أمين مجج.. طبيب أطفال وسياسي أنقذ المئات إبان النكبة الفلسطينية
القدس المحتلة - الجزيرة نت
لم يكن قد مرّ عام بعد على افتتاح طبيب الأطفال الشاب أمين صالح مجج عيادته في شارع "مأمن الله" بالقدس، حتى بدأت وقائع النكبة عام 1948 واحتلت إسرائيل غربي المدينة بالكامل. ورغم أن الحرب حالت بينه وبين عيادته فإنه أوفى بقسَمه الطبي، واستجاب لنداء الجرحى حتى غدا من أبرز الأطباء الفلسطينيين في القدس.
لم يتردد مجج (ابن 27 عاما آنذاك) في تسخير كل إمكاناته لإنقاذ الجرحى، وبسبب حالة الطوارئ وشُح الطواقم جعل نفسه طبيبا ومزوّد مؤن وناقل أخبار، وحوّل مركبته الصغيرة من نوع "فيات" إلى سيارة إسعاف ينقل بها جرحى معارك النكبة يوميا من خطوط النار غير آبه بما قد يصيبه.
وُلد أمين مجج عام 1921 في مدينة رام الله (شمالي القدس) لعائلة مسيحية فلسطينية، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة المطران بالقدس، حتى تخرج منها عام 1938، ثم التحق بكلية الطب في الجامعة الأميركية ببيروت، والتقى في بيروت الممرضة اللبنانية بيتي داغر التي أصبحت لاحقا زوجته وأم أبنائه الأربعة، وتخصص في طب الأطفال بجامعة لندن عام 1954.
طبيب شامل
بعد نيله اللقب الأول في الطب، عاد أمين مع زوجته إلى بيته في القدس عبر شواطئ حيفا عام 1947، وافتتح عيادته بماله الخاص في شارع "مأمن الله" التي أُغلقت سريعا بسبب احتلال غربي القدس. وشهد الطبيب الشاب كل معارك النكبة في ظل ندرة الأطباء في الجزء الشرقي المتبقي من المدينة قبل احتلاله، فتحوّل من طبيب للأطفال إلى طبيب لكافة الأعمار.
إلى جانب ندرة الأطباء، عانى شرقي القدس (احتل عام 1967) من ندرة المستشفيات أيضا، في حين بُنيت أفضل المستشفيات تجهيزا في الجزء الغربي للمدينة، وبات الوصول إليها مستحيلا بعد استيلاء العصابات الصهيونية عليها عام 1948، فأنشأ الطبيب مجج مستشفى في دير مسيحي ببلدة العيزرية (شرقي القدس)، وتطوع فيه مع زوجته وأفراد من عائلته لعلاج الثوار الجرحى وأهالي القرى المحيطة.
خاطر بحياته
في كتابها "الحرب دون شوكلاتة"، روت السيدة بيتي داغر مجج "أم صالح" (96 عاما) حكاية زوجها الطبيب الذي خاض رحلات يومية خطرة لنقل المصابين والحالات الطارئة إلى المستشفى النمساوي (الهوسبيس) في البلدة القديمة بالقدس، رغم انتشار القناصة والقنابل الكثيرة التي سقطت قرب مركبته والمستشفى الذي عمل فيه. وتقول إنه ورغم الحرب رفض الهجرة وظل يردد "لا شيء سيمنعني عن محبوبتي القدس".
لم يكتفِ الطبيب الشاب بنقل الجرحى وعلاجهم، بل كان يستعين بمركبته الصغيرة لإيصال المعونات والإمدادات إلى كنيسة الجثمانية على سفح جبل الزيتون بالقدس وغيرها من النقاط.
وكان ينقل أخبار البلدة القديمة في ظل الحرب المتصاعدة، حتى بات أحيانا همزة الوصل الوحيدة مع العالم الخارجي، في ظل تمزيق العصابات الصهيونية شقي القدس وصعوبة التنقل آنذاك.
بعد 9 أشهر من العمل بمستشفى "الدير" في العيزرية، انتقل الزوجان مجج للعمل في مستشفى المطلع (أوغستا فيكتوريا) على جبل الزيتون، الذي كان يستقبل اللاجئين الفلسطينيين عام 1949، حيث أنشأ مجج قسما للأطفال وترأسه حتى عام 1990، وطوّره رغم قصف الاحتلال طابقه العلوي إبان "النكسة" (حرب يونيو/حزيران) واحتلال شرقي القدس عام 1967.
