في بطن الحوت.. نائل البرغوثي يقاوم العزلة والنسيان
رنيم علوي – وكالة سند للأنباء
جدرانٌ صامتة بسقفٍ ضيّق لا شمس وظِلّ، أبوابٌ مُحكمة الإغلاق، تمامًا كصندوقٍ مظلم مُلقى في بطن الحوت، يعيش فيه جسد بَشريّ منذ زمنٍ بعيد، عدّاد عمره يمر سريعًا، والأيام فيه متشابهة بلا فارق، بات شاهدًا على تغيرات المكان، والسجّانين، والمعتقلين أيضًا، فقدَ والديه وشقيقه، تبدلت أحوال عائلته وهو أسيرًا، ومع ذلك لازال التشبَّث بـ "الأمل"، محاولة أخيرة يُقاوم فيها بطل قصتنا، العزلة والنسيان وظُلم السجّان.
في زنزانة شُيّدت كي ينسى العالم منْ بداخلها، يقبع الأسير الفلسطيني نائل البرغوثي (65 عامًا) صاحب أطول مدة اعتقال في تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة"، فهو أمضى 34 سنّة متواصلة في الاعتقال، إلى أن تحرر في صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، غير أنّ الاحتلال الإسرائيلي أعاد اعتقاله في حزيران/ يونيو 2014، وما يزال معتقلًا إلى اليوم.
وفي هذا التقرير رافقت "وكالة سند للأنباء" حنان البرغوثي شقيقة الأسير "نائل" الذي تعود أصوله لبلدة كوبر شمال رام الله وسط الضفة الغربية، للحديث عن ذكرايتهما معًا وإنجازاته، وعن الوجه الآخر للإنسان الذي يواجه الاعتقال منذ عام 1978.
تستهل "حنان" الحوار بالتعريف عن شقيقها، إنه "من مواليد 1957، وحُكم بالسَّجن المؤبد مضافًا إليها 18 سنة، وبعد إعادة اعتقاله أصدرت سلطات الاحتلال بحقه حُكمًا مدته 30 شهرًا، وبعد انتهاء محكوميته، أعادت له حُكمه السابق".
والأسير "البرغوثي" واحد، من 25 فلسطينيا اعتقلتهم سلطات الاحتلال منذ قبل اتفاقيّة أوسلو (عام 1993)، ويطلق عليهم "قدامى الأسرى"، ويواجهون ظروفاً إنسانية مُركّبة تجمع بين فراق الأهل لعقود طويلة، وأوضاعٍ صحيةٍ مُتردّية نتيجة الأمراض المُزمنة، وكبر السنّ، بخلاف الانتهاكات الإسرائيلية بحقهم.
وتُضيف "حنان"، أن "نائل" لم يسمح لِـنفسه أن يبقى نصف عُمرهِ وهو داخل زنزانته، دون أن يُنعم نَفسه بالمعرفة، فقد حصلَ على عِدة شهاداتٍ لم تَكن من الجامعات العبرية بل المصرية، فيما حِفظ القرآن الكريم كاملاً، وتابع الطريق إلى أن حَصل على شهاداتٍ فخريّة في تِلاوةِ القُرآنِ الكريم والتجويد، فما لَبث إلا أن باتَ يُعطي دروساً تاريخية وعبّرية داخل السجن.
"جوجل فلسطين"
يُلقب "نائل" في السجن بـ "جوجل فلسطين" من شدة ما يكمن في عقله من معلومات معرفية عن تاريخ فلسطين، تستذكر: "في السنّة التي تحرر بها من السجن، وبينما كان في زيارة لبيتي، سألني ابني عن موقع آية ما في القرآن الكريم، لم ينتظرني نائل لأرد، فأجابه هو سريعًا، فعرفت حينها أنه حافظ لكتاب الله".
"كل اللغات إلا الإنجليزية يا حنان"، لماذا يا صديقي وأنت الذي تهون عليك مشقة الطريق في سبيل العلم؟ (تسأله شقيقته ذات يوم، عن سبب عزوفه عن تعلم اللغة الإنجليزية)، فيُجيبها بنبرةٍ قهر مستحضرًا أوجاعه في الزنزانة كمثال: "هم سبب نكبتنا، ونتيجة وعد بلفور نحن تحت الاحتلال حتى يومنا هذا ونُعاني من غطرسته وظلمه وبطشه".
