بسم الله الرحمن الرحيم
غابةُ النَّهرِ الْعـذبِ
(قصة للفتيان)
في غابة جميلة كتب على أعلى شجرة فيها لافتة تقول (لا لدخول الذئاب إلى غابتنا) وعلى أضخم شجرة لافتة مكتوب عليها (غابة النهر العذب).
في هذه الغابة أسد يصعد على تلة عالية عند غروب الشمس ويغني بصوت جميل :
يا غابة النهر العذب
يا غابة النهر العذب ثوري
على دَوس أقدام الغرباء
على أرض تسلب في الخفاء
أنيابي صرخات الثوار
ومخالبي انتفاضة الأحرار
أنا أسد مكشوف لا يصاد
ولا يقبل فكراً من صياد
زئيري هامات الشهداء
وأفكاري تجافي الدماء
وعندما ينام الجميع وفي جوف الليل يسهر فهد ويغني لوحده بصوت يملؤه التحدي ....
أنا فهد لا أحد يسبقني
أنا قلم لا أحد يكسرني
جلدي منسوج من كلمة حق
ولحمي مجبول بدفاتر صدق
وعند شروق الشمس يقف حصان في وسط الغابة ويغني:
الشعب أنا ... وأنا الشعب
أصالتي تاريخه المسطر بتعاليم الأجداد
وتضحيات نحو حقّ مسلوب يعاد
لا أقبل الخنوع
والذل والركوع
لو أعرى أو أجوع
لا أطفئ الشموع
لا أطفئ الشموع
وفي كل يوم يغني الأسد عند غروب الشمس, ويغني الفهد في جوف الليل, ويغني الحصان عند شروق الشمس، إنهم يتغنون لتبقى الغابة تقاوم محاولات سرقتها أو تركيعها من قبل الذئاب الذين اغتصبوا بعض أماكنهم المقدسة، وجاءوا ليقوموا بوظيفة الصيد نيابة عن أسيادهم في البلاد البعيدة, وأسيادهم زودوهم بكلّ وسائل الصيد من أسلحة وذخائر وكلّ ما يحتاجونه لصيد أهل الغابة، ورغم ذلك فقد قرر زعيم غابة النهر العذب عقد معاهدة سلام مع الذئاب, وتنص المعاهدة أن يصبح الذئاب أصدقاء لأهل غابة النهر العذب، وهذا ما رفضه أهل الغابة إلا القليل جداً، فاجتمع جزء كبير من أهل الغابة فقال الأسد:
سوف نعلق أسماء من يتعامل مع الذئاب على الشجرة السوداء وننذرهم عقاب الله الذي خلقنا وأمرنا بالحفاظ على المقدسات .
الحصان: الذئاب آتون ليصطادوا ويجعلوا من غابتنا حديقة أمامية للقصور والعمارات الشاهقة التي بنوها على جماجم أخوة لنا .
الفهد: هل يا ترى سننجح في مقاومتهم ؟
الأسد: بالطبع سننجح إذا واصلنا المقاومة وبقينا متمسكين بأوامر خالقنا ... عندها سيخرجون .
الحصان: وإذا لم يخرجوا ؟
الأسد: سيكون بقاؤهم خسارة لهم .
وفي أثناء اجتماعهم يدخل الغراب وهو يرى أنه لا مجال لمقاومة الذئاب, وأن كل ما يفعله الأسد ومن معه هو عبارة عن عبث، فقد كان الغراب مهزوم من داخله، وفي وسط الاجتماع، دخل الغراب ولم يسلم على أحد ونظر إلى الجميع وسار نحو اللافتة وأخذ ينظر إليها ببطء ... نظرة اليأس والإحباط وهز رأسه وقال:
قل لي أيها الأسد ... كيف يقاوم أسد أعزل ذئباً مدججاً بالسلاح ؟
كيف يقاوم حصان جائع أساتذة في الترويض ؟
كيف تقاوم شموع صغيرة رياحاً عاتية ؟
الأسد: نقاومهم بإيماننا بخالقنا صاحب القدرة بلا حدود ... بنهرنا العذب الذي لا يطيق إلا الصفاء ... بأوراق الأشجار التي تـنقلب حراباً عندما تحس أن هناك نية لاغتصابها بتراث اجدادنا .
