ما الذي بقي من وصاية الأردن على الأقصى؟
علي إبراهيم
دخل المسجد الأقصى في العامين الأخيرين مرحلةً خطيرةً من حيث تصاعد العدوان عليه ومحاولات تثبيت الوجود اليهودي فيه والتوجه نحو حسم هويّته. بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تصاعدت الاعتداءات بشكل فظّ وقُيّد المسلمون في الوصول إليه كما لم يُقيّدوا من قبل، حتى لم يتجاوز عدد المصلين في صلوات الجمع في بعض الشهور ثلاثة آلاف مصلٍّ، وصولاً إلى إغلاقه بشكلٍ كامل - إلا أمام موظفي دائرة الأوقاف - خلال الحرب التي دارت بين إيران والاحتلال على مدار 12 يوماً.
وفي المقابل توسّعت اعتداءات المستوطنين ونجحوا في فرض طقوس لطالما فشلوا في فرضها بسبب التصدي الميدانيّ سابقاً. على سبيل المثال، في عيد الفصح اليهودي (المعروف بالفصح الصغير) في أيار/مايو الماضي، اقتحم مستوطنون باب الغوانمة وهم يحملون قرباناً حيّاً، ثمّ نجحوا في حزيران/يونيو الماضي كذلك في اقتحام ساحة قبّة الصخرة المشرّفة وهم يحملون قطع لحمٍ مذبوح كقرابين بمناسبة عيد الأسابيع اليهودي.
أما ردود الأفعال على هذه التحديات فيمكن وصفها بـ"المترهلة" وذلك عند مختلف الشرائح الفاعلة أو ذات المسؤولية، وهو ما يعني أنّ الاحتلال استطاع تجاوز كلِّ أطواق الحماية التي تحيط بالأقصى، واحدةً بعد أخرى. في هذا المقال نناقش مظاهر ضعف واحد من هذه الأطواق، وهو طوق "الوصاية الأردنيّة" على المسجد الأقصى.
بدأت بالإعمار، لكنها لا تقف عند حدود
تعود جذور الوصاية الأردنيّة على المقدسات في القدس، وعلى رأسها الأقصى، إلى عام 1924 عندما نُفّذ الإعمار الهاشميّ الأول1، وارتبطت برسلة الحاج أمين الحسيني إلى الأمير عبد الله بن الحسين التي طلب منه فيها الإشراف على الإعمار2. وبعد انتهاء الاحتلال البريطاني عام 1948 أصبحت الأردن تُشرف مباشرةً على الشطر الشرقيّ من القدس المحتلة بما فيه من مقدساتٍ إسلاميّة، وعقب احتلال هذا الشطر في حزيران/يونيو عام 1967، ظلّت الأوقاف الجهةَ الحصريّة التي يحقّ لها الإشراف على الأقصى ولم يستطع الاحتلال إلغاء هذه الوصاية. ومع قرار الأردن فكّ الارتباط مع الضفّة الغربيّة عام 1988، استُثنيت المقدسات في الشطر الشرقيّ من القدس المحتلة، واستمرت الوصاية الهاشميّة عليها.
ولا يقف الدور الهاشميّ عند حدود الإعمار، بل يشمل الحقوق الدينيّة والسياسيّة، والدفاع عن هذه المقدسات في وجه أي عدوان، وما يتصل بالحفاظ على هوية هذه المقدسات، إسلاميّة كانت أم مسيحيّة، وبطبيعة الحال مواجهة أي محاولات لتزييف هذه الهوية وتغييرها. ويُعدّد كتاب "الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس" الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس 1917-2020، مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي، عمان، 2020، ص 34-35. الأدوار المتصلة بالوصاية الأردنية كالتالي: العناية بالمسجد الأقصى المبارك واستدامته، الحفاظ على "هدف المسجد الأقصى المبارك وهو صلاة المسلمين فيه"، والحفاظ على المرافق الأخرى في المسجد الأقصى المبارك، ومن ضمنها المتحف الإسلامي، ودفع رواتب جميع موظفيه، وتوفير التمويل اللازم لإدامة المسجد.
وقد تضمنت اتفاقية "وادي عربة" بنداً يُشير بوضوح إلى الدور الأردنيّ في الإشراف على المقدسات الإسلاميّة. وفي 31 آذار/مارس 2013 وقّع كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله الثاني اتفاقيةً أكّدت هذه الوصاية 3. كما حفلت خطابات الجهات المختلفة على أهمية الوصاية والحفاظ عليها، ابتداءً من منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية.