طبيب الفقراء
ما زالت السيدة مجج تعيش حتى اليوم في بيت عتيق بشارع المسعودي قرب باب الساهرة (شرقي القدس)، وبُني عام 1927 وعاشت فيه مع زوجها الطبيب وعائلته. وتروي للجزيرة نت كيف افتتح -من الصفر- داخل بيته عيادته الخاصة بعد انتهاء الحرب، التي لم يردّ فيها طارقا حتى في منتصف الليل، وكان يعالج الفقراء مجانا، بل ويوفر لهم الدواء بلا مقابل، حتى لُقب "بأبي الفقراء وطبيبهم".
يروي صالح نجل الطبيب مجج للجزيرة نت كيف كان والده يزور المرافق الطبية في البلدة القديمة لتزويدها بالخدمات والمستلزمات إبان النكبة، ويتابع أنه "في أحد الأيام، وخلال مغادرته البلدة القديمة من باب الجديد، وجد أمامه حاخاما يهوديا مصابا برصاصة في رأسه، فتذكر التزامه القوي بالقسَم الطبي، ومشى به إلى الجانب الآخر من خط الهدنة إلى بر الأمان، رغم خشيته من رصاصة طائشة بسبب المكان الحدودي الخطر".
الطبيب والسياسي والإداري
يذكر الباحثان عزيز العصا وعماد الخطيب في كتابهما "مقدسيون صنعوا تاريخا" أن الطبيب أمين مجج شغل عضو مجلس أمانة القدس منذ عام 1950 ولمدة 14 عاما إبان الحكم الأردني للمدينة، كما تولى منصب نائب أمين القدس ثم أصبح أمينا لها بالوكالة، وكان عضوا في بلدية القدس على فترات متفاوتة، وعضوا في مجلس النواب الأردني عن القدس منذ عام 1967 وحتى 1988.
كان مجج طبيبا وسياسيا وإداريا في آن واحد، حيث تولى عام 1957 3 وزارات معا في الحكومة الأردنية (الصحة والإنشاء والتعمير والشؤون الاجتماعية)، ثم أصبح عام 1964 وزيرا للصحة.
كما ترأس قسم الأطفال في مستشفى المقاصد بالقدس، وأداره بين عامي 1970 و1985، وتولى مناصب إدارية في مستشفيات أخرى كالمستشفى العربي الأهلي بغزة، والمستشفى الإنجيلي العربي بنابلس. وكان عضوا في مجلس إدارة لجنة اليتيم العربي، ورئيسا للمجلس الأعلى لجمعية الشبان المسيحيين بالقدس.
الباحث والكاتب
لم يقتصر عطاء مجج على عيادته، بل نشط في كتابة مقالات طبية نشرت في مجلات علمية محكّمة. ويذكر رفيقه الطبيب أنور دودين -في مجلة القدس الطبية عام 2014- أن مجج يُعد أحد مؤسسي طب الأطفال في فلسطين، حيث أنشأ معظم أقسام الأطفال في مشافيها، وأصدر العديد من الأبحاث في هذا التخصص، وارتبطت أبحاثه بأمراض الأطفال التي انتشرت بعد النكبة.
كان لتضحيات الطبيب مجج وأفعاله عام 1948 أثر كبير في منحه مصداقية كبيرة، وحاز على أوسمة عديدة، على رأسها وسام من الملك الأردني الحسين بن طلال.
وحين توفي في يناير/كانون الثاني 1999، شيّعه الفلسطينيون في جنازة مهيبة جابت شوارع القدس من شرقها إلى غربها، حيث غطي التابوت بعلم فلسطين، ودُفن في مقبرة جبل صهيون.
أمين مجج على يمين الرئيس المصري جمال عبد الناصر في القاهرة في مطلع ستينيات القرن الماضي (الجزيرة)
الموسيقي والأب
تقول لينا ابنة الطبيب مجج -في رواية لها بكتاب "الحرب دون شوكلاتة"- إن والدها كان عاشقا للموسيقا، وأنشأ فرقته وهو في عمر 16، وكان منخرطا في عمله لدرجة أنه دخل في اكتئاب حين تقاعد. وتضيف "كلما سألنا أبي عن يوم مولده يقول إنه لا يعرف التاريخ الحقيقي، فقد ولد ضعيفا بوزن خفيف، وظنّت جدتي أنه لن يعيش طويلا، فقد كان يطفو على سطح الماء عندما تحممه".
أما ابنته رندة فتقول "اعتنى والدي بجميع احتياجاتنا ولم نحتج طبيبا مطلقا، ورغم انشغاله فقد كان يوم الأحد عائليا مقدسا، حيث كانت أمي تأخذنا إلى الكنيسة في الصباح، بينما يمكث أبي في البيت يقرأ الجريدة ويستمع إلى الراديو، وعندما نعود نتحلق حوله لنستمع إلى حكاياته، ورائحة طعام أمي تفوح من المطبخ".