الغراب: أين هو التراث ...؟ ألم تعلم أنه تم شطب كلّ كلمة تتكلم عن وحشية الذئاب وغدرهم في كتب أبنائنا... وفي الوقت نفسه الذي ينشد أبناء الذئاب ليل صباح أن الصيد شرف كبير وقنصنا وسلخ جلودنا هو سر وجودهم .
لا سبيل للمقاومة فنحن مهزومون.. .
الحصان: لن نهزم ما دامنا مؤمنين بالله، ما دام هذا الفهد متيقظاً رغم الضباب ... ما دام هذا الأسد يزأر رغم محاولات إلجامه ... يجب أن يبقى هذا النهر صافياً دون أن تكدره أقدام الذئاب وتبقى ورود الغابة عذارى .
الغراب : إذا بقى هنالك نهر وأوراق .
ابتعد الغراب عن أهل غابته؛ بسبب يأسه وإحباطه وإحساسه الكبير بالهزيمة، وأثناء سير الغراب التقى بالأرنب والدّب، فقال الأرنب للغراب بعد أن علم باجتماع أهل الغابة :
سننتهي من الرعب الذي كانت تسببه لنا الذئاب ... فمقاومة الذئاب أمر مخيف .
الدّب: سنجني من التعامل معهم مكاسب كثيرة .
الأرنب: لقد أرهقنا طول الرباط ... ورعب الأبناء من صوت الطلقات, لا نريد أن يعيش أبناؤنا في غابة محروقة.
الدّب: لقد ذهب قوت صغارنا إلى الإعداد لمقاومتهم... فصغارنا أحق بهذا القوت .
الأرنب: إنهم يستطيعون في ساعات اصطياد حيوانات الغابة .
الدّب : أهل الغابة مخطئون .
الأرنب: بل متهورون ... وهناك فرق بين الشجاعة والتهور ...
لم يتقبل الغراب ما يقولانه؛ فهو في نظره انتحار وبيع للغابة بلا ثمن، ولكنه في نفس الوقت مهزوم من داخله لا يستطيع أن يقاوم، ترك الغراب الدّب والأرنب وطار على شجرته العالية، ينظر إلى الغابة بنظرات تخلو من الأمل, وهو على شجرته رأى ذئابٍ تتجول في غابته أحزنه ذلك ولكنه يررد في نفسه دائماً:
ماذا نستطيع أن نفعل ؟
اقتربت الذئاب من شجرته دون أن تراه فسمعهم يتحدثون :
ما أجمل هذه الغابة !
الثاني: سوف تصبح يوماً ما لنا .
وكيف ذالك ؟
الثاني : بالمكر والخداع .
يأتي الذئب بحجرين متفاوتين الحجم، أحدهما ضعف حجم الحجر الآخر، ويضع الصغير على الأرض ويخاطب الجميع :
هذه غابتنا... التي يدعون أنها مقدساتهم.
ثم يضع الحجر الكبير أمامه
وهذه غابة النهر العذب
أحد الذئاب : تريد أن تقول ..
نعم … إذا سيطرنا على هذه الغابة فسوف نكون في أمن من اعتداءات الغابات الأخرى .
أحد الذئاب: بالفعل يجب أن يكون ذلك لأن هذه الغابات، غابة واحدة في الأصل... أهلها يحملون تعاليم خالقهم التي تقول بالقضاء علينا, ومهما طال الزمان فسوف يتحدون ويحاولون القضاء علينا … لذا لا بد من السيطرة على هذه الغابة لتكون درعاً لنا لا سهماً في صدورنا .
