سلطة ضد المقاومة
حسن أبو هنية
منذ بداية حرب الإبادة الصهيونية على غزّة المدعومة أمريكيا، حافظت السلطة الفلسطينية على وظيفتها الجوهرية الأمنية التي خُلقت من أجلها كوكيل رخيص للاحتلال للحفاظ على أمن "إسرائيل". فالأجهزة الأمنية للسلطة فشلت منذ تأسيسها في حماية الفلسطينيين من الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وساندت الاحتلال في تفكيك البنية التحتية للمقاومة، وساهمت السلطة بتجريم النضال الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال، ونزعت الشرعية عن عملية مقاومة الاحتلال، وتماهت السلطة الفلسطينية مع التصنيفات الإسرائيلية والأمريكية للمقاومة الفلسطينية ووصمتها بالإرهاب، باعتبار المقاومة "تمردا" إرهابيا يقوض "الاستقرار"، ويهدد "السلام"، في سياق خطاب عولمة "الحرب على الإرهاب" الذي يجرِّم كافة أشكال المقاومة. فالكيفيّة التي تأسست بها السلطة كانت ضد المقاومة، بخلق أداة أمنية تدين بالولاء للمحتل، وتُنسق معه ضد شعبها عامة، وضد المقاومة خاصة.
حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة وانتقالها إلى الضفة الغربية لم تفلح في تغيير وظيفة السلطة الفلسطينية، التي حافظت على مواقفها وسلوكها المناهض للمقاومة والموالي للاحتلال وراعيه الأمريكي، فحرب الإبادة على غزة لم تحرك سلطة رام الله لتغيير موقفها، رغم أكثر من 134 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة. ومع تمدد حرب الإبادة الإسرائيلية إلى الضفة الغربية بالتزامن مع حرب الإبادة على غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، التزمت السلطة وظيفتها بمساندة الاحتلال بطرق عدة، حيث أسفرت حملة الاحتلال العسكرية في الضفة، بما فيها القدس، عن استشهاد نحو 700 فلسطيني بينهم 150 طفلا، وأصيب أكثر من 6 آلاف آخرين، واعتقل أكثر من 10 آلآف فلسطيني.
وفي سياق الالتزام بوظيفتها الجوهرية الأمنية للحفاظ على أمن إسرائيل، قامت السلطة الفلسطينية بالدورَ المنوط بها على أكمل وجه ممكن، حيث تبادلت المعلومات الاستخبارية مع الاحتلال، وكثّفت من مطاردتها للمقاومين وشنت حملة اعتقالات، وأطلقت النار على أفراد من المقاومة في جنين وطولكرم، ولاحقت بعضهم حتى وهم داخل المستشفيات جرحى، وقامت بتفكيك عبوات ناسفة زرعتها المقاومة.
لم تغادر السلطة الفلسطينية وظيفتها الجوهرية عقب عملية "طوفان الأقصى"، فعقب رد خجول على المجازر الإسرائيلية وحرب الإبادة، رفضت السلطة العدوان الإسرائيلي وطالبت بوقفه، وسرعان ما عادت السلطة إلى نهجها الراسخ ضد المقاومة، فعندما قال عباس زكي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، في مقابلة على قناة الميادين، إنه يدعم المقاومة وما قامت به في طوفان الأقصى، صدر قرار من جهات عليا نشر في وكالة وفا الرسمية جاء فيه أن ما جاء على لسان زكي لا يعكس الموقف الرسمي، واستجابت بشكل جزئي للضغوط الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية التي طالبت بإدانة "طوفان الأقصى" الذي شنتها حركة حماس، حيث صدر بيان رسمي باسم القيادة الفلسطينية بأن "حماس" لا تمثل الشعب الفلسطيني، ثم جرى تعديل البيان لاحقا بشطب كلمة "حماس"، واستبداله بأن الفصائل لا تمثل الشعب الفلسطيني، وأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد.
موقف السلطة الفلسطينية الراسخ ضد المقاومة ظهر بصورة جلية واستحق الثناء الأمريكي، فقد تنصل من عملية "طوفان الأقصى"، وحصر المسؤولية في حركة "حماس" والتي اعتبرها "لا تمثل الشعب الفلسطيني". وقد كشف محمود الهباش، مستشار محمود عباس، في مقابلة مع صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أنّ عباس يدين "حماس" في كلّ مكالمة واجتماع يجريه مع قادة العالم منذ عملية طوفان الأقصى، لكنّه لن يفعل ذلك علنا في ظلّ استمرار الحرب في غزة.
وفي 8 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أكّد الرئيس عباس، في مقابلة مع رويترز، موقفه الثابت المتمسّك بالتفاوض بدلا من المقاومة المسلحة لإنهاء الاحتلال، مشيرا إلى أنه مع المقاومة السلمية ومع المفاوضات. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أعلنت دعمها لحرب الإبادة على غزة ووقوفها المطلق في صفّ الاحتلال، لم تعلن السلطة أيّ موقف من الدعم الأمريكي، والتقى الرئيس عباس وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وأبدى تجاوبا مع الطرح الأمريكي الذي تحدّث عن دور للسلطة في غزة، ففي لقاء مع بلينكن عُقد في رام الله في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أبدى عباس استعداده "للمساعدة في إدارة القطاع" بعد "عزل" حركة "حماس". واستحقّ عباس الشكر من بلينكن للمساعدة في "الحفاظ على الهدوء بالضفة الغربية"، حيث شكر وزير الخارجية الأمريكي الرئيس الفلسطيني محمود عباس، على الدور "البالغ الأهمية" الذي تلعبه السلطة في ضبط الضفة ومنعها من أن تكون جبهة اشتعال أخرى في ظل معركة طوفان الأقصى.
