الشركات الفرنسية.. هل هي متواطئة في الجريمة؟

  • الإثنين 02, سبتمبر 2024 05:15 م
  • الشركات الفرنسية.. هل هي متواطئة في الجريمة؟
كشفت الحرب على غزّة عمق الروابط التجارية التي تجمع بين شركات غربية وإسرائيل، مما يُبرز الدور المحوري لهذه الشركات في دعم الجرائم الإسرائيلية، فباتت شريكةً أساسيةً في تلك الجرائم، سواء في غزة أم في الضفة الغربية والقدس.
الشركات الفرنسية.. هل هي متواطئة في الجريمة؟
د. محمود الحنفي
كشفت الحرب على غزّة عمق الروابط التجارية التي تجمع بين شركات غربية وإسرائيل، مما يُبرز الدور المحوري لهذه الشركات في دعم الجرائم الإسرائيلية، فباتت شريكةً أساسيةً في تلك الجرائم، سواء في غزة أم في الضفة الغربية والقدس.
ومع صدور قرار محكمة العدل الدولية في 19 يوليو/تموز من هذا العام، الذي عدَّ الاحتلال للأراضي الفلسطينية غير قانوني، ولا يترتب عليه أي مكاسب قانونية لدولة الاحتلال، يتّضح أن الشركات التي تتعامل مع الاحتلال وتطيل أمده وتعمقه، تخالف قواعد القانون الدولي، وتتحمل مسؤولية قانونية بموجب هذا القانون.
في هذا المقال، نسعى إلى بحث المسؤولية القانونية لهذه الشركات، كما نُسلِّط الضوء على الشركات الفرنسية المتواطئة في جريمة الاستيطان، ونبحث الطرق الممكنة لمساءلتها.
نموذج الشركات الفرنسي
وَفقًا لتقرير نشرته جريدة "لوموند" الفرنسية (Le Monde) في العاشر من شهر أغسطس/آب تحت عنوان: "شركات فرنسية مستهدفة بسبب أنشطتها في المستوطنات الإسرائيلية"، قامت الأمم المتحدة في عام 2023 بتصنيف ثلاث شركات فرنسية تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تمويل وتطوير المستوطنات الإسرائيلية، وهي جزء من قائمة تضم 97 شركة عالمية حددتها الأمم المتحدة في تقريرها الأخير؛ بسبب تورطها في دعم الاستيطان الإسرائيلي.
الشركات الفرنسية الثلاثة هي:
Altice International؛ مالك مشغل الهاتف SFR.
Alstom؛ ثاني أكبر شركة في العالم في بناء السكك الحديدية.
Egis، التي تتخصص في الهندسة لبناء وتشغيل البنية التحتية.
فرص مساءلة تلك الشركات
يحمل رأي محكمة العدل الدولية بخصوص عدم قانونية الاحتلال وزنًا قانونيًا كبيرًا، ويمكن أن يشكل أساسًا لقضايا قانونية مستقبلية. ومن ثم، فإن الرأي الصادر عن المحكمة يكون ذا أهمية كبيرة، وستتطرق المحاكم الفرنسية إليه بلا شك في حال وجود طعون ضد الشركات المدرجة في قائمة الأمم المتحدة.
لذا، قد تجد الشركات الفرنسية – التي تنخرط في أنشطة داخل المستوطنات الإسرائيلية، أو تقدم لها الدعم – نفسَها أمام عواقب قانونية وسياسية جسيمة، بناءً على قرار محكمة العدل الدولية الذي يؤكد على عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي. فقد تُفرض عليها عقوبات دولية أو تواجه ضغوطًا قانونية من الهيئات الدولية، أو الحكومات، إذا توفرت الإرادة السياسية لذلك.
كما تواجه خطر فقدان دعم المستثمرين. ففي يوليو/تموز 2021، قرر أكبر صندوق تقاعد خاص في النرويج "KLP" سحب استثماراته من شركتَي Altice وAlstom، مبررًا ذلك بأن الشركتين متورطتان في انتهاكات حقوق الإنسان؛ بسبب علاقتهما بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة.
وفي يونيو/حزيران عام 2023، اتخذ نفس الصندوق قرارًا بسحب استثماراته من الشركة الأميركية Caterpillar، لأن معداتها تُستخدم من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، معربًا عن مخاوفه من أن تكون الشركة تسهم في انتهاكات حقوق الإنسان، وانتهاك القانون الدولي في الضفة الغربية وغزة.
