التآكل الأخلاقي للعالم بعد غزّة
عبدالله هداري
حكي الناقد والأديب الهندي الشهير بنكاج ميشرا في دراسته القيّمة “المحرقة بعد غزّة”، التي نُشرت في مجلة London Review of Books (Vol. 46 No. 6 · 21 March 2024))، أنه زار إسرائيل وهو في سني البراءة الأولى، بحثاً عن أجوبة لسؤالين وصفهما بأنهما محيّران: “كيف تستسيغ إسرائيل تنزيل كل سلطتها بشكل رهيب وقاسٍ على الفلسطينيين لتسلبهم حياتهم ومصيرهم؟ وكيف تستسيغ النخب السياسية والإعلامية والصحافية الغربية تجاهل، بل وتبرير، القسوة والعنف المنظم والفاضح الذي تمارسه إسرائيل؟”.
تكللت زيارة ميشرا هذه، إلى جانب تنقيبه المعرفي المستفيض في المسألة، بتحصيل أجوبة حاسمة وخطيرة، تصبّ كلها في ما أسماه الفيلسوف اليهودي البولندي زيغمونت باومان “مراحل التآكل الأخلاقي”، التي كان قد وصف بها إسرائيل من قبل، بعد أن أمضى فيها هو الآخر ثلاث سنين في السبعينيات، سيفرّ بعدها ممّا أسماه “المزاج العدواني”.
مجرد تحوّل هذين السؤالين إلى قضية فكرية ملحّة، في حد ذاته، مؤشّر على بلوغ القضية الفلسطينية اليوم، وبالأخص بعد لحظة 7 أكتوبر، نقطة التحول الكبرى، لأنها صارت معبراً واضحاً عن عمق أزمة الأخلاق العالمية، وحسب خلاصات ميشرا، فإن إسرائيل لم تعد تهدّد وجودها فحسب، بل تهدد كل المؤسَّسات والقيم التي دُشِّنَت بعد 1945، أي بعد الحرب العالمية الثانية، تلك القيم التي كانت تمثل الأمل في تجاوز زمن المأساة والدمار في أوروبا وعدم تكرار ما حصل، سواء في المحرقة أو غيرها من كوارث.
لا يتوقف ميشرا عند هذا الحد من الخلاصات، بل سيجد في مسألة النظر إلى إسرائيل جهة أخلاقية مفتاحاً لفهم هذا التضامن الغربي اللامشروط مع آلة الإبادة الصهيونية، فالقصة كما يعلم الجميع بدأت مع ثقل الذنب الأخلاقي تجاه معاناة اليهود من المحرقة على يد النازية الألمانية، التي حوّلها الغرب فيما بعد إلى سردية تصوّر إسرائيل بوجه أخلاقي سامٍ، يقع فوق المساءلة والمحاسبة، بل ولا يمكن تصوّر أن يكون طرفاً معتدياً على الإطلاق. وهي السردية التي تلحظ جميع الشعوب العربية والإسلامية نجاحها على المستوى الغربي في الحفاظ على مساندة مستقرة للكيان الصهيوني. سردية نعلم جميعاً أنها قد بدأت في التآكل منذ فترة طويلة، جرّاء الاعتداءات اللاإنسانية على الفلسطينيين، وتهجيرهم من أراضيهم واغتصاب أعمارهم ومستقبلهم، إلى جانب تعذيبهم في سجون الاحتلال.
يبين ميشرا أن التاريخ يعلمنا درساً مهماً، وهو الإمكان المفتوح دائماً لتحوّل ضحايا الأمس إلى جلادي اليوم، وقد سبق للأمر أن تكرر مع جهات مختلفة وظفت العنف المنظم تجاه من تراهم تهديداً لكيانها السامي والشوفيني، مثل يوغسلافيا السابقة، وروندا، وسيريلانكا، وأفغانستان، إلخ. أما إسرائيل، فهي أيضاً نتيجة مسار من الإذلال التاريخي، غلفه الغرب بالاستثناء الأخلاقي، ليمحو ذنبه وخطيئته تجاه اليهود، فمنحها المبرّر الكامل في إبادة من تراهم مهدداً لوجودها، دون اعتبار لأيٍّ من القيم الإنسانية، ودون النظر إلى فداحة الجرم المقترف في حقّ الفلسطينيين الذين سُلبت أرضهم وحقوقهم. إننا أمام عقدة أخلاقية متضخمة، باتت ورماً يهدد كل القيم الديمقراطية التي يتبجح بها الغرب، وحسب مايكل يونغ، الخبير في مركز كارنيجي للشرق الأوسط (الاستثناء الإسرائيلي لا يمكن تبريره، 19/8/2024)، إن ما تفعله إسرائيل يتهدد نفوذ الدول الغربية، وسيخلّف تداعيات جيوسياسية جسيمة في المستقبل القريب، ستجعل من جميع الدول، وبالأخص الجنوبية، لا تجد أي مسوغ في قبول السردية الغربية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وقيم العالم الحر.