انتبه الغراب إلى نمر متخفي بين الأشجار يستمع إلى قول الذئاب, وما أن سارت الذئاب عدة خطوات حتى هجم النمر على الذئاب وقتل سبعة منهم، وهرب بعيداً والغراب مندهشٌ من شجاعة النمر، طار الغراب فوجد الحصان والفهد فأخبرهما بما جرى فقال الحصان:
ماذا يا ترى سيحدث للنمر ؟
الفهد: لقد مرت عشرات السنين والذئاب يسلخون جلودونا لصنع معاطف لهم ولأسيادهم في البلاد البعيدة… وأقفاصهم مليئة بنا، حرقوا أشجارنا ليشوا لحوم إخواننا عليها .
الحصان: ألا تتذكر اللبؤات اللواتي بقروا بطنوهن وهن حوامل؟!
ورؤوس النمور التي حنطوها لتكون تحفاً في قصورهم… والفهود التي سلخوها لأنها رفضت أن تلجم بلجامهم أكثر من مليون ضحية لهم .
وأثناء حديثهم جاء الأسد وقد علم بالخبر
الحصان: ( للأسد ) هل علمت بالأمر ؟
وتساءل الأسد :
ماذا يا ترى سيفعل بالنمر، فقد تم القبض عليه من قبل حرس الغابة .
الغراب: سيقطع رأسه ويعلقه على أعلى شجرة ليكون عبرة لغيره… لا فائدة من المقاومة… فنحن فريسة سهلة للإهانة والعدوان.
الأسد: ليس لك عمل سوى النعيق .
الحصان: أنت مثبت للعزائم .
الغراب: أنا كذلك فعلاً … ولكنني أصبحت كما قلت من رؤية الخيال وهو تروض على الركوع … من رؤية الصقور وهي تكسر أجنحتها … من قطع الفحم التي كانت نسوراً … من الأقفاص التي ملئت بالأسود .
الحصان: لولا وقوف أهل الغابة في وجههم لأصبحنا اليوم في حديقة يتنزه بها صغارهم .
الفهد: لا تجعل يأسك وتشاؤمك يحولك إلى خائن وأنت لا تعلم .
تركهم الغراب وطار إلى شجرته العالية الكاشفة لجميع الغابة وتساءل في نفسه :
هل يعقل أن يكون تشاؤمي رصاصاً في بنادق الذئاب … هل يعقل هذا ؟؟
وأثناء تأمل الغراب في يأسه مرّ الأرنب والدّب من تحت شجرته وسمعهم يتحدثان:
الدّب: لا أدري كيف أصبح النمر بطلاً … ؟ هل من البطولة أن نقتل أصدقاءنا … ؟ هذه ليست بطولة بل خيانة وغدر...
الأرنب: ماذا سنفعل لو جاء الصيادون ليثأروا لهم …؟ يا ويلتنا … يا ويلتنا … نمر طائش .
الدّب: لو فعل هذا … عندما كان الذئاب يصطادون إخواننا وأبناءنا لكان أمراً مقبولا, أما الآن في عهد السلام فهذه جريمة .
الأرنب: يجب أن نعلن البراءة من هذا الغادر .
أخذ الغراب يتأمل قول الأرنب والدّب ويستنكره في داخله, فدخل الخوف في قلبه, وحمله يأسه وكلامه على عدم جدوى المقاومة, فأشبه الدّب والأرنب من حيث لا يعلم .
وبعد أيام حُكِم على النمر بالسجن مدى الحياة في سجن مظلم .
