجتمعت بكم، ويمكن ألا أكون المرة القادمة، أوصيكم بأن يكون عملكم للقدس وأن تبقوا اسمها عاليا".
رسالتي تنتهي بانتهاء حياتي
في فبراير/شباط الماضي، نال الدكتور صبري "جائزة فلسطين الصحية الأولى 2022" التي منحتها له نقابة الأطباء في فلسطين ومؤسسات أخرى تقديرا لجهوده الطبية والخيرية.
ظلت القدس حاضرة في قلب طبيبها، فقال في أحدث لقاء إعلامي قبل وفاته "رسالتي لا تنتهي إلا بانتهاء حياتي، وأؤمن تماما بأن الطب قمة العمل الإنساني، ربنا إذا أعطى الإنسان الصحة والعافية فيجب أن يستغلها في خدمة مجتمعه.. القدس هي العنوان لفلسطين ولكل المسلمين.. هذه المدينة يجب أن يخدمها كل إنسان ويحافظ عليها لأنها في خطر، العمل العام مهم جدا، كلما عملت أعطاني الله القوة والقدرة، لا أبغي في ذلك إلا رضا الله ثم الوالدين".