عند النقطة، آنفة الذكر، تأتي لحظة 7 أكتوبر، التي ستكشف عن النرجسية القاتلة لصورة الوحش الإسرائيلي، من دون أن ننسى أن العالم قد عاين قبل ذلك بقليل الحرب الروسية على أوكرانيا، فتشكلت في الأذهان، بوضوح تام، ومن دون لبس، ازدواجية المعايير الغربية، وتأكد من جديد التهديد الإسرائيلي لمنظومة القيم الأخلاقية العالمية.
يطالب مايكل يونغ، بصفته واحداً من النخبة الغربية، وأحد الغيورين على قيمها، بعدم منح إسرائيل صفة الاستثناء، بل يؤكد أنه لا يمكن لها أن تكون كذلك، فقد بات واضحاً أنها عكس ما رُوِّج عنها أخلاقياً، وبأن نسب التآكل الأخلاقي قد أصابت سردية الغرب عن المحرقة وصورة اليهودي العالمية في مقتل، فنحن نعيش اليوم لحظة ما بعد 7 أكتوبر، التي تحولت فيها القضية الفلسطينية إلى سؤال مؤرق للضمير العالمي، لأنها أرجعتنا مجدداً إلى النقطة الصفر، وسؤال “ما العمل؟” مجدداً، وضرورة التفكير في إعادة بناء منظومة القيم العالمية اليوم، تلك التي اعتقدنا أننا قد أرسينا دعائمها عبر مؤسسات ومواثيق دولية عديدة، حتى لا يتكرر ما سبق أن حدث، لكن المأساة، أن ما تكرر اقترفته يد ضحايا الأمس.
أشار عزمي بشارة في مقالته “قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة” (12/11/2023) كيف تتعمّد السردية الإسرائيلية والغربية سالفة الذكر الخلط بين الفلسطيني والنازي، اقتباساً من لحظة المحرقة، والخلط أيضاً بين الفلسطيني والإرهابي اقتباساً من سردية الحرب على الإرهاب العالمي، غير أننا سنعود لنؤكد أنها سرديات متآكلة اليوم، فما اقترفته إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني بعد 7 أكتوبر، يقول ميشرا، قد أنسى العالم يوم 7 أكتوبر نفسه.
يستعير ميشرا عبارة للروائي والناشط الأميركي جيمس بالدوين، في ما أسماه “الصمت المتدين” التي تناسب كلياً وصف واحد (يقول الكاتب) من ألغاز العالم المعاصر، المجسد في البرودة والقسوة التي يبديها الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه الفلسطينيين، لينضاف إلى قائمة الألغاز المعاصرة التي يحاول عبثاً الإعلاميون والصحافيون والساسة الغربيون الاستمرار في تحنيطها عبر قسوتهم وجبنهم ورقابتهم العدائية لمستقبل الإنسانية.
خلاصة القول، التفكير في مسألة النظر إلى إسرائيل من الجهة الأخلاقية سيكون من أهم حقول المعرفة الإنسانية المعاصرة مستقبلاً، ستنتج رؤى فلسفية وسياسية وفكرية ودينية عديدة أيضاً، التي ستعيد تشكيل موقفنا من قيم عالم ما بعد 1945، وإذا كان الأديب الهندي العالمي، بانكاج ميشرا، قد عقد مقارنات بين قوميته الهندوسية والصهيونية اللتين ظهرتا في اللحظة التاريخية نفسها أواخر القرن التاسع عشر، وتولدتا أيضاً عن عقدة الإذلال والإبادة، وكيف تحولتا إلى عرقية عنصرية معادية للقيم الإنسانية، فإنها، من دون شك، ستستدعي لحظة التفكير شديدة الحماسة والعالمية هذه، جلّ المثقفين والمفكرين والساسة والخبراء والأدباء وفلاسفة العالم العربي والإسلامي، إلى الانخراط في عملية التفكير هذه، وكشف زوايا النظر التي تخصّ شعوبهم وثقافاتهم، لتكمل زوايا النظر العالمية الأخرى.