من يملك مفاتيح الأقصى؟
تُشير البنود السابقة إلى أنّ الحفاظ على المسجد وحمايته وفتح جنباته أمام الفلسطينيين لأداء الصلاة هي ركائز أساسية في الوصاية الهاشمية. ولا شك بأن أول الاعتداءات التي انتقص فيها الاحتلال من تلك الوصاية هي الاستيلاء على صلاحية فتح باب المغاربة وتخصيصه لاقتحامات المستوطنين، وما لحق ذلك من استهدافٍ لأبواب المسجد ونصب الحواجز أمامها والتدقيق في هويات الداخلين إليه وما يتصل بذلك من فرض القيود والاعتقالات، وهي سياسات تصاعدت في السنوات الأخيرة، بل إنّ مسألة دخول موظفي المسجد أنفسهم إليه منوطة بموافقة شرطة الاحتلال وسماحها بذلك، إذ شهدنا في كثير من الأحيان منعاً لدخولهم خاصةً في أوقات التصعيد، أو قراراتٍ بإبعادهم عن المسجد. والتحكم بالأبواب وبمن يدخل ومن لا يدخل هو جزء أساسي من سياسة إسرائيلية تسعى إلى تقويض دور الأوقاف وصلاحياتها، وتكريس شرطة الاحتلال بوصفها الجهة التي تتحكم فعليّاً بالمسجد.
وبعد الاستيلاء على صلاحية فتح الأبواب، استهدف الاحتلال الوصاية من خلال الاعتداء على حُرّاس وموظفي المسجد الأقصى وتقويض صلاحياتهم، إذ تعرّضوا في السنوات الأخيرة لهجماتٍ متتالية هدفت إلى تحجيم دورهم وردعهم عن التصدي لأي عدوان يشهده المسجد.
ولم يقمع الاحتلال الحُرّاس بشكلٍ مفاجئ، بل عمل على تحجيم دورهم وما يقومون به في الأقصى بشكلٍ متدرج، أدّى في نهاية المطاف إلى الحالة التي وصلنا إليها حالياً، فقد كان للحراس ما يُمكن تسميته "حصانة" في وجه شرطة الاحتلال، إذ كانوا يقفون في وجه الاقتحامات، ويعترضون مباشرةً على أي اعتداء وتدنيس، ويعرقلون أداء الطقوس اليهوديّة العلنية، ولكن هذه "الحصانة" تقلصت تدريجيّاً حتى انتهت بشكلٍ كامل.
بدأ الأمر بمنعهم من الاقتراب من المقتحمين، ومن ثمّ حددت شرطة الاحتلال مسافة 200 متر تفصلهم عن فوج المقتحمين، وأخيراً باتت تمنعهم من الاقتراب من المقتحمين بأي شكلٍ من الأشكال فأصبحت الاقتحامات تجري دون أي وجود ولو شكلي للحراس. وبالتوازي مع ذلك، صعّدت قوات الاحتلال من استهداف الحراس عبر اعتقالهم المتكرر وضربهم وتهديدهم وإصدار قرارات الإبعاد عن المسجد بحقهم لفترات تصل إلى ستة أشهر، وصولاً إلى هدم منازلهم.
وعدا عن الاعتداءات، فإنّ الاحتلال يتحكم حتى في عدد الحرّاس وهوياتهم، إذ يعاني جهاز الحراس نقصاً حادّاً من حيث العديد، إذ لم تسمح سلطات الاحتلال لدائرة الأوقاف الإسلامية برفد الحراس بأعداد جديدة، وعلى الرغم من ندرة المعطيات المنشورة حول النقص في أعداد الحراس إلّا أن هناك معطيات نشرت في نهاية عام 2021 كشفت بأن الاحتلال منع دائرة الأوقاف في القدس المحتلة من رفع أعداد حراس الأقصى، وبحسب ما نشر حينها يضم جهاز حراس الأقصى نحو 160 حارساً 4، وهو عددٌ لا يكفي البتة، نظراً لمساحة المسجد وعدد أبوابه، وما يتعرض له من مخاطر واعتداءات. وبحسب مصادر الأوقاف تمنع سلطات الاحتلال تعيين حراسٍ جدد، وفي حال تعيين دفعة جديدة، تعتدي عليهم قوات الاحتلال وتمنعهم من دخول المسجد لاستلام أعمالهم. ومن هذه الاعتداءات، ما شهده شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021 حين عيّنت الأوقاف 15 حارساً جديداً، ولكن سلطات الاحتلال منعتهم من مزاولة عملهم. هذا عدا عن التدخل في هوية هؤلاء الحرّاس، إذ يُعرقل الاحتلال تعيين من يُرجى منه أن يكون عقبة في وجه سياسات الاحتلال أو من له تاريخ نضاليّ.
