حرب غزة والنموذج المقاوم.. هذا ما يجب التحرر منه
هشام جعفر
الحرب الجارية على المنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هي الحرب السادسة عشرة في تاريخ الحروب العربية- الإسرائيلية، وفق رصد أ.د. نادية مصطفى، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة. وهي بهذا تستكمل ما قام به المستشار طارق البشري – المفكر والقاضي المصري رحمه الله – الذي يميز في محاضرة وورقة مهمة بين أنماط هذه السلسلة من الحروب، ويشير إلى الأنماط الأجدر لمهام المقاومة والتحرير.
ففي رأي البشري أن العدوانَ على غزة 2008-2009 – حين كتب ورقته – هو الحرب الثانية عشرة في سلسلة حروب متواصلة من 1948 حتى 2008؛ سواء كانت حروبًا نظامية أم شعبية، ومتضمنة الحروب الأميركية مع الإسرائيلية على أساس أنها كتلة واحدة.
وهذه الحروب هي: حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967، ثم حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل بين حرب 1967 وحرب 1973. هذه الحروب الخمس كانت مصر مشاركة فيها، بل كانت المقاتل الرئيسي فيها، لكن بعد حرب 1973 لم تَعُدْ مصر تحارب.
جاءت بعد ذلك سبع حروب هي: حرب 1982 باجتياح لبنان، الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 في أرض فلسطين، حرب الأميركان في الكويت والعراق سنة 1991، الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أرض فلسطين عام 2000، حرب العراق سنة 2003، حرب لبنان 2006، وصولًا إلى الحرب الثانية عشرة بالعدوان على غزة 2008/2009.
تمثِّل هذه الحروب – في نظر البشري – حربًا واحدةً عبر معارك متسلسلة؛ هي حرب واحدة ومستمرة مع عدو إستراتيجي؛ سواء أكانت حروبًا نظامية أو حروبًا شعبية.
ولقد جرت دراسة جميع هذه الحروب والمعارك وما تلاها في 2012، 2014، 2018، 2021 وكذلك ما سبقها، من حيث طبيعتها؛ ومن حيث علاقاتها بالسياسة، على نحو متراكم وعبر عقود متتالية؛ ابتداءً من نشأة جذور الصراع؛ أي منذ ما يزيد عن القرن حتى الآن. لكن مع كل معركة جديدة في صراع سيمتد معنا لعقود قادمة؛ يحسن أن نتوقف لنستخلص الاتجاهات التاريخية، كما يرسمها نموذج التحرير والمقاومة.
إن إحدى سمات نموذج المقاومة/ التحرير هي سيرورته التي لا تجد معناها في الامتداد التاريخي فقط؛ بل أيضًا في نضالات مستمرة تخبو حينًا، ولكنها سرعان ما تعاود الفعل الانتفاضي بأشكال جديدة.
من المهم التفكير في الطوفان باعتباره جزءًا من نضال الشعب الفلسطيني على مدار قرن أو يزيد، ونضالات الشعوب العربية نحو التحرر من العجز، وهو لا يمكن النظر إليه باعتباره حدثًا يمكن أن يفشل أو ينجح. فهْم البعد الزمني أمر حاسم في هذا القبيل؛ حيث إن إدراك تأثير الوقائع في مجمل عملية التحرر، يُكتب بأثر رجعي.
ونقطة البدء في بناء النموذج المقاوم/ التحرر هي: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟
أولًا: نظام رسمي عربي لم تعد له هوية واضحة
وهو نظام لم تعد له هوية واضحة، أصابه التفتت والانقسام، وباتت مكونات منه جزءًا من نظام صهيو/عربي يجري مأسسته بعد أن دشنته اتفاقات التطبيع.
أظهر الطوفان أن هناك أنظمة عربية لم تقم بواجب النصرة والمساندة للفلسطينيين فقط؛ بل تآمرت عليهم وقدمت الدعم المادي والمعنوي للكيان الصهيوني وبشكل علني، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع. قبل ذلك ربما تم ذلك من بعض الأنظمة، ولكنه كان يجري بشكل مستتر وخفي.