يشمل مفهوم مبدأ "العناية الواجبة" (Due Diligence) التزام الشركات بتحديد ومعالجة التأثيرات السلبية على حقوق الإنسان، بما في ذلك تجنبها أو تخفيفها والإبلاغ عنها". ورغم أن الشركات الفرنسية قد لا تكون خاضعة بشكل مباشر للقانون الدولي، فإنه يمكن محاكمتها استنادًا إلى مبدأ "العناية الواجبة"، الذي تم تقنينه في فرنسا عام 2017، وعزّزه توجيه أوروبي مقترح في يوليو/تموز 2022.
هذا المبدأ يُحمل الشركات مسؤولية قانونية عن انتهاكات حقوق الإنسان، ويمكن أن يؤدي إلى فرض غرامات في حال عدم الامتثال.
إضافة إلى ذلك، قد تواجه الشركات ملاحقة قانونية؛ بسبب انتهاكات أخرى مثل الممارسات التمييزية، ما يفتح المجال لسكان الأراضي الفلسطينية المحتلة بالتعاون مع منظمات غير حكومية لتقديم دعاوى ضد هذه الشركات أمام المحاكم الفرنسية.
المسؤولية القانونية للشركات
في إطار المسؤولية القانونية، يمكن محاسبة الشركات مباشرة فقط عن الانتهاكات التي تشكّل جرائم دولية وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
تقليديًا، تُعتبر الدول هي الكيانات الرئيسية في القانون الدولي، حيث تمتلك المنظمات الدولية الشخصيّة القانونية الدولية، بينما يُعطى الأفراد والشركات دورًا محدودًا. وعلى الرغم من أن التطورات الأخيرة قد وضّحت التزامات الشركات في مجال حقوق الإنسان، فإنه لا توجد بعد آلية تنظيمية فعالة على المستوى الدولي.
أولًا: وفق المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة
تُعد المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان بيانًا رسميًا يحدد معايير حقوق الإنسان التي يجب على الشركات الالتزام بها. تتألف المبادئ من ثلاثة أعمدة رئيسية
الحماية: يؤكد أن مسؤولية حماية حقوق الإنسان تقع على عاتق الدول.
الاحترام: ينصّ على ضرورة احترام الشركات لحقوق الإنسان، والقيام بالعناية الواجبة للتأكد من عدم انتهاكها تلك الحقوق.
العلاج القضائي: يدعو إلى توفير سبل العدالة والإنصاف للأشخاص الذين تُنتهك حقوقهم الإنسانية من قبل الشركات.
ورغم أن هذه المبادئ ليست ملزمة حاليًا، فإنها قد تُمهّد الطريق لإصدار صكوك قانونية ملزمة أو تُرسّخ في القانون الدولي العرفي، مما قد يوجِد التزامات قانونية في المستقبل.
ثانيًا: وفق القانون الجنائي الدولي
يؤسس القانون الجنائي الدولي المسؤولية الفردية عن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وأعمال الإبادة الجماعية. وقد توسعت المسؤولية لتشمل الشركات متعددة الجنسيات؛ نظرًا لقدرتها على ارتكاب مثل هذه الانتهاكات
وعلى أساس ذلك، فإن الشركات التي تستثمر أو تعمل تجاريًا مع الحكومات أو الجماعات النشطة في مناطق النزاع، أو تشاركها بطرق أخرى، قد تجد نفسها في موقف قد ترتكب فيه جريمة دولية أو تسهم في ارتكابها.
ثالثًا: على مستوى الدول
تخضع الشركات بأنواعها، لقوانين الدول التي أُسِّسَت فيها ومقرّاتها، بالإضافة إلى قوانين الدول التي تعمل فيها. وهناك عدة طرق يمكن من خلالها مساءلة الشركات عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بموجب القانون الدولي، سواء في دولة الموطن، أو الدولة المضيفة.
تحميل المسؤولية القانونية للمديرين التنفيذيين وبعض كبار الموظفين في الشركة، بصفتهم الفردية، عن انتهاكات القانون الدولي التي تُرتكب باسم الشركة. تمتلك المحكمة الجنائية الدولية، التي أُنشئت بموجب نظام روما الأساسي، اختصاص النظر في القضايا المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان التي يرتكبها الأفراد. وبالتالي، يمكن تحميل المسؤولية القانونية لمديري وموظفي الشركات بصفتهم الفردية عن هذه الجرائم التي تُرتكب باسم الشركة.