وعلى الرغم من أن الخطوات الماضية قد طبقها الاحتلال خلال سنوات متباعدة، إلا أن ردة الفعل الرسميّة الأردنيّة لم ترق إلى هذه المخاطر، وظلّت الاستجابة تجاهها محصورة في الدوائر السياسيّة الضيقة، وما ظهر على العلن بقي محصوراً في بيانات التنديد والاستنكار، ولم تنعكسٍ بحالٍ من الأحوال على أرض الواقع، لا على الصعيد السياسي أو القانوني أو الميداني وغيرها.
التقليم الذاتيّ لما بقي من أظافر!
شكل عام 2019 محطة مفصلية في ازدياد العدوان على الأقصى، وكانت أولى مظاهرها استمرار اقتحامات الأقصى خلال الأعياد اليهوديّة ولو تزامنت مع الأعياد الإسلاميّة. وعلى الرغم من المخاطر الكبيرة التي كشفتها هذه السياسة الجديدة، وما تبعها من تفشي أداء الطقوس اليهوديّة العلنية في ساحات الأقصى، إلا أن دائرة الأوقاف حينها اتخذت إجراءاتٍ في غير مكانها، وكانت لها آثار سلبية على المدى البعيد.
ففي تموز/ يوليو 2020 أصدر مدير عام دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس عزام الخطيب تعميماً يمنع من خلاله "نشر أي خبرٍ يتعلق بأوقاف القدس عموماً أو أخبار المسجد الأقصى بشكل خاص إلا بإذن خطّي منه". وعلى الرغم من عدم توضيح أسباب إصدار هذا القرار إلا أن انعكاساته ما زالت مستمرة حتى اليوم، إذ غاب صوت الأوقاف أو من يمثلها تجاه ما يتعرض له المسجد من انتهاكاتٍ متكررة، بل امتدت آثاره على رصد ما يجري في المسجد من اعتداءات، فمثلاً لم تعد الأوقاف تصدر بيانات يوميّة عن أعداد المقتحمين، وأصبح المصدر الرئيس لذلك بعض المهتمين والمنصات الإعلامية المقدسيّة، والتي بطبيعة الحال لا تستطيع رصد ما يجري في المسجد وخاصة إبّان الاقتحامات المركزية.
وشيئاً فشيئاً أصبح الكشف عن الكثير من انتهاكات المستوطنين يتم من خلال شهود عيان من المرابطين في الأقصى وعبر المنصات المقدسية، إذ أسهم تكميم الأفواه الذي حصل حينها أسهم في التغطية على جرائم الاحتلال داخل الأقصى، وتكبيل موظفي الدائرة وغياب معلومات بالغة الأهمية متعلقة بما يجري في المسجد، أو بأعداد الحراس وما يتصل بترميم المسجد وغيرها.
خطوات إلى الوراء
لا ريب بأن الوصاية الأردنيّة على المقدسات تمرّ بلحظاتٍ مصيرية، فهي تواجه سلسلة مطامع صهيونية يقودها عتاة المستوطنين، ليس في الحكومة الإسرائيلية والكنيست فحسب، بل في مجمل مؤسسات الكيان، والأمنية منها على وجه الخصوص. إضافةً إلى ذلك يمكن ملاحظة تراجع دور الأردن الكبير واستخفاف الاحتلال بالوصاية، والتأكيد على "الأحقية اليهودية" المدعاة في الأقصى، ويتجلى هذا التراجع في ثلاثة أنساقٍ أساسية.
الأول: تُظهر المواقف الأردنية ضعفاً في مواجهة الاعتداءات المستمرة من قبل الاحتلال وأذرعه التهويدية، وغياب أي ردود فعل مؤثرة تجاه هذا العدوان، وعدم استفادة الأردن من أي أوراق ميدانية كان يُمكن له تطويعها لأجل هذا الهدف. ومن أبرز أمثلة هذه الأوراق حادثة قتل عاملين أردنيين في السفارة الإسرائيلية في عمان في 23 تموز/ يوليو 2017، والتي انتهت بعودة القاتل إلى الأراضي المحتلة، واستقباله من قبل نتنياهو وسط أجواء "عاطفية". وعلى الرغم من وجود إشارات بأن التراجع عن فرض البوابات الإلكترونية تم حينها ضمن صفقة مع الأردن، إلا أن المتابعة الدقيقة تؤكد أن الاحتلال تراجع عنها بفعل الضغط الشعبي، وبعيداً عن حالة السجال حينها، إلا أن استمرار العمل باتفاقيات التطبيع والاتفاقيات الأخرى، وما يتصل بالرد الأمني الأردني الذي قمع التحركات الشعبية نصرةً لغزة والتي توجهت إلى الحدود مع الأراضي المحتلة، وتصاعد العدوان على الأقصى بشكلٍ منقطع النظير تؤكد جميعها انحدار ردود الفعل تجاه العدوان على الأقصى إلى مرحلة خطيرة.
