أخبرتني جدتي أن جدي عندما سمع بخبر اقتراب قوات اليهود من القدس سنة سبعٍ وستين؛ حمل بندقيته وكتابه الذي كتبه عن الأقصى وهرع إلى المسجد الأقصى، حيث كنا من سكان القدس، وعندما وصل وجد في ساحات الأقصى مجموعات من المسلحين جاءت لحماية المسجد الأقصى وكانت هذه المجموعات تضم عدداً من أهالي الضفة وعدداً من الجنود الأردنيين، وعندما اقتربت القوات اليهودية قاتل الجميع ببسالة واستشهد جدي ، وأخبر جدتي مَن قاتل مع جدي أنهم شاهدوه يحضن كتاباً من تأليفه اسمه (صراع الأقصى مع الهيكل ) وهو يردد:
- لن تشد الرحال إليك بعد اليوم أيها الأقصى الأسير..... بدأ الطريق لهدمك يا أقصى.
وأحضروا لجدتي كتابه المخضب بدمائه الطاهرة، فعانقته بعينيها الغارقتين بالدموع . وبعد احتلال القدس؛ نزحت جدتي مع والدي - وهو طفل صغير- إلى العاصمة الأردنية عمان، وفي سنة 1990 تزوج أبي من أمي وكانت أمي كلما حملت بجنين تنزله في الشهر السابع أو يموت أثناء الولادة، واستمرت أمي على تلك الحال ثماني سنوات حتى حملت بي، وتروي لي أمي أنها وهي حامل بي في الشهر السابع بينما كانت تجلس على مائدة الطعام تنتظر أذان المغرب في رمضان أحست بحركتي في أحشائها فتصاعدت حركتي فخافت أمي كثيراً أن تفقدني، فنظرت من نافذة الغرفة إلى السماء وتضرعت إلى الله عز وجل :
اللهم مكني أن أرى ما في بطني فتى يركض ويلعب وإني أعاهدك أن أعلمه حب مسرى رسولك.
وقد استجاب الله لأمي دعوتها وقد وفت أمي بعهدها لله عز وجل فقد علمتني حب مسرى رسول الله فعندما بلغت الخامسة كنت أردد كل يوم قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} , وفي كل يوم أردد هذه الآية أمام أمي، ولما دخلت الصف الأول علمتني أمي حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تُشَدّ الرِّحَال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِد الْحَرَام، وَمَسْجِد الْأَقْصَى) وأصبحت أردد الآية والحديث كلّ يوم أمام أمي، ولما بلغت الصف الثالث حفظت قصة الإسراء والمعراج كاملةً، وكثيراً ما كانت أمي تستوقفني عندما أصل إلى إمامة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - للنبيين والمرسلين في المسجد الأقصى وتقول لي :
إنه المسجد الوحيد على وجه الأرض الذي صلى فيه الأنبياء جميعاً يا عبد المغيث.
ولما بلغت الصف الثامن رأيت في المنام شجرة ضخمة وتحتها صندوق وسمعت صوتاً يخرج من الصندوق يقول :
ضع ما في داخلي داخل الحفريات الموجودة تحت المسجد الأقصى حتى لا يهدم.
فأسأل الصندوق في المنام :
كيف أذهب إلى الأقصى واليهود على الحدود. فيجيبني الصندوق :
عندما تحملني فلن يراك أحد.
استيقظت من النوم وأنا خائف بل مرعوب، فهذه الشجرة أعرفها جيداً تقع على الطريق الواصل بين عمان ومدينة السلط، وأشاهدها كلما زرنا دار خالتي في مدينة السلط.
وبقيت مستيقظاً حتى الفجر فتوضأت وصليت الفجر مع والدي في المسجد، وفي الليلة التالية رأيت نفس المنام فاستيقظت مرعوباً أشد من الليلة الماضية، وبقيت كذلك مستيقظاً حتى الفجر, وفي الليلة الثالثة رأيت نفس المنام مع زيادة يقول فيها الصندوق :
لا تتأخر، اذهب قبل أن يهدم الأقصى، لا تتأخر.