يستند هذا النظام إلى أسس أربعة:
المصالح القُطرية أولًا.
المصالح الاقتصادية تقود السياسة.
إخراج القيم من المشهد، حيث البراغماتية – تحت عنوان الواقعية – هي التي يجب أن تسود.
القفز على تطلعات الجماهير.
برز مع الطوفان الاختلاف الواضح بين موقف الأنظمة العربية من مساندة الفلسطينيين الذي اقتصر على التصريحات والبيانات اللفظية، وقد يمتد إلى الإغاثة، وبين موقف الشعوب العربية التي انحازت في مجملها لدعم ومساندة الفلسطينيين.
سبق أن تعرضت في مقال سابق لهذه السمات بالتفصيل والتي يطلق عليها البعض “الشرق الأوسط الجديد”، لكن الجديد الذي كشف عنه الطوفان هو كيف باتت إسرائيل جزءًا وأحد مكونات هذا النظام رغبًا ورهبًا؛ رغبًا من خلال قيام بعض الأنظمة ببناء مصالح مشتركة معها، ورهبًا من خلال التوحش المدعوم غربيًا، وهي تتطلع أن تقود هذا النظام في شقه الأمني على الأقل.
ثانيًا: عجز شعبي عربي عن النصرة والمساندة
العرب والمسلمون – شعوبًا وحكومات – هم أقل المساهمين في نصرة الفلسطينيين. المشكلة أن الدولة العربية تحجب نصرة الشعوب وتحول دون التعبير عن مواقفهم بحرية. الموقف الشعبي العربي يدفع الفلسطينيون ثمنَه بحرمان الأنظمة شعوبَها من الحرية وانتشار القمع بينهم، كما يدفعون ثمنه من إنهاك يتعرضون له بحكم سياسات نيوليبرالية شرسة.
لا أدري إن بات قطاع معتبر من الشعوب العربية يدرك وحدة ساحات النضال لديه؟ فهذه الحكومات التي خذلت الفلسطينيين وتخلت عنهم هي المسؤول الأول عن إفقارهم وسوء معيشتهم. بات الأخيرون جزءًا من مشاريع نيوليبرالية معولمة تعود عليهم فقط وعلى تحالف حكمهم الضيق بالمنافع والامتيازات دون الشعوب التي بات الإنهاك يحيط بها في كل ركن من حياتها.
المواطن العربي المنهك يشعر بثقل ووطأة المأساة، ولكنْ هناك أولويات وضغوط أخرى: اجتمعت على كثير من المواطنين العرب ضغوط كثيرة، فالمجتمع يرزح تحت وطأة سياسات اقتصادية ذات طبيعة نيوليبرالية شرسة تدفع بطبقاته الوسطى والدنيا إلى الانصراف إلى توفير الحياة الكريمة – في حدودها الدنيا – لهم ولأسرهم، وتحيط به الصراعات في كل مكان؛ كما في ليبيا، والسودان، وسوريا.
ثالثًا: التطبيع مع الإبادة
على مدار 10 سنوات أو يزيد، تم تطبيعنا – نحن الشعوب العربية – مع الإبادة الجماعية وعنف الدولة والمجموعات والتنظيمات غير الرسمية، ومن ثم كانت الحرب على الفلسطينيين واللبنانيين بعد “طوفان الأقصى” – للأسف – إحدى الحلقات المستمرة لعملية التطبيع هذه. يبدو الفاعل مختلفًا هذه المرّة، وتتباين الشعوب التي تتعرض لها، لكن تظل التأثيرات واحدة والتداعيات مشتركة ومستمرة.
على مدار العقد الماضي، تفشت ولا تزال الحروب الأهلية في المنطقة، وشارك فيها الجميع بالدعم والمساندة أو بالصمت والسكوت. جرى إخفاء الضحايا والتحلل من المسؤولية الواجبة بالدعاية أو إثارة الجدل السياسي أو الاستقطاب أو تحميل المسؤولية للآخرين أو بإثارة الأسئلة الخاطئة في اللحظة التي يتعرّض فيها البشر للإبادة.