ويتمثل الثاني في لجوء الأردن إلى معالجة ضعف المواقف من خلال اتفاقيات بينية جمعته مع الاحتلال برعاية أميركية، ويكشف ذلك عن بعض ملامح آليات اتخاذ القرار تجاه ما يجري في الأقصى. ومثال ذلك الأبرز هو الاتفاق الأردني الإسرائيلي في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 على تركيب كاميرات داخل المسجد الأقصى وبثها على الشابكة، كردة فعل على الاعتداءات التي جرت في حينه. إلا أن المشروع سقط شعبياً فاضطر الأردن للإعلان عن إيقافه. وهذا نموذج يُشير إلى حالة تماهٍ مع الاحتلال، من دون اتخاذ خطوات حازمة لردعه والأخذ على يديه.
أما النسق الثالث فيتمثل في استمرار قضم صلاحيات الأوقاف من خلال استهداف الحراس والموظفين كما أسلفنا، ومحاولة فرض واقع جديد أمام أبواب المسجد الأقصى وفي محيطه، وهي إجراءات تهدف إلى إحداث تغيير جذري في حركة دخول وخروج المصلين من الأقصى، وفرض المزيد من التحكم على حركة الحشود المسلمة. ولم يتقصر الأمر عند حدود المصلين والموظفين، بل وصل أيضاً إلى استهداف صورة الأردن الرسميّة حين منعت شرطة الاحتلال السفير الأردنيّ من دخول المسجد مطلع عام 2023، بذريعة عدم التنسيق المسبق للزيارة، وعلى الرغم من محاولة تجاوز "الأزمة" حينها، إلا أنها تستبطن استخفافاً إسرائيلياً واضحاً بالوصاية، وعدم النظر بجدية إلى منصب السفير وما يمثله.
هل ما زال هناك هامشٌ للفعل؟
أسهم تصاعد اليمين في دولة الاحتلال ووصول من يحمل أطروحات "المعبد" إلى مواقع متقدمة في الحكومة الإسرائيلية والكنيست في تكثيف العدوان على الأقصى خلال الأعوام الماضية، وبطبيعة الحال انسحب ذلك على مسألة الوصاية الأردنية. وعلى الرغم من هذا التراجع المستمرّ إلا أنّ الفلسطينيين والأردنيين على حدٍ سواء يطالبون بدورٍ أقوى الأردن في مواجهة الاحتلال ومخططاته، وعدم حصر ردود الفعل الرسمية بالمستوى الدبلوماسي، إذ يستطيع الأردن تفعيل أدوات أخرى، بحسب الخطاب الشعبي الأردني، والذي طالب مراراً بوقف اتفاقيات التطبيع والاتفاقيات الأخرى مع الاحتلال.
وأمام التمسك الشعبي والرسمي بالوصاية، ونظراً لأهميتها سياسيّاً واستراتيجيّاً، فلا يمكن للأردن التخلي عنها في المدى المنظور، ولكنه مطالب بالتمسك بها، والدفاع عنها، والعمل على صد تغول الاحتلال وعدم ترك الميدان من دون أي تدخل. وفي هذا الإطار يُرجى أن يكون لعموم الناس وللباحثين والمهتمين خاصّةً دور أكبر في تفعيل الضغوطات وإدارة الحملات من أجل دفع الأردن باتجاه مواقف أشدّ صلابةً والتصدي الفعال لانتهاكات الاحتلال. وقد يكون من المفيد وجود دور عربيّ داهم للأردن، يُشكّل جبهة مساندة لاستمرار والوصاية ويدفع الأردن نحو مزيد من العمل بعيداً عن أي محاولات لتقاسم الوصاية والدخول على مسرح الأحداث في القدس والأقصى، خاصة من دولٍ لها تاريخ حافل في الاصطفاف مع الاحتلال ومشاريعه.