وفي حضرة هذا الموقف، تُشير "حنان" إلى أن شقيقها يُتقن خمس لغات منها العبرية والألمانية والفرنسية، وكلها تعلّمها داخل الزنزانة الذي حاول سجّانه قهره فيها.
عن رقة قلب "نائل"..
عزيزةٌ هي على قلبه، فسنوات الأسر الطويلة التي سرقت عمره وأكلت روحه لم تُغيّر رقة مشاعره تجاه شقيقته عن ذلك تُحدثنا "حنان": "هو دائم السؤال عني وعن أحوالي، ولا أتذكر أنني فقد حسّه في مناسبة تخصني، يسبق الجميع ليكون أول من يقف إلى جانبي رغم الغياب".
ولا تنسى رسالة التهنئة التي بعثها "نائل" إليها يوم زفافها من سجنه ثم إلى البريد، لتصل أخيرًا بين يديها وهي ترتدي فستانها الأبيض، لتقرأها بصوتهٍ الرقيق المغلف بالحب والشوق، جاء في جزءٍ منها: "والله كبرتي واتزوجتي رغم إنو أمي كانت اتضل تغنيلك حنونة زيت المونة خسارة عليها للبيت، شو السبب يا أختي إنه أمي زوّجتك وإحنا مش عندك؟".
وتؤكد "حنان" أن "هذا الحضور ليس الأول ولا الأخير" لشقيقها، فهذا هو "نائل" الذي يحرص دائمًا على ترجمة حُبّه لأفعال سواءً معها أو مع باقي أفراد عائلته وأصدقائه.
وفي سؤالنا متى كانت المرة الأخيرة التي اجتمعتم فيها كعائلة على سفرةٍ واحدة في شهر رمضان الكريم؟ اختنقت الحروف في حلق "ضيفة سند": "تخيلوا أن السنة التي تحرر فيها نائل قبل إعادة اعتقاله، كانت المرة الوحيدة والأخيرة التي اجتمعنا فيها كأخوة بين والدينا على سفرةٍ واحدة".
ومن ذلك الوقت حتى يومنا هذا، يمر رمضان _كغيره من المناسبات_ على زوجته أمان نافع بغصةٍ ووجع، فعلى طاولة الإفطار تضع طبقًا خاصاً بزوجها، على أملٍ بأن تُطوى صفحة الانتظار المرّ، وتعود روح الحياة إلى قلبيهما، علمًا أنه تزوجها بعد الإفراج عنه في 2011.
وتختم حنان البرغوثي حديثها بصوتٍ بدا فيه القهر جليًا: "فقد نائل والديه، وشقيقه أبو عاصف، وابن شقيقه، واعتُقلت مجموعة كبيرة من أفراد عائلته وأفرج عنهم لاحقًا، وهُدمت منازل لعائلتنا، وتبلدت أحوالنا وكبِرنا، واستمرت الحياة، ونائل هو نائل ينظر إلينا من خلف القضبان، أي عالمٍ هذا الذي نعيش فيه!".
رسائل من السجن..
وعلى مدار سنوات أسره، بعث "البرغوثي" عدة رسائل لمن هم خارج أسوار السجن، دعا في كثيرٍ منها لـ "تعزيز الوحدة الوطنيّة" باعتبارها "واجبًا وطنيًا وقوميًا"، مؤكدًا أنّ "الطريق الوحيدة لتحريرهم، تبدأ أولًا من الوحدة الوطنية، كمنطلق أساسي لاستعادة الهوية الفلسطينية، وإعادة الاعتبار للقضية وأهدافها التحررية".
ومن أبرز رسائله تلك التي وجهها إلى زوجته في نوفمبر/ تشرين ثاني 2020، بمناسبة دخوله الـ 41 عامًا داخل السجن، وجاء في جزءٍ منها: "لو أن هناك عالمًا حُرّا كما يدّعون، لما بقيت في الأسرى 41 سنة"، وفي رسالةٍ أخرى قال: "إن محاولات الاحتلال لقتل إنسانيّتنا لن تزيدنا إلّا إنسانية".