أدرك الفلسطينيون في حرب الإبادة أنهم وحدهم؛ فلم يسعفهم تضامن الآخرين: لا مظاهرات الجامعات الأميركية، ولا قرارات محكمة العدل والمنظمات الدولية، ولا مساندة الشعوب، ولا تصريحات المسؤولين، ولا الاعتراف بدولتهم.. فالمعاناة والمأساة اللتان يكابدونهما في كل لحظة هما معاناتهم ومأساتهم وحدهم.
من أبرز ما جرى في الطوفان هو التكيف المعرفي مع الإبادة. جرى ذلك عن طريق تزويدنا بروايات ودعايات سياسية لقبول العنف مثل: عمل المقاومة لصالح إيران وبقرار منها، أو أنها حين قامت بعملية طوفان الأقصى لم تستشر الفلسطينيين، أو أنها من جماعات الإسلام السياسي وفصيل من الإخوان الموصومين بالإرهاب، أو أنها غير وطنية، أو على أقل تقدير خرجت عن الإجماع الوطني، أو أنهم يستحقون ما يتعرضون له؛ فعلى نفسها جنت براقش، وأخيرًا وليس آخرًا؛ شريكة في الإبادة مع الإسرائيليين – كما صرح أحد مسؤولي السلطة الفلسطينية.
رابعًا: التحرر من الاستعمار المباشر وغير المباشر
هذا الاستعمار – بشكله القديم والمتجدد – هو المكون الرابع مما ينبغي أن نتحرر منه كسبيل لبناء النموذج المقاوم. أعادتنا الحرب الجارية في المنطقة لأكثر من عام للتساؤل عن: هل تحررنا نحن العرب من الاستعمار حقًا؟
كشفت الحرب على غزة حقائق خمسًا يجب أن نتوقف أمامها طويلًا:
نمط الحكم المطروح في المنطقة اليوم هو النمط الاستبدادي الحداثي النيوليبرالي، مكونات ثلاثة تضاد مكونات الاستقلال الوطني جميعًا.
نظرية الأمن الإقليمي تعتمد أساسًا على المكون الخارجي؛ فقد عجزت النظم العربية جميعًا عن توفير الأمن إلا بالاعتماد على مزود خارجي، وهو الولايات المتحدة أساسًا، التي انتشرت قواعدها العسكرية وجنودها في كل مكان في المنطقة (يتمركز نحو 30 ألفًا من جنودها بشكل دائم في العشرات من القواعد العسكرية المنتشرة في أكثر من 15 دولة في الإقليم)، وقدمت من خلالها الدعم المباشر وغير المباشر لإسرائيل. لقد أصبح الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة أكثر وضوحًا، وعليه طُلب من كثير من البلدان؛ لمواجهة التهديدات الخارجية – خاصة من قبل إيران وحلفائها اليوم، وقبلها صدام حسين – كما جرى في حرب الخليج الأولى 1991.
مكونات عربية تمتلك الوفورات المالية والقدرات الاستثمارية الهائلة ما مكّنها من أن تكون جزءًا متماهيًا ومندمجًا في بنية الرأسمالية المعولمة. هي تسعى – خاصة في حقبة الربيع العربي، التي بدأت موجتها الأولى في العقد الثاني من هذا القرن – للسيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية أيضًا. في الأولى قادت ثورة مضادة لوأد الحراك الديمقراطي في المنطقة، وفي الثانية رهنت القرار الاقتصادي الوطني لكثير من دول الإقليم لتدفقات معوناتها واستثماراتها وللمنظمات المالية الدولية؛ كصندوق النقد الدولي، وثالثًا، فمن خلال السعي لامتلاك القوة الناعمة، فإنها تسعى للهيمنة الثقافية أيضًا. هل هناك علاقة بين التبشير باليوم التالي في غزة الذي ستكون فيه مركزا اقتصاديا على البحر المتوسط، وبين تفكيك المقاومة مستقبلًا من خلال هذا النموذج؟
قوى إقليمية غير عربية احتلت بالسياسة والسلاح عددًا من العواصم العربية، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري المباشر لأراضٍ عربية، كما في شمال سوريا.