علي إبراهيم
دخل المسجد الأقصى في العامين الأخيرين مرحلةً خطيرةً من حيث تصاعد العدوان عليه ومحاولات تثبيت الوجود اليهودي فيه والتوجه نحو حسم هويّته. بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تصاعدت الاعتداءات بشكل فظّ وقُيّد المسلمون في الوصول إليه كما لم يُقيّدوا من قبل، حتى لم يتجاوز عدد المصلين في صلوات الجمع في بعض الشهور ثلاثة آلاف مصلٍّ، وصولاً إلى إغلاقه بشكلٍ كامل - إلا أمام موظفي دائرة الأوقاف - خلال الحرب التي دارت بين إيران والاحتلال على مدار 12 يوماً.
وفي المقابل توسّعت اعتداءات المستوطنين ونجحوا في فرض طقوس لطالما فشلوا في فرضها بسبب التصدي الميدانيّ سابقاً. على سبيل المثال، في عيد الفصح اليهودي (المعروف بالفصح الصغير) في أيار/مايو الماضي، اقتحم مستوطنون باب الغوانمة وهم يحملون قرباناً حيّاً، ثمّ نجحوا في حزيران/يونيو الماضي كذلك في اقتحام ساحة قبّة الصخرة المشرّفة وهم يحملون قطع لحمٍ مذبوح كقرابين بمناسبة عيد الأسابيع اليهودي.
أما ردود الأفعال على هذه التحديات فيمكن وصفها بـ"المترهلة" وذلك عند مختلف الشرائح الفاعلة أو ذات المسؤولية، وهو ما يعني أنّ الاحتلال استطاع تجاوز كلِّ أطواق الحماية التي تحيط بالأقصى، واحدةً بعد أخرى. في هذا المقال نناقش مظاهر ضعف واحد من هذه الأطواق، وهو طوق "الوصاية الأردنيّة" على المسجد الأقصى.
بدأت بالإعمار، لكنها لا تقف عند حدود
تعود جذور الوصاية الأردنيّة على المقدسات في القدس، وعلى رأسها الأقصى، إلى عام 1924 عندما نُفّذ الإعمار الهاشميّ الأول1، وارتبطت برسلة الحاج أمين الحسيني إلى الأمير عبد الله بن الحسين التي طلب منه فيها الإشراف على الإعمار2. وبعد انتهاء الاحتلال البريطاني عام 1948 أصبحت الأردن تُشرف مباشرةً على الشطر الشرقيّ من القدس المحتلة بما فيه من مقدساتٍ إسلاميّة، وعقب احتلال هذا الشطر في حزيران/يونيو عام 1967، ظلّت الأوقاف الجهةَ الحصريّة التي يحقّ لها الإشراف على الأقصى ولم يستطع الاحتلال إلغاء هذه الوصاية. ومع قرار الأردن فكّ الارتباط مع الضفّة الغربيّة عام 1988، استُثنيت المقدسات في الشطر الشرقيّ من القدس المحتلة، واستمرت الوصاية الهاشميّة عليها.
ولا يقف الدور الهاشميّ عند حدود الإعمار، بل يشمل الحقوق الدينيّة والسياسيّة، والدفاع عن هذه المقدسات في وجه أي عدوان، وما يتصل بالحفاظ على هوية هذه المقدسات، إسلاميّة كانت أم مسيحيّة، وبطبيعة الحال مواجهة أي محاولات لتزييف هذه الهوية وتغييرها. ويُعدّد كتاب "الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس" الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس 1917-2020، مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي، عمان، 2020، ص 34-35. الأدوار المتصلة بالوصاية الأردنية كالتالي: العناية بالمسجد الأقصى المبارك واستدامته، الحفاظ على "هدف المسجد الأقصى المبارك وهو صلاة المسلمين فيه"، والحفاظ على المرافق الأخرى في المسجد الأقصى المبارك، ومن ضمنها المتحف الإسلامي، ودفع رواتب جميع موظفيه، وتوفير التمويل اللازم لإدامة المسجد.
وقد تضمنت اتفاقية "وادي عربة" بنداً يُشير بوضوح إلى الدور الأردنيّ في الإشراف على المقدسات الإسلاميّة. وفي 31 آذار/مارس 2013 وقّع كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله الثاني اتفاقيةً أكّدت هذه الوصاية 3. كما حفلت خطابات الجهات المختلفة على أهمية الوصاية والحفاظ عليها، ابتداءً من منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية.