رنيم علوي – وكالة سند للأنباء
جدرانٌ صامتة بسقفٍ ضيّق لا شمس وظِلّ، أبوابٌ مُحكمة الإغلاق، تمامًا كصندوقٍ مظلم مُلقى في بطن الحوت، يعيش فيه جسد بَشريّ منذ زمنٍ بعيد، عدّاد عمره يمر سريعًا، والأيام فيه متشابهة بلا فارق، بات شاهدًا على تغيرات المكان، والسجّانين، والمعتقلين أيضًا، فقدَ والديه وشقيقه، تبدلت أحوال عائلته وهو أسيرًا، ومع ذلك لازال التشبَّث بـ "الأمل"، محاولة أخيرة يُقاوم فيها بطل قصتنا، العزلة والنسيان وظُلم السجّان.
في زنزانة شُيّدت كي ينسى العالم منْ بداخلها، يقبع الأسير الفلسطيني نائل البرغوثي (65 عامًا) صاحب أطول مدة اعتقال في تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة"، فهو أمضى 34 سنّة متواصلة في الاعتقال، إلى أن تحرر في صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، غير أنّ الاحتلال الإسرائيلي أعاد اعتقاله في حزيران/ يونيو 2014، وما يزال معتقلًا إلى اليوم.
وفي هذا التقرير رافقت "وكالة سند للأنباء" حنان البرغوثي شقيقة الأسير "نائل" الذي تعود أصوله لبلدة كوبر شمال رام الله وسط الضفة الغربية، للحديث عن ذكرايتهما معًا وإنجازاته، وعن الوجه الآخر للإنسان الذي يواجه الاعتقال منذ عام 1978.
تستهل "حنان" الحوار بالتعريف عن شقيقها، إنه "من مواليد 1957، وحُكم بالسَّجن المؤبد مضافًا إليها 18 سنة، وبعد إعادة اعتقاله أصدرت سلطات الاحتلال بحقه حُكمًا مدته 30 شهرًا، وبعد انتهاء محكوميته، أعادت له حُكمه السابق".
والأسير "البرغوثي" واحد، من 25 فلسطينيا اعتقلتهم سلطات الاحتلال منذ قبل اتفاقيّة أوسلو (عام 1993)، ويطلق عليهم "قدامى الأسرى"، ويواجهون ظروفاً إنسانية مُركّبة تجمع بين فراق الأهل لعقود طويلة، وأوضاعٍ صحيةٍ مُتردّية نتيجة الأمراض المُزمنة، وكبر السنّ، بخلاف الانتهاكات الإسرائيلية بحقهم.
وتُضيف "حنان"، أن "نائل" لم يسمح لِـنفسه أن يبقى نصف عُمرهِ وهو داخل زنزانته، دون أن يُنعم نَفسه بالمعرفة، فقد حصلَ على عِدة شهاداتٍ لم تَكن من الجامعات العبرية بل المصرية، فيما حِفظ القرآن الكريم كاملاً، وتابع الطريق إلى أن حَصل على شهاداتٍ فخريّة في تِلاوةِ القُرآنِ الكريم والتجويد، فما لَبث إلا أن باتَ يُعطي دروساً تاريخية وعبّرية داخل السجن.
"جوجل فلسطين"
يُلقب "نائل" في السجن بـ "جوجل فلسطين" من شدة ما يكمن في عقله من معلومات معرفية عن تاريخ فلسطين، تستذكر: "في السنّة التي تحرر بها من السجن، وبينما كان في زيارة لبيتي، سألني ابني عن موقع آية ما في القرآن الكريم، لم ينتظرني نائل لأرد، فأجابه هو سريعًا، فعرفت حينها أنه حافظ لكتاب الله".
"كل اللغات إلا الإنجليزية يا حنان"، لماذا يا صديقي وأنت الذي تهون عليك مشقة الطريق في سبيل العلم؟ (تسأله شقيقته ذات يوم، عن سبب عزوفه عن تعلم اللغة الإنجليزية)، فيُجيبها بنبرةٍ قهر مستحضرًا أوجاعه في الزنزانة كمثال: "هم سبب نكبتنا، ونتيجة وعد بلفور نحن تحت الاحتلال حتى يومنا هذا ونُعاني من غطرسته وظلمه وبطشه".