عبدالله هداري
حكي الناقد والأديب الهندي الشهير بنكاج ميشرا في دراسته القيّمة “المحرقة بعد غزّة”، التي نُشرت في مجلة London Review of Books (Vol. 46 No. 6 · 21 March 2024))، أنه زار إسرائيل وهو في سني البراءة الأولى، بحثاً عن أجوبة لسؤالين وصفهما بأنهما محيّران: “كيف تستسيغ إسرائيل تنزيل كل سلطتها بشكل رهيب وقاسٍ على الفلسطينيين لتسلبهم حياتهم ومصيرهم؟ وكيف تستسيغ النخب السياسية والإعلامية والصحافية الغربية تجاهل، بل وتبرير، القسوة والعنف المنظم والفاضح الذي تمارسه إسرائيل؟”.
تكللت زيارة ميشرا هذه، إلى جانب تنقيبه المعرفي المستفيض في المسألة، بتحصيل أجوبة حاسمة وخطيرة، تصبّ كلها في ما أسماه الفيلسوف اليهودي البولندي زيغمونت باومان “مراحل التآكل الأخلاقي”، التي كان قد وصف بها إسرائيل من قبل، بعد أن أمضى فيها هو الآخر ثلاث سنين في السبعينيات، سيفرّ بعدها ممّا أسماه “المزاج العدواني”.
مجرد تحوّل هذين السؤالين إلى قضية فكرية ملحّة، في حد ذاته، مؤشّر على بلوغ القضية الفلسطينية اليوم، وبالأخص بعد لحظة 7 أكتوبر، نقطة التحول الكبرى، لأنها صارت معبراً واضحاً عن عمق أزمة الأخلاق العالمية، وحسب خلاصات ميشرا، فإن إسرائيل لم تعد تهدّد وجودها فحسب، بل تهدد كل المؤسَّسات والقيم التي دُشِّنَت بعد 1945، أي بعد الحرب العالمية الثانية، تلك القيم التي كانت تمثل الأمل في تجاوز زمن المأساة والدمار في أوروبا وعدم تكرار ما حصل، سواء في المحرقة أو غيرها من كوارث.
لا يتوقف ميشرا عند هذا الحد من الخلاصات، بل سيجد في مسألة النظر إلى إسرائيل جهة أخلاقية مفتاحاً لفهم هذا التضامن الغربي اللامشروط مع آلة الإبادة الصهيونية، فالقصة كما يعلم الجميع بدأت مع ثقل الذنب الأخلاقي تجاه معاناة اليهود من المحرقة على يد النازية الألمانية، التي حوّلها الغرب فيما بعد إلى سردية تصوّر إسرائيل بوجه أخلاقي سامٍ، يقع فوق المساءلة والمحاسبة، بل ولا يمكن تصوّر أن يكون طرفاً معتدياً على الإطلاق. وهي السردية التي تلحظ جميع الشعوب العربية والإسلامية نجاحها على المستوى الغربي في الحفاظ على مساندة مستقرة للكيان الصهيوني. سردية نعلم جميعاً أنها قد بدأت في التآكل منذ فترة طويلة، جرّاء الاعتداءات اللاإنسانية على الفلسطينيين، وتهجيرهم من أراضيهم واغتصاب أعمارهم ومستقبلهم، إلى جانب تعذيبهم في سجون الاحتلال.
يبين ميشرا أن التاريخ يعلمنا درساً مهماً، وهو الإمكان المفتوح دائماً لتحوّل ضحايا الأمس إلى جلادي اليوم، وقد سبق للأمر أن تكرر مع جهات مختلفة وظفت العنف المنظم تجاه من تراهم تهديداً لكيانها السامي والشوفيني، مثل يوغسلافيا السابقة، وروندا، وسيريلانكا، وأفغانستان، إلخ. أما إسرائيل، فهي أيضاً نتيجة مسار من الإذلال التاريخي، غلفه الغرب بالاستثناء الأخلاقي، ليمحو ذنبه وخطيئته تجاه اليهود، فمنحها المبرّر الكامل في إبادة من تراهم مهدداً لوجودها، دون اعتبار لأيٍّ من القيم الإنسانية، ودون النظر إلى فداحة الجرم المقترف في حقّ الفلسطينيين الذين سُلبت أرضهم وحقوقهم. إننا أمام عقدة أخلاقية متضخمة، باتت ورماً يهدد كل القيم الديمقراطية التي يتبجح بها الغرب، وحسب مايكل يونغ، الخبير في مركز كارنيجي للشرق الأوسط (الاستثناء الإسرائيلي لا يمكن تبريره، 19/8/2024)، إن ما تفعله إسرائيل يتهدد نفوذ الدول الغربية، وسيخلّف تداعيات جيوسياسية جسيمة في المستقبل القريب، ستجعل من جميع الدول، وبالأخص الجنوبية، لا تجد أي مسوغ في قبول السردية الغربية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وقيم العالم الحر.