من يملك مفاتيح الأقصى؟
تُشير البنود السابقة إلى أنّ الحفاظ على المسجد وحمايته وفتح جنباته أمام الفلسطينيين لأداء الصلاة هي ركائز أساسية في الوصاية الهاشمية. ولا شك بأن أول الاعتداءات التي انتقص فيها الاحتلال من تلك الوصاية هي الاستيلاء على صلاحية فتح باب المغاربة وتخصيصه لاقتحامات المستوطنين، وما لحق ذلك من استهدافٍ لأبواب المسجد ونصب الحواجز أمامها والتدقيق في هويات الداخلين إليه وما يتصل بذلك من فرض القيود والاعتقالات، وهي سياسات تصاعدت في السنوات الأخيرة، بل إنّ مسألة دخول موظفي المسجد أنفسهم إليه منوطة بموافقة شرطة الاحتلال وسماحها بذلك، إذ شهدنا في كثير من الأحيان منعاً لدخولهم خاصةً في أوقات التصعيد، أو قراراتٍ بإبعادهم عن المسجد. والتحكم بالأبواب وبمن يدخل ومن لا يدخل هو جزء أساسي من سياسة إسرائيلية تسعى إلى تقويض دور الأوقاف وصلاحياتها، وتكريس شرطة الاحتلال بوصفها الجهة التي تتحكم فعليّاً بالمسجد.
وبعد الاستيلاء على صلاحية فتح الأبواب، استهدف الاحتلال الوصاية من خلال الاعتداء على حُرّاس وموظفي المسجد الأقصى وتقويض صلاحياتهم، إذ تعرّضوا في السنوات الأخيرة لهجماتٍ متتالية هدفت إلى تحجيم دورهم وردعهم عن التصدي لأي عدوان يشهده المسجد.
ولم يقمع الاحتلال الحُرّاس بشكلٍ مفاجئ، بل عمل على تحجيم دورهم وما يقومون به في الأقصى بشكلٍ متدرج، أدّى في نهاية المطاف إلى الحالة التي وصلنا إليها حالياً، فقد كان للحراس ما يُمكن تسميته "حصانة" في وجه شرطة الاحتلال، إذ كانوا يقفون في وجه الاقتحامات، ويعترضون مباشرةً على أي اعتداء وتدنيس، ويعرقلون أداء الطقوس اليهوديّة العلنية، ولكن هذه "الحصانة" تقلصت تدريجيّاً حتى انتهت بشكلٍ كامل.
بدأ الأمر بمنعهم من الاقتراب من المقتحمين، ومن ثمّ حددت شرطة الاحتلال مسافة 200 متر تفصلهم عن فوج المقتحمين، وأخيراً باتت تمنعهم من الاقتراب من المقتحمين بأي شكلٍ من الأشكال فأصبحت الاقتحامات تجري دون أي وجود ولو شكلي للحراس. وبالتوازي مع ذلك، صعّدت قوات الاحتلال من استهداف الحراس عبر اعتقالهم المتكرر وضربهم وتهديدهم وإصدار قرارات الإبعاد عن المسجد بحقهم لفترات تصل إلى ستة أشهر، وصولاً إلى هدم منازلهم.
وعدا عن الاعتداءات، فإنّ الاحتلال يتحكم حتى في عدد الحرّاس وهوياتهم، إذ يعاني جهاز الحراس نقصاً حادّاً من حيث العديد، إذ لم تسمح سلطات الاحتلال لدائرة الأوقاف الإسلامية برفد الحراس بأعداد جديدة، وعلى الرغم من ندرة المعطيات المنشورة حول النقص في أعداد الحراس إلّا أن هناك معطيات نشرت في نهاية عام 2021 كشفت بأن الاحتلال منع دائرة الأوقاف في القدس المحتلة من رفع أعداد حراس الأقصى، وبحسب ما نشر حينها يضم جهاز حراس الأقصى نحو 160 حارساً 4، وهو عددٌ لا يكفي البتة، نظراً لمساحة المسجد وعدد أبوابه، وما يتعرض له من مخاطر واعتداءات. وبحسب مصادر الأوقاف تمنع سلطات الاحتلال تعيين حراسٍ جدد، وفي حال تعيين دفعة جديدة، تعتدي عليهم قوات الاحتلال وتمنعهم من دخول المسجد لاستلام أعمالهم. ومن هذه الاعتداءات، ما شهده شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021 حين عيّنت الأوقاف 15 حارساً جديداً، ولكن سلطات الاحتلال منعتهم من مزاولة عملهم. هذا عدا عن التدخل في هوية هؤلاء الحرّاس، إذ يُعرقل الاحتلال تعيين من يُرجى منه أن يكون عقبة في وجه سياسات الاحتلال أو من له تاريخ نضاليّ.