رفض الاحتلال الإسرائيلي أي دور للسلطة الفلسطينية في غزة، وأعلن عن رفضه لأي مسار يقود لإقامة دول فلسطينية، وقام باقتحام الضفة الغربية، وأصر على قيام السلطة بوظيفتها الجوهرية بالحفاظ على أمن إسرائيل من خلال التنسيق الأمني، وهو ما استدعى ثناء الولايات المتحدة وتأكيدها على أهمية دور السلطة وأشادت بمواقفها، ففي 18 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تصريحا مثيرا للاهتمام؛ قالت فيه: "رأينا السلطة الفلسطينية تلعب دورا بنّاء في الحفاظ على الاستقرار في الضفة الغربية بعد أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر".
ورغم حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة لم تتخل السلطة عن وظيفة التنسيق الأمني، فمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي تحدّث عن استمرار التنسيق الأمني، وأكدت صحيفة هآرتس على استمرار التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال، ولفت تقرير نشرته صحيفة لوموند الفرنسية في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2023، إلى أن التنسيق الأمني مستمر، وقال مسؤول أمريكي كبير إن قوات السلطة الفلسطينية عملت بشكل استثنائي في منع حركة "حماس" من تنفيذ "أعمال عنف" في الضفة بعد عملية السابع من أكتوبر.
إن الغاية الوحيدة التي أنشئت من أجلها السلطة الفلسطينية، هي الحفاظ على أمن إسرائيل والالتزام بمحاربة المقاومة، وهي الوظيفة التي ترى الولايات المتحدة أنها لا تزال قائمة، بينما ترى إسرائيل أن وظيفة السلطة الأمنية انتهت مع توسع الاستيطان وفقدان السلطة للكفاءة، فعندما دخلت منظمة التحرير الفلسطينية مسار أوسلو كانت الولايات المتحدة وإسرائيل قد حظيتا بما اعتقدتا أنّه شريك مستعد لتطبيق الرؤية الصهيونية "البراغماتية" المُعدّة منذ وقت طويل للفلسطينيين والمعروفة بـ"خطة ألون"، والتي دعت إلى حكم الفلسطينيين من خلال سلطة سياسية وسيطة في إطار تنظيم منزوع السلاح، ومنطقة أشبه بـ"بانتوستان" مقسم جغرافيا، تسيطر إسرائيل على أرضه، دون أن يحظى الفلسطينيون برقابة دولية على الحدود، أو يستعيدوا القدس، ودون الاعتراف بحق عودة للاجئين.
فالأساس الذي قامت عليه السلطة الفلسطينية من خلال اتفاقيات أوسلو، التي تم التوقيع عليها في أيلول/ سبتمبر 1993، هو خلق سلطة متعاونة مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي برعاية أمريكية، للحفاظ على أمن إسرائيل وتفكيك المقاومة. وقد أعقب اتفاقيات أوسلو اتفاقُ القاهرة في أيار/ مايو 1994، والذي نص تحت عنوان "الأمن الفلسطيني" على أن "الشرطة الفلسطينية ستعمل تحت إشراف السلطة الفلسطينية وستكون مسؤولة عن الأمن الداخلي والنظام العام. وسيعمل الفلسطينيون على منع الإرهاب ضد الإسرائيليين في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم"، وتلك كانت أسس تشكيل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي كلّفها الإسرائيليون بقمع وقتل المقاومين الفلسطينيين.
وقد تم إضفاء الطابع الرسمي على هذه الترتيبات مرة أخرى وتم تمديدها في اتفاقية أوسلو الثانية، الموقعة في طابا في أيلول/ سبتمبر 1995، والتي تم الاحتفاء بها بعد أربعة أيام في واشنطن، تحت رعاية وإشراف الرئيس بيل كلينتون وسفير الاتحاد الأوروبي وآخرين، والذين أشرفوا على الحفل، حيث وسّع جيش الاحتلال الإسرائيلي تكليفه "الشرطة الفلسطينية" بـ"المسؤولية عن النظام العام والأمن الداخلي" التي كانت تضم غزة وأريحا في حينه، لكي تضم أيضا ما أصبح تسمى "المنطقة أ" من الضفة الغربية. وقد تعهدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتمويل وتدريب الشرطة الفلسطينية المكلفة بقمع الشعب الفلسطيني وحماية المستعمرين اليهود.
بيّن جلبير الأشقر في كتاب "الشرق الملتهب" الصادر في عام 2004، كيف أن اتفاقيات أوسلو استندت بالكامل إلى الخطة التي صاغها إيغال آلون، أحد أبرز أعضاء الحكومة التي خاضت حرب حزيران/ يونيو، والحال أن "خطة آلون" كانت تنصّ على ضمّ الدولة الصهيونية لمساحات استراتيجية في الضفة الغربية بما فيها غور الأردن، وإعادة المساحات ذات الكثافة السكانية الفلسطينية إلى إشراف عربي (الأردن).