أثبتت حرب غزة أن اتفاقات التطبيع – في طبعاتها القديمة والأبراهامية الجديدة – هي نموذج أكبر لدور يشبه السلطة الفلسطينية في الضفة، الذي تحولت فيه إلى عبء على المقاومة، وتطلعات الشعب الفلسطيني الذي يطالب أغلبه بحلها، وفق استطلاعات الرأي.
أحد المكونات الأساسية لاتفاقات التطبيع والاتفاق المرشح مع الدولة اللبنانية، هو الحفاظ على أمن إسرائيل من تهديد المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وزادت الطامة أن نموذج الحكم النيوليبرالي الأوتوقراطي الحداثي يجب أن يزوّدها بمقومات الحياة من غذاء وسلع – إن حوصرت- وعليه أن يضمن الأمن في غزة في اليوم التالي، ويحوّلها إلى عاصمة للتجارة والأعمال على البحر المتوسط.
خامسًا: الاستقطاب المسموم
برز مع طوفان الأقصى موقفان كبيران يضم كل منهما أطرافًا متعددة مختلفة، وبين هذين الموقفين يوجد من ينتظر متفرجًا أو لم يحسم انحيازه بعد إلى أي الفريقين يجب أن ينضم؛ لعل تطور الأحداث ونهاية المعركة تساعده على حسم موقفه.
الموقف الأول يضم الإسلاميين في المنطقة، وقوميين ومجموعات علمانية ويسارية، ونخبًا مثقفة تضم تنويعات كثيرة. تدرك هذه المجموعات – وغيرها الكثير- التهديد الوجودي الذي يمثله المشروع الصهيوني في المنطقة، كما ظهر جليًا في الإبادة الجماعية التي تتدفق صورها على مدار اليوم والمستمرة لأكثر من عام حتى الآن.
يدرك هذا الفريق فداحة تأثير الإبادة الجارية على الفلسطينيين في مستقبل دول وشعوب المنطقة، وكيف سيكون لنتيجة هذه المعركة تأثير حاسم على ذاته ونفسيته أولًا، وعلى دور المشروع الصهيوني في المنطقة، وأسس تأييد الحكومات الغربية له، وفي القلب منه علاقة حكومات دول المنطقة بهذا المشروع.
هؤلاء يقفون جميعًا في مواجهة موقف يضم كثيرًا من الأنظمة العربية، ومعظم الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة. تملك هذه الأطراف تصورًا لمستقبل المنطقة يقوم أساسًا على قوة الاقتصاد والمصالح المالية في تفكيك جميع الصراعات، وإن لم يتمّ ذلك، فيمكن القفز عليها أو إنكار كثير من حقائقها.
الأيديولوجيات يجب أن يختفي أصحابها، والنضالات الاجتماعية مرفوضة، والمقاومة المسلحة مدانة، ونصرة المظلوم هي فقط بالإغاثة، والتضامن العربي أو الإسلامي بقايا ماضٍ انتهت صلاحيته؛ فالمصالح الاقتصادية والإستراتيجية للدولة الوطنية هي الحكم، وغير ذلك هراء أو من سفاسف الأمور التي نهينا عنها وطنيًّا وعقليًّا وربما شرعيًّا.
بين هذين الموقفين هناك من لا يزال يراجع موقفه، أو لم يحسم أمره بعد؛ تتملّكه الهواجس والمخاوف من “حماس الإسلامية”، أو لا يزال قابعًا في قفص الأيديولوجيا الجامد وانحيازاته السياسية، أو يعيش في ظلال الماضي القريب أو البعيد بمعاركه السياسية والفكرية.
طوفان المقاومة يحمل بذور صدام إستراتيجي بين تصورين وإدراكين متمايزين متضادين يتجسدان في يحيى السنوار الذي مات لتحيا أمة، والبراغماتي المنسلخ من أية قيمة أو انتماء. وبغية التغطية على هذا الاستقطاب تم بعث وإذكاء استقطابات أخرى مسمومة.
بناء نموذج المقاومة/ التحرر – كما كلمة التوحيد – له شقان: نفي وإثبات. عالجت في هذا المقال الشق الأول، ويتبقى أن أشير في التالي إلى مرتكزاته ومقوماته التي لا غنى عنها.