وفي حضرة هذا الموقف، تُشير "حنان" إلى أن شقيقها يُتقن خمس لغات منها العبرية والألمانية والفرنسية، وكلها تعلّمها داخل الزنزانة الذي حاول سجّانه قهره فيها.
عن رقة قلب "نائل"..
عزيزةٌ هي على قلبه، فسنوات الأسر الطويلة التي سرقت عمره وأكلت روحه لم تُغيّر رقة مشاعره تجاه شقيقته عن ذلك تُحدثنا "حنان": "هو دائم السؤال عني وعن أحوالي، ولا أتذكر أنني فقد حسّه في مناسبة تخصني، يسبق الجميع ليكون أول من يقف إلى جانبي رغم الغياب".
ولا تنسى رسالة التهنئة التي بعثها "نائل" إليها يوم زفافها من سجنه ثم إلى البريد، لتصل أخيرًا بين يديها وهي ترتدي فستانها الأبيض، لتقرأها بصوتهٍ الرقيق المغلف بالحب والشوق، جاء في جزءٍ منها: "والله كبرتي واتزوجتي رغم إنو أمي كانت اتضل تغنيلك حنونة زيت المونة خسارة عليها للبيت، شو السبب يا أختي إنه أمي زوّجتك وإحنا مش عندك؟".
وتؤكد "حنان" أن "هذا الحضور ليس الأول ولا الأخير" لشقيقها، فهذا هو "نائل" الذي يحرص دائمًا على ترجمة حُبّه لأفعال سواءً معها أو مع باقي أفراد عائلته وأصدقائه.
وفي سؤالنا متى كانت المرة الأخيرة التي اجتمعتم فيها كعائلة على سفرةٍ واحدة في شهر رمضان الكريم؟ اختنقت الحروف في حلق "ضيفة سند": "تخيلوا أن السنة التي تحرر فيها نائل قبل إعادة اعتقاله، كانت المرة الوحيدة والأخيرة التي اجتمعنا فيها كأخوة بين والدينا على سفرةٍ واحدة".
ومن ذلك الوقت حتى يومنا هذا، يمر رمضان _كغيره من المناسبات_ على زوجته أمان نافع بغصةٍ ووجع، فعلى طاولة الإفطار تضع طبقًا خاصاً بزوجها، على أملٍ بأن تُطوى صفحة الانتظار المرّ، وتعود روح الحياة إلى قلبيهما، علمًا أنه تزوجها بعد الإفراج عنه في 2011.
وتختم حنان البرغوثي حديثها بصوتٍ بدا فيه القهر جليًا: "فقد نائل والديه، وشقيقه أبو عاصف، وابن شقيقه، واعتُقلت مجموعة كبيرة من أفراد عائلته وأفرج عنهم لاحقًا، وهُدمت منازل لعائلتنا، وتبلدت أحوالنا وكبِرنا، واستمرت الحياة، ونائل هو نائل ينظر إلينا من خلف القضبان، أي عالمٍ هذا الذي نعيش فيه!".
رسائل من السجن..
وعلى مدار سنوات أسره، بعث "البرغوثي" عدة رسائل لمن هم خارج أسوار السجن، دعا في كثيرٍ منها لـ "تعزيز الوحدة الوطنيّة" باعتبارها "واجبًا وطنيًا وقوميًا"، مؤكدًا أنّ "الطريق الوحيدة لتحريرهم، تبدأ أولًا من الوحدة الوطنية، كمنطلق أساسي لاستعادة الهوية الفلسطينية، وإعادة الاعتبار للقضية وأهدافها التحررية".
ومن أبرز رسائله تلك التي وجهها إلى زوجته في نوفمبر/ تشرين ثاني 2020، بمناسبة دخوله الـ 41 عامًا داخل السجن، وجاء في جزءٍ منها: "لو أن هناك عالمًا حُرّا كما يدّعون، لما بقيت في الأسرى 41 سنة"، وفي رسالةٍ أخرى قال: "إن محاولات الاحتلال لقتل إنسانيّتنا لن تزيدنا إلّا إنسانية".