وقد سُئل آلون في عام 1977، وكان حتى ذلك العام وزيرا للخارجية، إذا كان يرى أنه من الممكن تعامل الدولة الصهيونية مع منظمة التحرير الفلسطينية، فأجاب: "بالطبع، إذا كفّت منظمة التحرير الفلسطينية عن أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية، يمكننا الكفّ عن النظر إليها بهذه الصفة. بكلام آخر، إذا تحوّل النمر إلى حصان، يمكننا أن نمتطيه". وقد تحوّل النمر إلى حصان، بما أتاح للدولة الصهيونية أن تركبه عبر سلطة أوسلو، حيث استطاعت الدولة الصهيونية في ظلّ سلطة أوسلو مضاعفة عدد المستعمرات وقاطنيها، واستكمال تحكّمها الاستراتيجي بما فيه استكمال تشييد البنية التحتية الملائمة بالضفة الغربية.
فقد كفّت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن الكفاح من أجل تحرير فلسطين، واستعاضت عن ذلك الحلم التاريخي بحلم آخر ما لبث أن استحال كابوسا، هو وهم تحقيق "الدولة الفلسطينية المستقلة" في الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، من خلال اتفاق مع المحتلّ في ظل ميزان قوى مائل لصالحه بصورة ساحقة، وهو اتفاق لم ينصّ حتى على تجميد الاستيطان الصهيوني. فقد تحوّل النمر إلى حصان، بما أتاح للدولة الصهيونية أن تركبه، وعندما استفاق أبو عمّار بعد فوات الأوان وأراد استعادة دور النمر، تخلّص منه الصهاينة سعيا منهم وراء فسح المجال أمام من هو أقل من حصان.
عقب توقيع أوسلو وملحقاته، حرصت السلطة الفلسطينية على التنسيق الأمني مع إسرائيل، وأدى ذلك إلى ضرب وتفكيك المقاومة في الأراضي المحتلة، وافتخرت السلطة بإفشال العديد من عمليات المقاومة، وشنت السلطة حملات اعتقال واسعة طالت قادة نشطاء حركات المقاومة على رأسها حركة حماس، وقد بلغت ذروة الاعتقالات في شتاء عام 1996، حيث تم اعتقال 2000 من قادة وعناصر حماس، إلى جانب إغلاق مؤسساتها بالكامل في الضفة وغزة.
ومع ذلك، بقي ياسر عرفات يمزج بين التفاوض والمقاومة، ففي أعقاب فشل مؤتمر كامب ديفيد في تموز/ يوليو 2000، ساهمت القيادة الفلسطينية بإشعال انتفاضة الأقصى في 28 أيلول/ سبتمبر 2000، والتي استمرت حتى عام 2005، وهو ما أفضى إلى وقف التعاون الأمني، وأدى إلى حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مقر المقاطعة برام الله حتى وفاته بظروف مريبة في /تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2004، وانتخاب محمود عباس خلفا له.
شهدت حقبة محمود عباس ازدهار التنسيق الأمني، وتنامي النزعة التسلطية، فقد ظل عباس معارضا بشكل مطلق للعمل المسلح ضد الاحتلال، كما دافع بشراسة عن التعاون الأمني مع إسرائيل بوصفه "مصلحة وطنية" فلسطينية، بغضِّ النظر عن السلوك الإسرائيلي إزاء الفلسطينيين. وفي عهده تم حلّ الجناح المسلح لحركة "فتح" (كتائب شهداء الأقصى) عام 2007، وكانت قد تشكلت خلال الانتفاضة بأمر من عرفات، ولم يسمح عباس لحركته (فتح) بلعب أي دور فعلي للإسهام في تبني المقاومة في مواجهة المشروع الاستيطاني وتحدي السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، كما عمدت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة إلى التصدي لكافة أشكال المقاومة وحتى الشعبية السلمية منها، وأحبطتها بالكامل.
لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورا حيويا في بناء التنسيق الأمني وتعزيزه لضمان أمن إسرائيل، ففي عام 2005، عمدت الولايات المتحدة ولأول مرة إلى لعب دور فاعل في تنظيم ومأسسة التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، حيث شكَّلت واشنطن مجلسا لتنسيق التعاون الأمني بين السلطة وإسرائيل، بقيادة الجنرال الأمريكي كيث دايتون، الذي تولى شخصيا مهمة الإشراف على إعداد وتدريب أجهزة السلطة الأمنية لتحسين قدرتها على إحباط العمليات المسلحة للمقاومة. ولم يعمل دايتون على مأسسة التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة وجعله أكثر جدوى فحسب، بل حرص على أن تسهم دورات التدريب التي أشرف عليها في فرض عقيدة أمنية جديدة على المؤسسة الأمنية في السلطة، بحيث يفضي تشرب منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية تلك العقيدة إلى "صناعة الفلسطيني الجديد"، الذي يرى في إحباط العمل المقاوم ضد الاحتلال مصلحة وطنية له. وقد أقر الجيش الإسرائيلي بدور "الإصلاحات" على النظام السياسي الفلسطيني في زيادة فاعلية التعاون الأمني وإسهامها في تحسين ظروف المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية.
وبفعل خطة دايتون، ضربت السلطة الفلسطينية حتى يومنا أجنحة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي سمّتها "العصابات المسلحة"، كما فككت التشكيلات العسكرية لها. وقد أشار دايتون إلى أن الآلاف من أبناء القوى الأمنية الفلسطينية الذين تدربوا بتمويل أمريكي في الأردن، قادوا الحملات الأمنية في مدن الضفة، واعتقلوا المئات من أبناء حماس والجهاد وفصائل المقاومة، وتم ذلك على مستوى تنسيقي واسع المدى بينهم وبين الإسرائيليين.