هشام جعفر
الحرب الجارية على المنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هي الحرب السادسة عشرة في تاريخ الحروب العربية- الإسرائيلية، وفق رصد أ.د. نادية مصطفى، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة. وهي بهذا تستكمل ما قام به المستشار طارق البشري – المفكر والقاضي المصري رحمه الله – الذي يميز في محاضرة وورقة مهمة بين أنماط هذه السلسلة من الحروب، ويشير إلى الأنماط الأجدر لمهام المقاومة والتحرير.
ففي رأي البشري أن العدوانَ على غزة 2008-2009 – حين كتب ورقته – هو الحرب الثانية عشرة في سلسلة حروب متواصلة من 1948 حتى 2008؛ سواء كانت حروبًا نظامية أم شعبية، ومتضمنة الحروب الأميركية مع الإسرائيلية على أساس أنها كتلة واحدة.
وهذه الحروب هي: حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967، ثم حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل بين حرب 1967 وحرب 1973. هذه الحروب الخمس كانت مصر مشاركة فيها، بل كانت المقاتل الرئيسي فيها، لكن بعد حرب 1973 لم تَعُدْ مصر تحارب.
جاءت بعد ذلك سبع حروب هي: حرب 1982 باجتياح لبنان، الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 في أرض فلسطين، حرب الأميركان في الكويت والعراق سنة 1991، الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أرض فلسطين عام 2000، حرب العراق سنة 2003، حرب لبنان 2006، وصولًا إلى الحرب الثانية عشرة بالعدوان على غزة 2008/2009.
تمثِّل هذه الحروب – في نظر البشري – حربًا واحدةً عبر معارك متسلسلة؛ هي حرب واحدة ومستمرة مع عدو إستراتيجي؛ سواء أكانت حروبًا نظامية أو حروبًا شعبية.
ولقد جرت دراسة جميع هذه الحروب والمعارك وما تلاها في 2012، 2014، 2018، 2021 وكذلك ما سبقها، من حيث طبيعتها؛ ومن حيث علاقاتها بالسياسة، على نحو متراكم وعبر عقود متتالية؛ ابتداءً من نشأة جذور الصراع؛ أي منذ ما يزيد عن القرن حتى الآن. لكن مع كل معركة جديدة في صراع سيمتد معنا لعقود قادمة؛ يحسن أن نتوقف لنستخلص الاتجاهات التاريخية، كما يرسمها نموذج التحرير والمقاومة.
إن إحدى سمات نموذج المقاومة/ التحرير هي سيرورته التي لا تجد معناها في الامتداد التاريخي فقط؛ بل أيضًا في نضالات مستمرة تخبو حينًا، ولكنها سرعان ما تعاود الفعل الانتفاضي بأشكال جديدة.
من المهم التفكير في الطوفان باعتباره جزءًا من نضال الشعب الفلسطيني على مدار قرن أو يزيد، ونضالات الشعوب العربية نحو التحرر من العجز، وهو لا يمكن النظر إليه باعتباره حدثًا يمكن أن يفشل أو ينجح. فهْم البعد الزمني أمر حاسم في هذا القبيل؛ حيث إن إدراك تأثير الوقائع في مجمل عملية التحرر، يُكتب بأثر رجعي.
ونقطة البدء في بناء النموذج المقاوم/ التحرر هي: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟
أولًا: نظام رسمي عربي لم تعد له هوية واضحة
وهو نظام لم تعد له هوية واضحة، أصابه التفتت والانقسام، وباتت مكونات منه جزءًا من نظام صهيو/عربي يجري مأسسته بعد أن دشنته اتفاقات التطبيع.
أظهر الطوفان أن هناك أنظمة عربية لم تقم بواجب النصرة والمساندة للفلسطينيين فقط؛ بل تآمرت عليهم وقدمت الدعم المادي والمعنوي للكيان الصهيوني وبشكل علني، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع. قبل ذلك ربما تم ذلك من بعض الأنظمة، ولكنه كان يجري بشكل مستتر وخفي.
يستند هذا النظام إلى أسس أربعة:
المصالح القُطرية أولًا.