القدس المحتلة - الجزيرة نت
لم يكن قد مرّ عام بعد على افتتاح طبيب الأطفال الشاب أمين صالح مجج عيادته في شارع "مأمن الله" بالقدس، حتى بدأت وقائع النكبة عام 1948 واحتلت إسرائيل غربي المدينة بالكامل. ورغم أن الحرب حالت بينه وبين عيادته فإنه أوفى بقسَمه الطبي، واستجاب لنداء الجرحى حتى غدا من أبرز الأطباء الفلسطينيين في القدس.
لم يتردد مجج (ابن 27 عاما آنذاك) في تسخير كل إمكاناته لإنقاذ الجرحى، وبسبب حالة الطوارئ وشُح الطواقم جعل نفسه طبيبا ومزوّد مؤن وناقل أخبار، وحوّل مركبته الصغيرة من نوع "فيات" إلى سيارة إسعاف ينقل بها جرحى معارك النكبة يوميا من خطوط النار غير آبه بما قد يصيبه.
وُلد أمين مجج عام 1921 في مدينة رام الله (شمالي القدس) لعائلة مسيحية فلسطينية، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة المطران بالقدس، حتى تخرج منها عام 1938، ثم التحق بكلية الطب في الجامعة الأميركية ببيروت، والتقى في بيروت الممرضة اللبنانية بيتي داغر التي أصبحت لاحقا زوجته وأم أبنائه الأربعة، وتخصص في طب الأطفال بجامعة لندن عام 1954.
طبيب شامل
بعد نيله اللقب الأول في الطب، عاد أمين مع زوجته إلى بيته في القدس عبر شواطئ حيفا عام 1947، وافتتح عيادته بماله الخاص في شارع "مأمن الله" التي أُغلقت سريعا بسبب احتلال غربي القدس. وشهد الطبيب الشاب كل معارك النكبة في ظل ندرة الأطباء في الجزء الشرقي المتبقي من المدينة قبل احتلاله، فتحوّل من طبيب للأطفال إلى طبيب لكافة الأعمار.
إلى جانب ندرة الأطباء، عانى شرقي القدس (احتل عام 1967) من ندرة المستشفيات أيضا، في حين بُنيت أفضل المستشفيات تجهيزا في الجزء الغربي للمدينة، وبات الوصول إليها مستحيلا بعد استيلاء العصابات الصهيونية عليها عام 1948، فأنشأ الطبيب مجج مستشفى في دير مسيحي ببلدة العيزرية (شرقي القدس)، وتطوع فيه مع زوجته وأفراد من عائلته لعلاج الثوار الجرحى وأهالي القرى المحيطة.
خاطر بحياته
في كتابها "الحرب دون شوكلاتة"، روت السيدة بيتي داغر مجج "أم صالح" (96 عاما) حكاية زوجها الطبيب الذي خاض رحلات يومية خطرة لنقل المصابين والحالات الطارئة إلى المستشفى النمساوي (الهوسبيس) في البلدة القديمة بالقدس، رغم انتشار القناصة والقنابل الكثيرة التي سقطت قرب مركبته والمستشفى الذي عمل فيه. وتقول إنه ورغم الحرب رفض الهجرة وظل يردد "لا شيء سيمنعني عن محبوبتي القدس".
لم يكتفِ الطبيب الشاب بنقل الجرحى وعلاجهم، بل كان يستعين بمركبته الصغيرة لإيصال المعونات والإمدادات إلى كنيسة الجثمانية على سفح جبل الزيتون بالقدس وغيرها من النقاط.
وكان ينقل أخبار البلدة القديمة في ظل الحرب المتصاعدة، حتى بات أحيانا همزة الوصل الوحيدة مع العالم الخارجي، في ظل تمزيق العصابات الصهيونية شقي القدس وصعوبة التنقل آنذاك.
بعد 9 أشهر من العمل بمستشفى "الدير" في العيزرية، انتقل الزوجان مجج للعمل في مستشفى المطلع (أوغستا فيكتوريا) على جبل الزيتون، الذي كان يستقبل اللاجئين الفلسطينيين عام 1949، حيث أنشأ مجج قسما للأطفال وترأسه حتى عام 1990، وطوّره رغم قصف الاحتلال طابقه العلوي إبان "النكسة" (حرب يونيو/حزيران) واحتلال شرقي القدس عام 1967.