وقد تكللت خطط دايتون بالنجاح في الضفة الغربية لكنها باءت بالفشل في غزة، بعد سيطرة حركة حماس على القطاع كاملا في تموز/ يوليو 2007، وذلك بعد 17 شهرا من فوز الحركة في الانتخابات البرلمانية في كانون الثاني/ يناير 2006، حيث أوكلت إلى الجنرال دايتون مهمة منع "حماس" من السيطرة على الضفة الغربية، وهي اللحظة التي دفعت بسلطة أوسلو إلى تعزيز التعاون الأمني مع إسرائيل، حيث استثمر الاحتلال الفرصة لابتزاز قيادة السلطة وإجبارها على إبداء أكبر قدر من التعاون الأمني في الضفة، بحجة أن التعاون في مواجهة حركات المقاومة ضرورة لضمان بقاء حكم فتح وعدم السماح لحماس بتكرار "نجاحاتها" في الضفة، وقد ترافق ذلك بمجيء سلام فياض كرئيس للوزراء، الذي تبنى سياسات اقتصادية نيو ليبرالية أفضت إلى ترسيخ التبعية الاقتصادية والتبعية الأمنية لإسرائيل.
في محاضرة ألقاها دايتون في ندوة لمعهد واشنطن في 7 / أيار/ مايو 2009، بعنوان "السلام من خلال الأمن: الدور الأمريكي في تطوير قوات أمن السلطة الفلسطينية"، تفاخر بصياغة العقيدة الأمنية لأجهزة السلطة الأمنية، وقال: دعوني أقتبس لكم، على سبيل المثال، ملاحظات على التخرُّج من كلمة لضابط فلسطيني كبير من الخرِّيجين وهو يتحدث إليهم في اجتماع لهم في الأردن في الشهر الماضي، قال: "أنتم يا رجال فلسطين، قد تعلمتم هنا كيف تحققون أمن وسلامة الشعب الفلسطيني.. أنتم تتحمَّلون المسئولية عن الشعب ومسئولية أنفسكم.. لم تأتوا إلى هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل، بل جئتم إلى هنا لتتعلموا كيف تحفظون النظام وتصونون القانون، وتحترمون حقوق جميع مواطنيكم، وتطبِّقون حكم القانون من أجل أن نتمكن من العيش بأمن وسلام مع إسرائيل".
منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، تجاوزت المساعدات الأمريكية والأوروبية الموجهة للسلطة 30 مليار دولار أمريكي، وهي مساعدات تهدف إلى ضمان أمن الاحتلال، فالهدف الأول للمساعدات الأمريكية للفلسطينيين، بموجب وثائق الكونغرس، مشروطة بـ"صد الإرهاب ضد إسرائيل ومحاربته"، وتعني سياسة "أمن إسرائيل أولا"، فيما تعنيه ضخ ملايين الدولارات الأمريكية في المؤسسة الأمنية الفلسطينية، من أجل "مهننة" عملها لتضمن الاستقرار وحفظ أمن "إسرائيل" واحتلالها وقطعان مستوطنيها ومستعمريها. وبموجب هذا المنطق الأعوج، أضحت السلطة الفلسطينية مقاولا للاحتلال الإسرائيلي، ولكن هذه المساعدات لم تدم الاحتلال الإسرائيلي فحسب، وإنما جعلته مربحا لإسرائيل ولاقتصادها وشركاتها. وقد ربطت كل من إسرائيل والدول المانحة استمرار العملية التفاوضية وتواصل الدعم الدولي والمالي للسلطة بمدى قدرتها على وقف عمليات المقاومة، وضمن ذلك انخراط أجهزة السلطة الأمنية في أنشطة ضد حركات المقاومة بالتنسيق مع الجيش والمخابرات الإسرائيلية.
خلاصة القول أن سلطة أوسلو التي أنشأها الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي، وبدعم من الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، هدفت منذ البداية إلى تقويض كافة أشكال المقاومة، وفي مقدمتها المقاومة المسلحة. أنشئت السلطة الفلسطينية لتقوم بدور الوسيط بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني المحتَل، واضطلعت السلطة بمهام الحفاظ على "أمن إسرائيل" من خلال الأجهزة الأمنية، وحكم الفلسطينيين من خلال الأجهزة البيروقراطية، وفق معايير ومفاهيم نيو ليبرالية، وهرطقات "بناء الدولة" دون وجود أي أفق للدولة المتخيلة المنزوعة السلاح والسيادة.
فالسلطة غدت وظيفة تحتوي على عشرات الآلاف من الموظفين في أجهزة أمنية، وبيروقراطية متضخمة احتوتهم سلطة زبائنية على أساس الولاء ومناهضة المقاومة، فاتفاق أوسلو أنشأ سلطة فلسطينية وسيطة بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب المحتَل، تقتصر وظيفتها على الحفاظ على "أمن إسرائيل" وتفكيك بنى المقاومة. ورغم حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني التي تشنها إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة، لا تزال سلطة أوسلو وفيّة لوظيفتها الجوهرية بالحفاظ على أمن المستعمرة الصهيونية ومحاربة المقاومة وتجريمها ومساواتها بالإرهاب.