المصالح الاقتصادية تقود السياسة.
إخراج القيم من المشهد، حيث البراغماتية – تحت عنوان الواقعية – هي التي يجب أن تسود.
القفز على تطلعات الجماهير.
برز مع الطوفان الاختلاف الواضح بين موقف الأنظمة العربية من مساندة الفلسطينيين الذي اقتصر على التصريحات والبيانات اللفظية، وقد يمتد إلى الإغاثة، وبين موقف الشعوب العربية التي انحازت في مجملها لدعم ومساندة الفلسطينيين.
سبق أن تعرضت في مقال سابق لهذه السمات بالتفصيل والتي يطلق عليها البعض “الشرق الأوسط الجديد”، لكن الجديد الذي كشف عنه الطوفان هو كيف باتت إسرائيل جزءًا وأحد مكونات هذا النظام رغبًا ورهبًا؛ رغبًا من خلال قيام بعض الأنظمة ببناء مصالح مشتركة معها، ورهبًا من خلال التوحش المدعوم غربيًا، وهي تتطلع أن تقود هذا النظام في شقه الأمني على الأقل.
ثانيًا: عجز شعبي عربي عن النصرة والمساندة
العرب والمسلمون – شعوبًا وحكومات – هم أقل المساهمين في نصرة الفلسطينيين. المشكلة أن الدولة العربية تحجب نصرة الشعوب وتحول دون التعبير عن مواقفهم بحرية. الموقف الشعبي العربي يدفع الفلسطينيون ثمنَه بحرمان الأنظمة شعوبَها من الحرية وانتشار القمع بينهم، كما يدفعون ثمنه من إنهاك يتعرضون له بحكم سياسات نيوليبرالية شرسة.
لا أدري إن بات قطاع معتبر من الشعوب العربية يدرك وحدة ساحات النضال لديه؟ فهذه الحكومات التي خذلت الفلسطينيين وتخلت عنهم هي المسؤول الأول عن إفقارهم وسوء معيشتهم. بات الأخيرون جزءًا من مشاريع نيوليبرالية معولمة تعود عليهم فقط وعلى تحالف حكمهم الضيق بالمنافع والامتيازات دون الشعوب التي بات الإنهاك يحيط بها في كل ركن من حياتها.
المواطن العربي المنهك يشعر بثقل ووطأة المأساة، ولكنْ هناك أولويات وضغوط أخرى: اجتمعت على كثير من المواطنين العرب ضغوط كثيرة، فالمجتمع يرزح تحت وطأة سياسات اقتصادية ذات طبيعة نيوليبرالية شرسة تدفع بطبقاته الوسطى والدنيا إلى الانصراف إلى توفير الحياة الكريمة – في حدودها الدنيا – لهم ولأسرهم، وتحيط به الصراعات في كل مكان؛ كما في ليبيا، والسودان، وسوريا.
ثالثًا: التطبيع مع الإبادة
على مدار 10 سنوات أو يزيد، تم تطبيعنا – نحن الشعوب العربية – مع الإبادة الجماعية وعنف الدولة والمجموعات والتنظيمات غير الرسمية، ومن ثم كانت الحرب على الفلسطينيين واللبنانيين بعد “طوفان الأقصى” – للأسف – إحدى الحلقات المستمرة لعملية التطبيع هذه. يبدو الفاعل مختلفًا هذه المرّة، وتتباين الشعوب التي تتعرض لها، لكن تظل التأثيرات واحدة والتداعيات مشتركة ومستمرة.
على مدار العقد الماضي، تفشت ولا تزال الحروب الأهلية في المنطقة، وشارك فيها الجميع بالدعم والمساندة أو بالصمت والسكوت. جرى إخفاء الضحايا والتحلل من المسؤولية الواجبة بالدعاية أو إثارة الجدل السياسي أو الاستقطاب أو تحميل المسؤولية للآخرين أو بإثارة الأسئلة الخاطئة في اللحظة التي يتعرّض فيها البشر للإبادة.