وعلى الرغم من أن الخطوات الماضية قد طبقها الاحتلال خلال سنوات متباعدة، إلا أن ردة الفعل الرسميّة الأردنيّة لم ترق إلى هذه المخاطر، وظلّت الاستجابة تجاهها محصورة في الدوائر السياسيّة الضيقة، وما ظهر على العلن بقي محصوراً في بيانات التنديد والاستنكار، ولم تنعكسٍ بحالٍ من الأحوال على أرض الواقع، لا على الصعيد السياسي أو القانوني أو الميداني وغيرها.
التقليم الذاتيّ لما بقي من أظافر!
شكل عام 2019 محطة مفصلية في ازدياد العدوان على الأقصى، وكانت أولى مظاهرها استمرار اقتحامات الأقصى خلال الأعياد اليهوديّة ولو تزامنت مع الأعياد الإسلاميّة. وعلى الرغم من المخاطر الكبيرة التي كشفتها هذه السياسة الجديدة، وما تبعها من تفشي أداء الطقوس اليهوديّة العلنية في ساحات الأقصى، إلا أن دائرة الأوقاف حينها اتخذت إجراءاتٍ في غير مكانها، وكانت لها آثار سلبية على المدى البعيد.
ففي تموز/ يوليو 2020 أصدر مدير عام دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس عزام الخطيب تعميماً يمنع من خلاله "نشر أي خبرٍ يتعلق بأوقاف القدس عموماً أو أخبار المسجد الأقصى بشكل خاص إلا بإذن خطّي منه". وعلى الرغم من عدم توضيح أسباب إصدار هذا القرار إلا أن انعكاساته ما زالت مستمرة حتى اليوم، إذ غاب صوت الأوقاف أو من يمثلها تجاه ما يتعرض له المسجد من انتهاكاتٍ متكررة، بل امتدت آثاره على رصد ما يجري في المسجد من اعتداءات، فمثلاً لم تعد الأوقاف تصدر بيانات يوميّة عن أعداد المقتحمين، وأصبح المصدر الرئيس لذلك بعض المهتمين والمنصات الإعلامية المقدسيّة، والتي بطبيعة الحال لا تستطيع رصد ما يجري في المسجد وخاصة إبّان الاقتحامات المركزية.
وشيئاً فشيئاً أصبح الكشف عن الكثير من انتهاكات المستوطنين يتم من خلال شهود عيان من المرابطين في الأقصى وعبر المنصات المقدسية، إذ أسهم تكميم الأفواه الذي حصل حينها أسهم في التغطية على جرائم الاحتلال داخل الأقصى، وتكبيل موظفي الدائرة وغياب معلومات بالغة الأهمية متعلقة بما يجري في المسجد، أو بأعداد الحراس وما يتصل بترميم المسجد وغيرها.
خطوات إلى الوراء
لا ريب بأن الوصاية الأردنيّة على المقدسات تمرّ بلحظاتٍ مصيرية، فهي تواجه سلسلة مطامع صهيونية يقودها عتاة المستوطنين، ليس في الحكومة الإسرائيلية والكنيست فحسب، بل في مجمل مؤسسات الكيان، والأمنية منها على وجه الخصوص. إضافةً إلى ذلك يمكن ملاحظة تراجع دور الأردن الكبير واستخفاف الاحتلال بالوصاية، والتأكيد على "الأحقية اليهودية" المدعاة في الأقصى، ويتجلى هذا التراجع في ثلاثة أنساقٍ أساسية.
الأول: تُظهر المواقف الأردنية ضعفاً في مواجهة الاعتداءات المستمرة من قبل الاحتلال وأذرعه التهويدية، وغياب أي ردود فعل مؤثرة تجاه هذا العدوان، وعدم استفادة الأردن من أي أوراق ميدانية كان يُمكن له تطويعها لأجل هذا الهدف. ومن أبرز أمثلة هذه الأوراق حادثة قتل عاملين أردنيين في السفارة الإسرائيلية في عمان في 23 تموز/ يوليو 2017، والتي انتهت بعودة القاتل إلى الأراضي المحتلة، واستقباله من قبل نتنياهو وسط أجواء "عاطفية". وعلى الرغم من وجود إشارات بأن التراجع عن فرض البوابات الإلكترونية تم حينها ضمن صفقة مع الأردن، إلا أن المتابعة الدقيقة تؤكد أن الاحتلال تراجع عنها بفعل الضغط الشعبي، وبعيداً عن حالة السجال حينها، إلا أن استمرار العمل باتفاقيات التطبيع والاتفاقيات الأخرى، وما يتصل بالرد الأمني الأردني الذي قمع التحركات الشعبية نصرةً لغزة والتي توجهت إلى الحدود مع الأراضي المحتلة، وتصاعد العدوان على الأقصى بشكلٍ منقطع النظير تؤكد جميعها انحدار ردود الفعل تجاه العدوان على الأقصى إلى مرحلة خطيرة.