وبقيت مستيقظاً وقمت بإفراغ حقيبتي من الكتب ووضعت فيها فأساً صغيراً نستخدمه لقلب تربة حديقة المنزل وبعض الطعام، ثم صليت الفجر، ولما غادر والدي إلى عمله حملت حقيبتي كأني أريد الذهاب إلى المدرسة وركبت الباص المتوجه إلى السلط ولما رأيت الشجرة, نزلت من الباص وتوجهت نحو الشجرة وجلست تحتها وتناولت طعامي ثم بدأت بالحفر، وخلال عشر دقائق ظهر الصندوق وإذا برجال ثلاثة يقتربون مني فخفت فأسرعت في الحفر حتى سحبت الصندوق من الحفرة وإذا بالرجال الثلاثة فوق رأسي فسألني أحدهم :
ما هذا الصندوق ؟
فحملته على الفور فاختفيت، ففزع الرجال الثلاثة وسمعتهم يقولون :
لقد اختفى ....لقد اختفى .
أدركت عندها أنه لا يراني أحد وحملت حقيبتي ووقفت بجانب رجل ينتظر الباص ليذهب إلى عمان، فلما وقف الباص ركبت دون أن يراني أحد ودخلت البيت ومررت بجانب أمي ولم ترَني وذهبت إلى غرفتي وأخفيت الصندوق وفي الليل فتحت الصندوق فوجدت به ورقة صغيرة تقول أن ما بداخل الصندوق هو فطر حجري يوضع في الشقوق فينمو داخل الشقوق حتى تلتحم, والمطلوب مني هو أن أضع هذا الفطر داخل الحفريات التي يقوم بها اليهود تحت المسجد الأقصى, وفي الصباح عندما ذهب أبي إلى عمله أخبرت أمي بالقصة كاملة وجعلتها تنظر إلي وأنا أختفي عندما أحمل الصندوق، فخافت أمي علي كثيراً وقلت لها وأنا أشير إلى الصندوق :
الأقصى يريد هذا .. لقد فهمت رسالة الأقصى فهمتها جيداً .
أمي:- وما شأن الأقصى بهذا الفطر .
الأقصى يريد هذا ليوضع في الحفريات والأنفاق التي تحته لينمو فيها ولا ينهدم، هذه الرؤيا نداء من الأقصى وأنا سأجيب النداء، أنا ذاهب إلى الأقصى.
أمي:- بل أنت ذاهب إلى حبل المشنقة أنت صغير لا تعرف كيف تسير الحياة .
ولكني أعرف كيف أسير إلى الأقصى لا وقت للتأخير.
أمي :- لن أدعك تذهب... لن تذهب .
والأقصى ؟
أمي :- للأقصى رب يحميه .
وربّ الأقصى هو من أكرمني ...بالرؤية وبالفطر.
أمي :- بل لن تذهب ... لن أسمح لك .
وعندما رأيت إصرار أمي أخرجت من خزانة أبي كتاب جدي (صراع الأقصى مع الهيكل ) وما زالت الدماء عليه .
هذا الكتاب الوحيد الذي كتبه جدي، أنا من يكمل المشوار .
أمي:- لن تفعل شيئاً للأقصى سوى أنك ستموت .... وأنا أفقد عقلي وتدمر حياتي....لن أسمح لك بالذهاب .... لأنك واهم ...الأقصى لا ينادي أحداً لحبل المشنقة .ً
أمي ! أنا ذاهب .....فعليك أن تختاري بين أن أذهب دون أن أراك وبين أن أذهب وأنا أقبّل رأسك وأطلب منك الدعاء .
سأرجع.... صدقيني سأرجع .