أدرك الفلسطينيون في حرب الإبادة أنهم وحدهم؛ فلم يسعفهم تضامن الآخرين: لا مظاهرات الجامعات الأميركية، ولا قرارات محكمة العدل والمنظمات الدولية، ولا مساندة الشعوب، ولا تصريحات المسؤولين، ولا الاعتراف بدولتهم.. فالمعاناة والمأساة اللتان يكابدونهما في كل لحظة هما معاناتهم ومأساتهم وحدهم.
من أبرز ما جرى في الطوفان هو التكيف المعرفي مع الإبادة. جرى ذلك عن طريق تزويدنا بروايات ودعايات سياسية لقبول العنف مثل: عمل المقاومة لصالح إيران وبقرار منها، أو أنها حين قامت بعملية طوفان الأقصى لم تستشر الفلسطينيين، أو أنها من جماعات الإسلام السياسي وفصيل من الإخوان الموصومين بالإرهاب، أو أنها غير وطنية، أو على أقل تقدير خرجت عن الإجماع الوطني، أو أنهم يستحقون ما يتعرضون له؛ فعلى نفسها جنت براقش، وأخيرًا وليس آخرًا؛ شريكة في الإبادة مع الإسرائيليين – كما صرح أحد مسؤولي السلطة الفلسطينية.
رابعًا: التحرر من الاستعمار المباشر وغير المباشر
هذا الاستعمار – بشكله القديم والمتجدد – هو المكون الرابع مما ينبغي أن نتحرر منه كسبيل لبناء النموذج المقاوم. أعادتنا الحرب الجارية في المنطقة لأكثر من عام للتساؤل عن: هل تحررنا نحن العرب من الاستعمار حقًا؟
كشفت الحرب على غزة حقائق خمسًا يجب أن نتوقف أمامها طويلًا:
نمط الحكم المطروح في المنطقة اليوم هو النمط الاستبدادي الحداثي النيوليبرالي، مكونات ثلاثة تضاد مكونات الاستقلال الوطني جميعًا.
نظرية الأمن الإقليمي تعتمد أساسًا على المكون الخارجي؛ فقد عجزت النظم العربية جميعًا عن توفير الأمن إلا بالاعتماد على مزود خارجي، وهو الولايات المتحدة أساسًا، التي انتشرت قواعدها العسكرية وجنودها في كل مكان في المنطقة (يتمركز نحو 30 ألفًا من جنودها بشكل دائم في العشرات من القواعد العسكرية المنتشرة في أكثر من 15 دولة في الإقليم)، وقدمت من خلالها الدعم المباشر وغير المباشر لإسرائيل. لقد أصبح الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة أكثر وضوحًا، وعليه طُلب من كثير من البلدان؛ لمواجهة التهديدات الخارجية – خاصة من قبل إيران وحلفائها اليوم، وقبلها صدام حسين – كما جرى في حرب الخليج الأولى 1991.
مكونات عربية تمتلك الوفورات المالية والقدرات الاستثمارية الهائلة ما مكّنها من أن تكون جزءًا متماهيًا ومندمجًا في بنية الرأسمالية المعولمة. هي تسعى – خاصة في حقبة الربيع العربي، التي بدأت موجتها الأولى في العقد الثاني من هذا القرن – للسيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية أيضًا. في الأولى قادت ثورة مضادة لوأد الحراك الديمقراطي في المنطقة، وفي الثانية رهنت القرار الاقتصادي الوطني لكثير من دول الإقليم لتدفقات معوناتها واستثماراتها وللمنظمات المالية الدولية؛ كصندوق النقد الدولي، وثالثًا، فمن خلال السعي لامتلاك القوة الناعمة، فإنها تسعى للهيمنة الثقافية أيضًا. هل هناك علاقة بين التبشير باليوم التالي في غزة الذي ستكون فيه مركزا اقتصاديا على البحر المتوسط، وبين تفكيك المقاومة مستقبلًا من خلال هذا النموذج؟
قوى إقليمية غير عربية احتلت بالسياسة والسلاح عددًا من العواصم العربية، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري المباشر لأراضٍ عربية، كما في شمال سوريا.