حسن أبو هنية
منذ بداية حرب الإبادة الصهيونية على غزّة المدعومة أمريكيا، حافظت السلطة الفلسطينية على وظيفتها الجوهرية الأمنية التي خُلقت من أجلها كوكيل رخيص للاحتلال للحفاظ على أمن "إسرائيل". فالأجهزة الأمنية للسلطة فشلت منذ تأسيسها في حماية الفلسطينيين من الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وساندت الاحتلال في تفكيك البنية التحتية للمقاومة، وساهمت السلطة بتجريم النضال الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال، ونزعت الشرعية عن عملية مقاومة الاحتلال، وتماهت السلطة الفلسطينية مع التصنيفات الإسرائيلية والأمريكية للمقاومة الفلسطينية ووصمتها بالإرهاب، باعتبار المقاومة "تمردا" إرهابيا يقوض "الاستقرار"، ويهدد "السلام"، في سياق خطاب عولمة "الحرب على الإرهاب" الذي يجرِّم كافة أشكال المقاومة. فالكيفيّة التي تأسست بها السلطة كانت ضد المقاومة، بخلق أداة أمنية تدين بالولاء للمحتل، وتُنسق معه ضد شعبها عامة، وضد المقاومة خاصة.
حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة وانتقالها إلى الضفة الغربية لم تفلح في تغيير وظيفة السلطة الفلسطينية، التي حافظت على مواقفها وسلوكها المناهض للمقاومة والموالي للاحتلال وراعيه الأمريكي، فحرب الإبادة على غزة لم تحرك سلطة رام الله لتغيير موقفها، رغم أكثر من 134 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة. ومع تمدد حرب الإبادة الإسرائيلية إلى الضفة الغربية بالتزامن مع حرب الإبادة على غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، التزمت السلطة وظيفتها بمساندة الاحتلال بطرق عدة، حيث أسفرت حملة الاحتلال العسكرية في الضفة، بما فيها القدس، عن استشهاد نحو 700 فلسطيني بينهم 150 طفلا، وأصيب أكثر من 6 آلاف آخرين، واعتقل أكثر من 10 آلآف فلسطيني.
وفي سياق الالتزام بوظيفتها الجوهرية الأمنية للحفاظ على أمن إسرائيل، قامت السلطة الفلسطينية بالدورَ المنوط بها على أكمل وجه ممكن، حيث تبادلت المعلومات الاستخبارية مع الاحتلال، وكثّفت من مطاردتها للمقاومين وشنت حملة اعتقالات، وأطلقت النار على أفراد من المقاومة في جنين وطولكرم، ولاحقت بعضهم حتى وهم داخل المستشفيات جرحى، وقامت بتفكيك عبوات ناسفة زرعتها المقاومة.
لم تغادر السلطة الفلسطينية وظيفتها الجوهرية عقب عملية "طوفان الأقصى"، فعقب رد خجول على المجازر الإسرائيلية وحرب الإبادة، رفضت السلطة العدوان الإسرائيلي وطالبت بوقفه، وسرعان ما عادت السلطة إلى نهجها الراسخ ضد المقاومة، فعندما قال عباس زكي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، في مقابلة على قناة الميادين، إنه يدعم المقاومة وما قامت به في طوفان الأقصى، صدر قرار من جهات عليا نشر في وكالة وفا الرسمية جاء فيه أن ما جاء على لسان زكي لا يعكس الموقف الرسمي، واستجابت بشكل جزئي للضغوط الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية التي طالبت بإدانة "طوفان الأقصى" الذي شنتها حركة حماس، حيث صدر بيان رسمي باسم القيادة الفلسطينية بأن "حماس" لا تمثل الشعب الفلسطيني، ثم جرى تعديل البيان لاحقا بشطب كلمة "حماس"، واستبداله بأن الفصائل لا تمثل الشعب الفلسطيني، وأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد.
موقف السلطة الفلسطينية الراسخ ضد المقاومة ظهر بصورة جلية واستحق الثناء الأمريكي، فقد تنصل من عملية "طوفان الأقصى"، وحصر المسؤولية في حركة "حماس" والتي اعتبرها "لا تمثل الشعب الفلسطيني". وقد كشف محمود الهباش، مستشار محمود عباس، في مقابلة مع صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أنّ عباس يدين "حماس" في كلّ مكالمة واجتماع يجريه مع قادة العالم منذ عملية طوفان الأقصى، لكنّه لن يفعل ذلك علنا في ظلّ استمرار الحرب في غزة.
وفي 8 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أكّد الرئيس عباس، في مقابلة مع رويترز، موقفه الثابت المتمسّك بالتفاوض بدلا من المقاومة المسلحة لإنهاء الاحتلال، مشيرا إلى أنه مع المقاومة السلمية ومع المفاوضات. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أعلنت دعمها لحرب الإبادة على غزة ووقوفها المطلق في صفّ الاحتلال، لم تعلن السلطة أيّ موقف من الدعم الأمريكي، والتقى الرئيس عباس وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وأبدى تجاوبا مع الطرح الأمريكي الذي تحدّث عن دور للسلطة في غزة، ففي لقاء مع بلينكن عُقد في رام الله في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أبدى عباس استعداده "للمساعدة في إدارة القطاع" بعد "عزل" حركة "حماس". واستحقّ عباس الشكر من بلينكن للمساعدة في "الحفاظ على الهدوء بالضفة الغربية"، حيث شكر وزير الخارجية الأمريكي الرئيس الفلسطيني محمود عباس، على الدور "البالغ الأهمية" الذي تلعبه السلطة في ضبط الضفة ومنعها من أن تكون جبهة اشتعال أخرى في ظل معركة طوفان الأقصى.