طبيب الفقراء
ما زالت السيدة مجج تعيش حتى اليوم في بيت عتيق بشارع المسعودي قرب باب الساهرة (شرقي القدس)، وبُني عام 1927 وعاشت فيه مع زوجها الطبيب وعائلته. وتروي للجزيرة نت كيف افتتح -من الصفر- داخل بيته عيادته الخاصة بعد انتهاء الحرب، التي لم يردّ فيها طارقا حتى في منتصف الليل، وكان يعالج الفقراء مجانا، بل ويوفر لهم الدواء بلا مقابل، حتى لُقب "بأبي الفقراء وطبيبهم".
يروي صالح نجل الطبيب مجج للجزيرة نت كيف كان والده يزور المرافق الطبية في البلدة القديمة لتزويدها بالخدمات والمستلزمات إبان النكبة، ويتابع أنه "في أحد الأيام، وخلال مغادرته البلدة القديمة من باب الجديد، وجد أمامه حاخاما يهوديا مصابا برصاصة في رأسه، فتذكر التزامه القوي بالقسَم الطبي، ومشى به إلى الجانب الآخر من خط الهدنة إلى بر الأمان، رغم خشيته من رصاصة طائشة بسبب المكان الحدودي الخطر".
الطبيب والسياسي والإداري
يذكر الباحثان عزيز العصا وعماد الخطيب في كتابهما "مقدسيون صنعوا تاريخا" أن الطبيب أمين مجج شغل عضو مجلس أمانة القدس منذ عام 1950 ولمدة 14 عاما إبان الحكم الأردني للمدينة، كما تولى منصب نائب أمين القدس ثم أصبح أمينا لها بالوكالة، وكان عضوا في بلدية القدس على فترات متفاوتة، وعضوا في مجلس النواب الأردني عن القدس منذ عام 1967 وحتى 1988.
كان مجج طبيبا وسياسيا وإداريا في آن واحد، حيث تولى عام 1957 3 وزارات معا في الحكومة الأردنية (الصحة والإنشاء والتعمير والشؤون الاجتماعية)، ثم أصبح عام 1964 وزيرا للصحة.
كما ترأس قسم الأطفال في مستشفى المقاصد بالقدس، وأداره بين عامي 1970 و1985، وتولى مناصب إدارية في مستشفيات أخرى كالمستشفى العربي الأهلي بغزة، والمستشفى الإنجيلي العربي بنابلس. وكان عضوا في مجلس إدارة لجنة اليتيم العربي، ورئيسا للمجلس الأعلى لجمعية الشبان المسيحيين بالقدس.
الباحث والكاتب
لم يقتصر عطاء مجج على عيادته، بل نشط في كتابة مقالات طبية نشرت في مجلات علمية محكّمة. ويذكر رفيقه الطبيب أنور دودين -في مجلة القدس الطبية عام 2014- أن مجج يُعد أحد مؤسسي طب الأطفال في فلسطين، حيث أنشأ معظم أقسام الأطفال في مشافيها، وأصدر العديد من الأبحاث في هذا التخصص، وارتبطت أبحاثه بأمراض الأطفال التي انتشرت بعد النكبة.
كان لتضحيات الطبيب مجج وأفعاله عام 1948 أثر كبير في منحه مصداقية كبيرة، وحاز على أوسمة عديدة، على رأسها وسام من الملك الأردني الحسين بن طلال.
وحين توفي في يناير/كانون الثاني 1999، شيّعه الفلسطينيون في جنازة مهيبة جابت شوارع القدس من شرقها إلى غربها، حيث غطي التابوت بعلم فلسطين، ودُفن في مقبرة جبل صهيون.
أمين مجج على يمين الرئيس المصري جمال عبد الناصر في القاهرة في مطلع ستينيات القرن الماضي (الجزيرة)
الموسيقي والأب
تقول لينا ابنة الطبيب مجج -في رواية لها بكتاب "الحرب دون شوكلاتة"- إن والدها كان عاشقا للموسيقا، وأنشأ فرقته وهو في عمر 16، وكان منخرطا في عمله لدرجة أنه دخل في اكتئاب حين تقاعد. وتضيف "كلما سألنا أبي عن يوم مولده يقول إنه لا يعرف التاريخ الحقيقي، فقد ولد ضعيفا بوزن خفيف، وظنّت جدتي أنه لن يعيش طويلا، فقد كان يطفو على سطح الماء عندما تحممه".
أما ابنته رندة فتقول "اعتنى والدي بجميع احتياجاتنا ولم نحتج طبيبا مطلقا، ورغم انشغاله فقد كان يوم الأحد عائليا مقدسا، حيث كانت أمي تأخذنا إلى الكنيسة في الصباح، بينما يمكث أبي في البيت يقرأ الجريدة ويستمع إلى الراديو، وعندما نعود نتحلق حوله لنستمع إلى حكاياته، ورائحة طعام أمي تفوح من المطبخ".