أثبتت حرب غزة أن اتفاقات التطبيع – في طبعاتها القديمة والأبراهامية الجديدة – هي نموذج أكبر لدور يشبه السلطة الفلسطينية في الضفة، الذي تحولت فيه إلى عبء على المقاومة، وتطلعات الشعب الفلسطيني الذي يطالب أغلبه بحلها، وفق استطلاعات الرأي.
أحد المكونات الأساسية لاتفاقات التطبيع والاتفاق المرشح مع الدولة اللبنانية، هو الحفاظ على أمن إسرائيل من تهديد المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وزادت الطامة أن نموذج الحكم النيوليبرالي الأوتوقراطي الحداثي يجب أن يزوّدها بمقومات الحياة من غذاء وسلع – إن حوصرت- وعليه أن يضمن الأمن في غزة في اليوم التالي، ويحوّلها إلى عاصمة للتجارة والأعمال على البحر المتوسط.
خامسًا: الاستقطاب المسموم
برز مع طوفان الأقصى موقفان كبيران يضم كل منهما أطرافًا متعددة مختلفة، وبين هذين الموقفين يوجد من ينتظر متفرجًا أو لم يحسم انحيازه بعد إلى أي الفريقين يجب أن ينضم؛ لعل تطور الأحداث ونهاية المعركة تساعده على حسم موقفه.
الموقف الأول يضم الإسلاميين في المنطقة، وقوميين ومجموعات علمانية ويسارية، ونخبًا مثقفة تضم تنويعات كثيرة. تدرك هذه المجموعات – وغيرها الكثير- التهديد الوجودي الذي يمثله المشروع الصهيوني في المنطقة، كما ظهر جليًا في الإبادة الجماعية التي تتدفق صورها على مدار اليوم والمستمرة لأكثر من عام حتى الآن.
يدرك هذا الفريق فداحة تأثير الإبادة الجارية على الفلسطينيين في مستقبل دول وشعوب المنطقة، وكيف سيكون لنتيجة هذه المعركة تأثير حاسم على ذاته ونفسيته أولًا، وعلى دور المشروع الصهيوني في المنطقة، وأسس تأييد الحكومات الغربية له، وفي القلب منه علاقة حكومات دول المنطقة بهذا المشروع.
هؤلاء يقفون جميعًا في مواجهة موقف يضم كثيرًا من الأنظمة العربية، ومعظم الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة. تملك هذه الأطراف تصورًا لمستقبل المنطقة يقوم أساسًا على قوة الاقتصاد والمصالح المالية في تفكيك جميع الصراعات، وإن لم يتمّ ذلك، فيمكن القفز عليها أو إنكار كثير من حقائقها.
الأيديولوجيات يجب أن يختفي أصحابها، والنضالات الاجتماعية مرفوضة، والمقاومة المسلحة مدانة، ونصرة المظلوم هي فقط بالإغاثة، والتضامن العربي أو الإسلامي بقايا ماضٍ انتهت صلاحيته؛ فالمصالح الاقتصادية والإستراتيجية للدولة الوطنية هي الحكم، وغير ذلك هراء أو من سفاسف الأمور التي نهينا عنها وطنيًّا وعقليًّا وربما شرعيًّا.
بين هذين الموقفين هناك من لا يزال يراجع موقفه، أو لم يحسم أمره بعد؛ تتملّكه الهواجس والمخاوف من “حماس الإسلامية”، أو لا يزال قابعًا في قفص الأيديولوجيا الجامد وانحيازاته السياسية، أو يعيش في ظلال الماضي القريب أو البعيد بمعاركه السياسية والفكرية.
طوفان المقاومة يحمل بذور صدام إستراتيجي بين تصورين وإدراكين متمايزين متضادين يتجسدان في يحيى السنوار الذي مات لتحيا أمة، والبراغماتي المنسلخ من أية قيمة أو انتماء. وبغية التغطية على هذا الاستقطاب تم بعث وإذكاء استقطابات أخرى مسمومة.
بناء نموذج المقاومة/ التحرر – كما كلمة التوحيد – له شقان: نفي وإثبات. عالجت في هذا المقال الشق الأول، ويتبقى أن أشير في التالي إلى مرتكزاته ومقوماته التي لا غنى عنها.