رفض الاحتلال الإسرائيلي أي دور للسلطة الفلسطينية في غزة، وأعلن عن رفضه لأي مسار يقود لإقامة دول فلسطينية، وقام باقتحام الضفة الغربية، وأصر على قيام السلطة بوظيفتها الجوهرية بالحفاظ على أمن إسرائيل من خلال التنسيق الأمني، وهو ما استدعى ثناء الولايات المتحدة وتأكيدها على أهمية دور السلطة وأشادت بمواقفها، ففي 18 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تصريحا مثيرا للاهتمام؛ قالت فيه: "رأينا السلطة الفلسطينية تلعب دورا بنّاء في الحفاظ على الاستقرار في الضفة الغربية بعد أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر".
ورغم حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة لم تتخل السلطة عن وظيفة التنسيق الأمني، فمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي تحدّث عن استمرار التنسيق الأمني، وأكدت صحيفة هآرتس على استمرار التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال، ولفت تقرير نشرته صحيفة لوموند الفرنسية في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2023، إلى أن التنسيق الأمني مستمر، وقال مسؤول أمريكي كبير إن قوات السلطة الفلسطينية عملت بشكل استثنائي في منع حركة "حماس" من تنفيذ "أعمال عنف" في الضفة بعد عملية السابع من أكتوبر.
إن الغاية الوحيدة التي أنشئت من أجلها السلطة الفلسطينية، هي الحفاظ على أمن إسرائيل والالتزام بمحاربة المقاومة، وهي الوظيفة التي ترى الولايات المتحدة أنها لا تزال قائمة، بينما ترى إسرائيل أن وظيفة السلطة الأمنية انتهت مع توسع الاستيطان وفقدان السلطة للكفاءة، فعندما دخلت منظمة التحرير الفلسطينية مسار أوسلو كانت الولايات المتحدة وإسرائيل قد حظيتا بما اعتقدتا أنّه شريك مستعد لتطبيق الرؤية الصهيونية "البراغماتية" المُعدّة منذ وقت طويل للفلسطينيين والمعروفة بـ"خطة ألون"، والتي دعت إلى حكم الفلسطينيين من خلال سلطة سياسية وسيطة في إطار تنظيم منزوع السلاح، ومنطقة أشبه بـ"بانتوستان" مقسم جغرافيا، تسيطر إسرائيل على أرضه، دون أن يحظى الفلسطينيون برقابة دولية على الحدود، أو يستعيدوا القدس، ودون الاعتراف بحق عودة للاجئين.
فالأساس الذي قامت عليه السلطة الفلسطينية من خلال اتفاقيات أوسلو، التي تم التوقيع عليها في أيلول/ سبتمبر 1993، هو خلق سلطة متعاونة مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي برعاية أمريكية، للحفاظ على أمن إسرائيل وتفكيك المقاومة. وقد أعقب اتفاقيات أوسلو اتفاقُ القاهرة في أيار/ مايو 1994، والذي نص تحت عنوان "الأمن الفلسطيني" على أن "الشرطة الفلسطينية ستعمل تحت إشراف السلطة الفلسطينية وستكون مسؤولة عن الأمن الداخلي والنظام العام. وسيعمل الفلسطينيون على منع الإرهاب ضد الإسرائيليين في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم"، وتلك كانت أسس تشكيل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي كلّفها الإسرائيليون بقمع وقتل المقاومين الفلسطينيين.
وقد تم إضفاء الطابع الرسمي على هذه الترتيبات مرة أخرى وتم تمديدها في اتفاقية أوسلو الثانية، الموقعة في طابا في أيلول/ سبتمبر 1995، والتي تم الاحتفاء بها بعد أربعة أيام في واشنطن، تحت رعاية وإشراف الرئيس بيل كلينتون وسفير الاتحاد الأوروبي وآخرين، والذين أشرفوا على الحفل، حيث وسّع جيش الاحتلال الإسرائيلي تكليفه "الشرطة الفلسطينية" بـ"المسؤولية عن النظام العام والأمن الداخلي" التي كانت تضم غزة وأريحا في حينه، لكي تضم أيضا ما أصبح تسمى "المنطقة أ" من الضفة الغربية. وقد تعهدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتمويل وتدريب الشرطة الفلسطينية المكلفة بقمع الشعب الفلسطيني وحماية المستعمرين اليهود.
بيّن جلبير الأشقر في كتاب "الشرق الملتهب" الصادر في عام 2004، كيف أن اتفاقيات أوسلو استندت بالكامل إلى الخطة التي صاغها إيغال آلون، أحد أبرز أعضاء الحكومة التي خاضت حرب حزيران/ يونيو، والحال أن "خطة آلون" كانت تنصّ على ضمّ الدولة الصهيونية لمساحات استراتيجية في الضفة الغربية بما فيها غور الأردن، وإعادة المساحات ذات الكثافة السكانية الفلسطينية إلى إشراف عربي (الأردن).