لكي تخضع الشركة للمحاكمة بتهمة التواطؤ في انتهاكات حقوق الإنسان، يجب أن يتم ذلك على المستوى المحلي، وليس أمام هيئة دولية، ويتطلب وجود قوانين محلية تجيز محاكمتها. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تكون المعايير المحلية لإثبات التواطؤ، من حيث المعرفة والأثر الفعلي للتواطؤ، أكثر صرامة من المعايير الدولية، بحيث قد يتطلب توفّر القصد (النية) للمساعدة في ارتكاب الانتهاك.
في بعض الولايات القضائية، عندما تقوم الشركة بوظيفة حكومية مخصخصة، تُعتبر جهة حكومية. بناءً على ذلك، يمكن إسناد ما ترتكبه الشركة من انتهاكات للقانون الدولي في إطار هذه الوظيفة إلى الدولة، وملاحقتها قضائيًا على هذا الأساس.
كيف نواجه الشركات المتواطئة حقوقيًا وقانونيًا؟
إن تورطَ بعض الشركات في دعم الاحتلال الإسرائيلي، واستفادتَها من الأنشطة غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكلان انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وحقوق الإنسان. يتطلب هذا الواقع تحركًا فعالًا ومتنوعًا لمساءلة هذه الشركات ووضع حدّ لممارساتها غير القانونية.

على مرّ التاريخ، كانت المساءلة القانونية والضغط الحقوقي أدوات حاسمة في وقف تجاوزات الشركات الكبرى، سواء في جنوب أفريقيا أثناء نظام الفصل العنصري، أم في حالات أخرى تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان حول العالم.
الإجراءات القانونية:
يمكن لمنظمات حقوقية أو حكومات رفعُ قضايا ضد هذه الشركات في المحاكم الوطنية أو الدولية، مطالبة بتعويضات أو بوقف أنشطتها التي تدعم المستوطنات. ففي عام 2013، رفعت مؤسسة "عدالة" والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان قضية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد شركات إسرائيلية ودولية متورطة في بناء الجدار الفاصل، مطالبةً باعتبار هذه الأنشطة غير قانونية وتستوجب المساءلة.
كما يمكن الاستناد في هذا الإطار إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يتيح مقاضاة الأفراد ومديري الشركات المتورطين في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. يمكن أيضًا استخدام مبدأ "العناية الواجبة" المنصوص عليه في القانون الدولي لمساءلة الشركات عن أنشطتها.
الضغط السياسي والإعلامي:
يمكن أن تواجه الشركات ضغطًا سياسيًا وإعلاميًا من خلال وسائل متعددة؛ لوقف أنشطتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا الضغط قد يأتي على شكل حملات مقاطعة أو تحرك شعبي، مما يؤدي إلى التأثير على سمعتها ومكانتها الدولية.
على سبيل المثال، تعرضت شركة (HP هيوليت-باكارد) لحملة مقاطعة؛ بسبب تورطها في توفير التكنولوجيا المستخدمة في نقاط التفتيش الإسرائيلية، مما أدى إلى تراجع سمعة الشركة ووقوع خسائر مالية. كما يمكن استخدام الحملات العالمية مثل حملة المقاطعة، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)؛ للضغط على الحكومات والشركات لوقف دعمها للاحتلال الإسرائيلي.
العقوبات الاقتصادية:
إذا تم تصعيد القضية إلى مستوى العقوبات الدولية، فقد يتم فرض قيود اقتصادية على هذه الشركات، مثل تجميد أصولها أو منعها من العمل في بعض الأسواق. لكن هذا يتطلب شجاعة وإرادة سياسية قوية من المجتمع الدولي. مثال على ذلك، في عام 2021، قامت الحكومة النرويجية بسحب استثمارات صندوق التقاعد الحكومي من شركة Motorola Solutions؛ بسبب تورطها في تزويد الاحتلال الإسرائيلي بأنظمة مراقبة تُستخدم في المستوطنات.
تأثير السمعة:
تورّط هذه الشركات في أنشطة تعتبرها محكمة العدل الدولية "غير قانونية" قد يضر بسمعتها عالميًا، مما يؤدي إلى خسارة عقود وشركاء تجاريين، خاصة في الأسواق التي تدعم حقوق الإنسان.

مثال على ذلك، شركة Airbnb التي كانت توفر خدماتها في المستوطنات الإسرائيلية، تعرضت لحملة ضغط كبيرة أدت في عام 2018 إلى إعلانها تعليق عملها في المستوطنات. يمكن أيضًا استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وحملات المراسلات المركزة؛ لاستهداف سمعة الشركات، مما يجعل من الصعب عليها العمل في بعض الأسواق.