عند النقطة، آنفة الذكر، تأتي لحظة 7 أكتوبر، التي ستكشف عن النرجسية القاتلة لصورة الوحش الإسرائيلي، من دون أن ننسى أن العالم قد عاين قبل ذلك بقليل الحرب الروسية على أوكرانيا، فتشكلت في الأذهان، بوضوح تام، ومن دون لبس، ازدواجية المعايير الغربية، وتأكد من جديد التهديد الإسرائيلي لمنظومة القيم الأخلاقية العالمية.
يطالب مايكل يونغ، بصفته واحداً من النخبة الغربية، وأحد الغيورين على قيمها، بعدم منح إسرائيل صفة الاستثناء، بل يؤكد أنه لا يمكن لها أن تكون كذلك، فقد بات واضحاً أنها عكس ما رُوِّج عنها أخلاقياً، وبأن نسب التآكل الأخلاقي قد أصابت سردية الغرب عن المحرقة وصورة اليهودي العالمية في مقتل، فنحن نعيش اليوم لحظة ما بعد 7 أكتوبر، التي تحولت فيها القضية الفلسطينية إلى سؤال مؤرق للضمير العالمي، لأنها أرجعتنا مجدداً إلى النقطة الصفر، وسؤال “ما العمل؟” مجدداً، وضرورة التفكير في إعادة بناء منظومة القيم العالمية اليوم، تلك التي اعتقدنا أننا قد أرسينا دعائمها عبر مؤسسات ومواثيق دولية عديدة، حتى لا يتكرر ما سبق أن حدث، لكن المأساة، أن ما تكرر اقترفته يد ضحايا الأمس.
أشار عزمي بشارة في مقالته “قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة” (12/11/2023) كيف تتعمّد السردية الإسرائيلية والغربية سالفة الذكر الخلط بين الفلسطيني والنازي، اقتباساً من لحظة المحرقة، والخلط أيضاً بين الفلسطيني والإرهابي اقتباساً من سردية الحرب على الإرهاب العالمي، غير أننا سنعود لنؤكد أنها سرديات متآكلة اليوم، فما اقترفته إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني بعد 7 أكتوبر، يقول ميشرا، قد أنسى العالم يوم 7 أكتوبر نفسه.
يستعير ميشرا عبارة للروائي والناشط الأميركي جيمس بالدوين، في ما أسماه “الصمت المتدين” التي تناسب كلياً وصف واحد (يقول الكاتب) من ألغاز العالم المعاصر، المجسد في البرودة والقسوة التي يبديها الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه الفلسطينيين، لينضاف إلى قائمة الألغاز المعاصرة التي يحاول عبثاً الإعلاميون والصحافيون والساسة الغربيون الاستمرار في تحنيطها عبر قسوتهم وجبنهم ورقابتهم العدائية لمستقبل الإنسانية.
خلاصة القول، التفكير في مسألة النظر إلى إسرائيل من الجهة الأخلاقية سيكون من أهم حقول المعرفة الإنسانية المعاصرة مستقبلاً، ستنتج رؤى فلسفية وسياسية وفكرية ودينية عديدة أيضاً، التي ستعيد تشكيل موقفنا من قيم عالم ما بعد 1945، وإذا كان الأديب الهندي العالمي، بانكاج ميشرا، قد عقد مقارنات بين قوميته الهندوسية والصهيونية اللتين ظهرتا في اللحظة التاريخية نفسها أواخر القرن التاسع عشر، وتولدتا أيضاً عن عقدة الإذلال والإبادة، وكيف تحولتا إلى عرقية عنصرية معادية للقيم الإنسانية، فإنها، من دون شك، ستستدعي لحظة التفكير شديدة الحماسة والعالمية هذه، جلّ المثقفين والمفكرين والساسة والخبراء والأدباء وفلاسفة العالم العربي والإسلامي، إلى الانخراط في عملية التفكير هذه، وكشف زوايا النظر التي تخصّ شعوبهم وثقافاتهم، لتكمل زوايا النظر العالمية الأخرى.