وقد سُئل آلون في عام 1977، وكان حتى ذلك العام وزيرا للخارجية، إذا كان يرى أنه من الممكن تعامل الدولة الصهيونية مع منظمة التحرير الفلسطينية، فأجاب: "بالطبع، إذا كفّت منظمة التحرير الفلسطينية عن أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية، يمكننا الكفّ عن النظر إليها بهذه الصفة. بكلام آخر، إذا تحوّل النمر إلى حصان، يمكننا أن نمتطيه". وقد تحوّل النمر إلى حصان، بما أتاح للدولة الصهيونية أن تركبه عبر سلطة أوسلو، حيث استطاعت الدولة الصهيونية في ظلّ سلطة أوسلو مضاعفة عدد المستعمرات وقاطنيها، واستكمال تحكّمها الاستراتيجي بما فيه استكمال تشييد البنية التحتية الملائمة بالضفة الغربية.
فقد كفّت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن الكفاح من أجل تحرير فلسطين، واستعاضت عن ذلك الحلم التاريخي بحلم آخر ما لبث أن استحال كابوسا، هو وهم تحقيق "الدولة الفلسطينية المستقلة" في الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، من خلال اتفاق مع المحتلّ في ظل ميزان قوى مائل لصالحه بصورة ساحقة، وهو اتفاق لم ينصّ حتى على تجميد الاستيطان الصهيوني. فقد تحوّل النمر إلى حصان، بما أتاح للدولة الصهيونية أن تركبه، وعندما استفاق أبو عمّار بعد فوات الأوان وأراد استعادة دور النمر، تخلّص منه الصهاينة سعيا منهم وراء فسح المجال أمام من هو أقل من حصان.
عقب توقيع أوسلو وملحقاته، حرصت السلطة الفلسطينية على التنسيق الأمني مع إسرائيل، وأدى ذلك إلى ضرب وتفكيك المقاومة في الأراضي المحتلة، وافتخرت السلطة بإفشال العديد من عمليات المقاومة، وشنت السلطة حملات اعتقال واسعة طالت قادة نشطاء حركات المقاومة على رأسها حركة حماس، وقد بلغت ذروة الاعتقالات في شتاء عام 1996، حيث تم اعتقال 2000 من قادة وعناصر حماس، إلى جانب إغلاق مؤسساتها بالكامل في الضفة وغزة.
ومع ذلك، بقي ياسر عرفات يمزج بين التفاوض والمقاومة، ففي أعقاب فشل مؤتمر كامب ديفيد في تموز/ يوليو 2000، ساهمت القيادة الفلسطينية بإشعال انتفاضة الأقصى في 28 أيلول/ سبتمبر 2000، والتي استمرت حتى عام 2005، وهو ما أفضى إلى وقف التعاون الأمني، وأدى إلى حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مقر المقاطعة برام الله حتى وفاته بظروف مريبة في /تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2004، وانتخاب محمود عباس خلفا له.
شهدت حقبة محمود عباس ازدهار التنسيق الأمني، وتنامي النزعة التسلطية، فقد ظل عباس معارضا بشكل مطلق للعمل المسلح ضد الاحتلال، كما دافع بشراسة عن التعاون الأمني مع إسرائيل بوصفه "مصلحة وطنية" فلسطينية، بغضِّ النظر عن السلوك الإسرائيلي إزاء الفلسطينيين. وفي عهده تم حلّ الجناح المسلح لحركة "فتح" (كتائب شهداء الأقصى) عام 2007، وكانت قد تشكلت خلال الانتفاضة بأمر من عرفات، ولم يسمح عباس لحركته (فتح) بلعب أي دور فعلي للإسهام في تبني المقاومة في مواجهة المشروع الاستيطاني وتحدي السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، كما عمدت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة إلى التصدي لكافة أشكال المقاومة وحتى الشعبية السلمية منها، وأحبطتها بالكامل.
لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورا حيويا في بناء التنسيق الأمني وتعزيزه لضمان أمن إسرائيل، ففي عام 2005، عمدت الولايات المتحدة ولأول مرة إلى لعب دور فاعل في تنظيم ومأسسة التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، حيث شكَّلت واشنطن مجلسا لتنسيق التعاون الأمني بين السلطة وإسرائيل، بقيادة الجنرال الأمريكي كيث دايتون، الذي تولى شخصيا مهمة الإشراف على إعداد وتدريب أجهزة السلطة الأمنية لتحسين قدرتها على إحباط العمليات المسلحة للمقاومة. ولم يعمل دايتون على مأسسة التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة وجعله أكثر جدوى فحسب، بل حرص على أن تسهم دورات التدريب التي أشرف عليها في فرض عقيدة أمنية جديدة على المؤسسة الأمنية في السلطة، بحيث يفضي تشرب منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية تلك العقيدة إلى "صناعة الفلسطيني الجديد"، الذي يرى في إحباط العمل المقاوم ضد الاحتلال مصلحة وطنية له. وقد أقر الجيش الإسرائيلي بدور "الإصلاحات" على النظام السياسي الفلسطيني في زيادة فاعلية التعاون الأمني وإسهامها في تحسين ظروف المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية.
وبفعل خطة دايتون، ضربت السلطة الفلسطينية حتى يومنا أجنحة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي سمّتها "العصابات المسلحة"، كما فككت التشكيلات العسكرية لها. وقد أشار دايتون إلى أن الآلاف من أبناء القوى الأمنية الفلسطينية الذين تدربوا بتمويل أمريكي في الأردن، قادوا الحملات الأمنية في مدن الضفة، واعتقلوا المئات من أبناء حماس والجهاد وفصائل المقاومة، وتم ذلك على مستوى تنسيقي واسع المدى بينهم وبين الإسرائيليين.