ومضت الأيام والذئاب لم تنس ما فعله النمر, رغم أنه مسجون مدى الحياة في كهف مظلم في أقصى غابة النهر العذب، وفي ذات يوم دخل ذئبان إلى غابة النهر العذب خفيةً, وأطلقوا النار على أحد جمال الغابة ولكن الطلقات أصابت سنامه وفخذيه, ولم يمت لكنه وقع على الأرض من شدة النزيف, وقام أهل الغابة بأسر الذئبين وقدموهما إلى زعيم الغابة، ولكن زعيم الغابة أطلق سراحهما فغضب أهل الغابة وطالبوا بالإفراج عن النمر ولكن دون جدوى، ولما تأكد الحصان أن النمر لن يطلق سراحه فعند شروق الشمس أصبح يغني على الدوام هذه الأغنية :
نار … نار … نار
نار فوق الأشجار
نار تحت الأنهار
نار في وسط الظلمة
نار تغتال البسمة
نار … نار … نار
يا نمر … يا نمر … يا نمر
قل للأعداء أنك ما زلت تقاتل
رغم ظلمة الكهف وقضبان المعاقل
وسيأتي ويصدق وعد الأجداد القائل
بوقوف النمور خلف النهر تقاتل
نار … نار … نار
وأصبح الأسد عند غروب الشمس يغني على الدوام بصوت حزين :
أيها النهر … ابق لا ترحل
فقطرات من الدماء لا تعكر فيك الصفاء
والماء الدخيل معها عظم لا يسلبك النقاء
ابق لا ترحل
حتى لو سرت بلا ماء
وجريت برفات الأبناء
وملئت بدموع حراء
وأصبحت حميماً في الشتاء
ابق لا ترحل
كيف تموت وأنت شعارنا في الحياة ؟
كيف تركع وأنت ترفع لنا الجباه ؟
ابق لا ترحل
أما الغراب فبقي على شجرته العالية يتألم على النمر والجمل وعلى الغابة ولكن دون أن يتحرك لأنه ما زال مهزوم في داخله وأثناء ذلك مرّ من تحت شجرته الأرنب والدّب وسمعهما يتحدثان :
الدّب: الجيد في الذئاب أنهم اعتذروا عن فعلتهم القبيحة وأعلنوا توبتهم ... وخير الخطائين التوابون .
الأرنب : اعتذارهم انتصار لنا ... لقد دفعوا ثمن فعلتهم الغبية اعتذاراً صاغراً .
ابتعد الأرنب والدّب عن شجرة الغراب، أحس الغراب بالغضب من كلام الأرنب والدّب وهذا الغضب مع تأمله فيما يجري أخذ يؤثر فيه كثيراً .
ومضت الأيام وحدثت صداقة بين الذئاب والدّب والأرنب، وتبادلت بينهما الزيارات وفي ذات يوم قتلت الذئاب الدّب والأرنب وسلخت جلدهما وأخذت الجلد لصنع معاطف لهم, وألقت بجثـتـيهما في غابة النهر العذب، رأى الغراب الجثتين من فوق شجرته العالية فأخبر أهل الغابة، فجاء أهل الغابة وشاهدوا المنظر البشع فقام أهل الغابة بتكفينهما وحفروا قبرين ودفنوهما وبعد الدفن وقف الأسد عند القبرين وقال :
من كان يصدق هذا ؟....الدّب قتله حسن الظن بالذئاب ضرب بأوامر الله عرض الحائط... قلنا له كثيراً: إنهم لن يرضوا عنا حتى نكون في أقفاص لهم... إنهم أهل غدر وخيانة... لا عهد لذئب... أما الأرنب فقد عاش عمره مرتعباً من صوت طلقاتهم... ظنّ أن الصيد قد ولى زمنه... ولكن هيهات سيبقى الصيد ما بقي في الغابات ذئب .
الحصان: وداعاً أيها الدّب.. وداعاً أيها الأرنب .
لا نريد لأهل الغابة أن يموتوا ميتة كهذه، بل واقفون كأشجار غابتهم .
الغراب: إنني أسمع بكاء الغابة كلّ يوم في صفير البلابل في حلم الأزهار المثخن بالطعنات والجراح، لقد عشت عمري يائساً متشائماً... أنشد لحن الهزيمة في داخلي... حتى كدت أن أصبح حربة في يد الذئاب أطعن بها عفاف غابتي... كان نعيقي يجلد أحرار الغابة ولكن بعد ما حدث... سيتجه نعيقي الى فوق رؤوس الذئاب، إما أن يخرجوا وإما أن يدفنهم صهيل الخيول وزئير الأسود .
ومضى أهل الغابة وتعلموا الكثير من درس الدّب والأرنب وتعلموا أيضاً أن الأعداء يجب أن يبقوا أعداء
النهاية
زياد غزال فريحات