ويتمثل الثاني في لجوء الأردن إلى معالجة ضعف المواقف من خلال اتفاقيات بينية جمعته مع الاحتلال برعاية أميركية، ويكشف ذلك عن بعض ملامح آليات اتخاذ القرار تجاه ما يجري في الأقصى. ومثال ذلك الأبرز هو الاتفاق الأردني الإسرائيلي في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 على تركيب كاميرات داخل المسجد الأقصى وبثها على الشابكة، كردة فعل على الاعتداءات التي جرت في حينه. إلا أن المشروع سقط شعبياً فاضطر الأردن للإعلان عن إيقافه. وهذا نموذج يُشير إلى حالة تماهٍ مع الاحتلال، من دون اتخاذ خطوات حازمة لردعه والأخذ على يديه.
أما النسق الثالث فيتمثل في استمرار قضم صلاحيات الأوقاف من خلال استهداف الحراس والموظفين كما أسلفنا، ومحاولة فرض واقع جديد أمام أبواب المسجد الأقصى وفي محيطه، وهي إجراءات تهدف إلى إحداث تغيير جذري في حركة دخول وخروج المصلين من الأقصى، وفرض المزيد من التحكم على حركة الحشود المسلمة. ولم يتقصر الأمر عند حدود المصلين والموظفين، بل وصل أيضاً إلى استهداف صورة الأردن الرسميّة حين منعت شرطة الاحتلال السفير الأردنيّ من دخول المسجد مطلع عام 2023، بذريعة عدم التنسيق المسبق للزيارة، وعلى الرغم من محاولة تجاوز "الأزمة" حينها، إلا أنها تستبطن استخفافاً إسرائيلياً واضحاً بالوصاية، وعدم النظر بجدية إلى منصب السفير وما يمثله.
هل ما زال هناك هامشٌ للفعل؟
أسهم تصاعد اليمين في دولة الاحتلال ووصول من يحمل أطروحات "المعبد" إلى مواقع متقدمة في الحكومة الإسرائيلية والكنيست في تكثيف العدوان على الأقصى خلال الأعوام الماضية، وبطبيعة الحال انسحب ذلك على مسألة الوصاية الأردنية. وعلى الرغم من هذا التراجع المستمرّ إلا أنّ الفلسطينيين والأردنيين على حدٍ سواء يطالبون بدورٍ أقوى الأردن في مواجهة الاحتلال ومخططاته، وعدم حصر ردود الفعل الرسمية بالمستوى الدبلوماسي، إذ يستطيع الأردن تفعيل أدوات أخرى، بحسب الخطاب الشعبي الأردني، والذي طالب مراراً بوقف اتفاقيات التطبيع والاتفاقيات الأخرى مع الاحتلال.
وأمام التمسك الشعبي والرسمي بالوصاية، ونظراً لأهميتها سياسيّاً واستراتيجيّاً، فلا يمكن للأردن التخلي عنها في المدى المنظور، ولكنه مطالب بالتمسك بها، والدفاع عنها، والعمل على صد تغول الاحتلال وعدم ترك الميدان من دون أي تدخل. وفي هذا الإطار يُرجى أن يكون لعموم الناس وللباحثين والمهتمين خاصّةً دور أكبر في تفعيل الضغوطات وإدارة الحملات من أجل دفع الأردن باتجاه مواقف أشدّ صلابةً والتصدي الفعال لانتهاكات الاحتلال. وقد يكون من المفيد وجود دور عربيّ داهم للأردن، يُشكّل جبهة مساندة لاستمرار والوصاية ويدفع الأردن نحو مزيد من العمل بعيداً عن أي محاولات لتقاسم الوصاية والدخول على مسرح الأحداث في القدس والأقصى، خاصة من دولٍ لها تاريخ حافل في الاصطفاف مع الاحتلال ومشاريعه.