وقد تكللت خطط دايتون بالنجاح في الضفة الغربية لكنها باءت بالفشل في غزة، بعد سيطرة حركة حماس على القطاع كاملا في تموز/ يوليو 2007، وذلك بعد 17 شهرا من فوز الحركة في الانتخابات البرلمانية في كانون الثاني/ يناير 2006، حيث أوكلت إلى الجنرال دايتون مهمة منع "حماس" من السيطرة على الضفة الغربية، وهي اللحظة التي دفعت بسلطة أوسلو إلى تعزيز التعاون الأمني مع إسرائيل، حيث استثمر الاحتلال الفرصة لابتزاز قيادة السلطة وإجبارها على إبداء أكبر قدر من التعاون الأمني في الضفة، بحجة أن التعاون في مواجهة حركات المقاومة ضرورة لضمان بقاء حكم فتح وعدم السماح لحماس بتكرار "نجاحاتها" في الضفة، وقد ترافق ذلك بمجيء سلام فياض كرئيس للوزراء، الذي تبنى سياسات اقتصادية نيو ليبرالية أفضت إلى ترسيخ التبعية الاقتصادية والتبعية الأمنية لإسرائيل.
في محاضرة ألقاها دايتون في ندوة لمعهد واشنطن في 7 / أيار/ مايو 2009، بعنوان "السلام من خلال الأمن: الدور الأمريكي في تطوير قوات أمن السلطة الفلسطينية"، تفاخر بصياغة العقيدة الأمنية لأجهزة السلطة الأمنية، وقال: دعوني أقتبس لكم، على سبيل المثال، ملاحظات على التخرُّج من كلمة لضابط فلسطيني كبير من الخرِّيجين وهو يتحدث إليهم في اجتماع لهم في الأردن في الشهر الماضي، قال: "أنتم يا رجال فلسطين، قد تعلمتم هنا كيف تحققون أمن وسلامة الشعب الفلسطيني.. أنتم تتحمَّلون المسئولية عن الشعب ومسئولية أنفسكم.. لم تأتوا إلى هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل، بل جئتم إلى هنا لتتعلموا كيف تحفظون النظام وتصونون القانون، وتحترمون حقوق جميع مواطنيكم، وتطبِّقون حكم القانون من أجل أن نتمكن من العيش بأمن وسلام مع إسرائيل".
منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، تجاوزت المساعدات الأمريكية والأوروبية الموجهة للسلطة 30 مليار دولار أمريكي، وهي مساعدات تهدف إلى ضمان أمن الاحتلال، فالهدف الأول للمساعدات الأمريكية للفلسطينيين، بموجب وثائق الكونغرس، مشروطة بـ"صد الإرهاب ضد إسرائيل ومحاربته"، وتعني سياسة "أمن إسرائيل أولا"، فيما تعنيه ضخ ملايين الدولارات الأمريكية في المؤسسة الأمنية الفلسطينية، من أجل "مهننة" عملها لتضمن الاستقرار وحفظ أمن "إسرائيل" واحتلالها وقطعان مستوطنيها ومستعمريها. وبموجب هذا المنطق الأعوج، أضحت السلطة الفلسطينية مقاولا للاحتلال الإسرائيلي، ولكن هذه المساعدات لم تدم الاحتلال الإسرائيلي فحسب، وإنما جعلته مربحا لإسرائيل ولاقتصادها وشركاتها. وقد ربطت كل من إسرائيل والدول المانحة استمرار العملية التفاوضية وتواصل الدعم الدولي والمالي للسلطة بمدى قدرتها على وقف عمليات المقاومة، وضمن ذلك انخراط أجهزة السلطة الأمنية في أنشطة ضد حركات المقاومة بالتنسيق مع الجيش والمخابرات الإسرائيلية.
خلاصة القول أن سلطة أوسلو التي أنشأها الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي، وبدعم من الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، هدفت منذ البداية إلى تقويض كافة أشكال المقاومة، وفي مقدمتها المقاومة المسلحة. أنشئت السلطة الفلسطينية لتقوم بدور الوسيط بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني المحتَل، واضطلعت السلطة بمهام الحفاظ على "أمن إسرائيل" من خلال الأجهزة الأمنية، وحكم الفلسطينيين من خلال الأجهزة البيروقراطية، وفق معايير ومفاهيم نيو ليبرالية، وهرطقات "بناء الدولة" دون وجود أي أفق للدولة المتخيلة المنزوعة السلاح والسيادة.
فالسلطة غدت وظيفة تحتوي على عشرات الآلاف من الموظفين في أجهزة أمنية، وبيروقراطية متضخمة احتوتهم سلطة زبائنية على أساس الولاء ومناهضة المقاومة، فاتفاق أوسلو أنشأ سلطة فلسطينية وسيطة بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب المحتَل، تقتصر وظيفتها على الحفاظ على "أمن إسرائيل" وتفكيك بنى المقاومة. ورغم حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني التي تشنها إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة، لا تزال سلطة أوسلو وفيّة لوظيفتها الجوهرية بالحفاظ على أمن المستعمرة الصهيونية ومحاربة المقاومة وتجريمها ومساواتها بالإرهاب.