قبّلت رأس أمي وغادرت نحو الأقصى، وسرت مع الصندوق دون أن يراني أحد، ولما وصلت منطقة قريبة من البحر الميت اكتشفت أن اليهود أعدوا كل شيء لبناء الهيكل وجهزوا ست ملايين حجر من كسارات ليفي جنوب بئر السبع حسب ما سمعته من المهندسين الذين يقفون بجانب الحجارة، كما تم إعداد فريق البناء الذي يقف رهن الإشارة، وقد انتهى تجهيز المذبح أو القبلة في منطقة قريبة من البحر الميت، لقد رأيت كل ذلك بعيني، وسمعته ممن يعملون هناك .
من الأشياء التي سمعتها و علقت في عقلي من فريق بناء الهيكل قول أحدهم :
إذا هدم الأقصى سيفجر بركان الغضب عند المسلمين .
فرد عليه آخر مبتسماً :
الأقصى فاتر في قلوب المسلمين, والقلوب الفاترة لا تفجر البراكين, ولن تضجّ على هدم الأقصى أكثر من ثلاثة أيام، الهيكل سيصبح حقيقة على الأرض نحن والهيكل وجهين لعملة واحدة .
كم أنا مشتاق لأرى الهيكل ،كم أنا مشتاق لأصلي في الهيكل ؟
ومضيت إلى الأقصى ودخلت في نفق يصل إلى تحت المسجد الأقصى فذهلت مما رأيت، رأيت كنيساً كبيراً تحت المسجد يتعبد فيه اليهود، ورأيت نفقاً تحت الأقصى يصل تسعة أمتار ويسير مئة متر باتجاه الحائط الجنوبي ... إنه خنجر في خاصرة الأقصى, والحفر ما زال مستمراً, والأنفاق تزداد وتتسع, ورأيت على بعد أمتار من حائط البراق شمعدان الهيكل ليدخل إلى الهيكل فور بنائه على أنقاض المسجد الأقصى، وسمعت من الذين يشرفون على الحفر أن جزءاً من الأقصى يسمى المحكمة سيبنى عليها أكبر كنيس في العالم سمعتهم مراراً وهم يحفرون يصرخون معاً :
يعيش الهيكل .....يعيش الهيكل ....يعيش الهيكل .
لو لم تكن موجوداً في تاريخنا لاخترعناك
يا هدف قتالنا ......يا قمة عزنا .....سنراك قريباً
لقد أحزنني ما شاهدت وسمعت، وخرجت من تحت المسجد الأقصى وسرت في ساحاته باكياً، وأثناء سيري رأيت الشيخ رائد صلاح فرويت له قصتي، فابتسم وقال لي :
لا تحزن، الأقصى لن يهدم وهو الآن ليس بحاجة للفطر، الأقصى كان بحاجة إلى الفطر لأن الأمة كانت مقيدة لا تستطيع الوصول إليه أما الآن فهو لا يحتاج الفطر لأن الأمة بجانبه، اذهب إلى أمك وأبيك فهم في غاية القلق عليك, ورجعت إلى بيتي إلى أمي وأبي، وأخبرتهم بكل ما شاهدت وسمعت وقلت لهما :
الأقصى لا يريد الفطر ...إنه يريد الأمة أن تستمر في الحركة, ولن يهدم ما دامت الأمة تسير نحو عزتها وكرامتها....إنها أجمل أيام الأقصى منذ الاغتصاب... الأقصى سعيد ... مرفوع الرأس يا أبي ...الأقصى أصبح قوياً يا أمي .
وعندما جاء الليل ذهبت إلى غرفتي, ووضعت رأسي على وسادتي وغرقت في نوم عميق, ورأيت في منامي أن أحجار الأقصى تحتفظ بدماء الشهداء ساخنة يملؤها الأمل، ورأيت قبته تختزن غبار المعارك المقدسية وهي مرفوعة الهامة وتنظر بفخر إلى الثورات العربية التي وُلِدت من رحم الإسلام، والتي تعيش أجسادها بعيداً عن الأقصى ولكن أرواحها المهاجرة إلى الأقصى تحوم حوله لتهتف نشيدها الخالد ... قادمون .. قادمون ... قادمون ...
النهاية