ما يحدُث في غزّة سنُصلَى به جميعاً

  • السبت 28, ديسمبر 2024 01:07 م
  • ما يحدُث في غزّة سنُصلَى به جميعاً
بينما ينصرف العالم إلى الاحتفاء ببداية سنة ميلادية جديدة، يُتجاهل الوضع المأساوي في غزّة، التي أصبحت منسيةً على الرغم من حرب الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب الفظيعة التي تُرتكَب فيها يومياً أمام مرأى ومشهد العالم، وفي ظلّ صمت دولي مخجل ومشاركة غربية واضحة وتواطؤ عربي مذلّ.
ما يحدُث في غزّة سنُصلَى به جميعاً
علي أنوزلا
بينما ينصرف العالم إلى الاحتفاء ببداية سنة ميلادية جديدة، يُتجاهل الوضع المأساوي في غزّة، التي أصبحت منسيةً على الرغم من حرب الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب الفظيعة التي تُرتكَب فيها يومياً أمام مرأى ومشهد العالم، وفي ظلّ صمت دولي مخجل ومشاركة غربية واضحة وتواطؤ عربي مذلّ.
منذ شهور خرجت غزّة ومعاناة أهلها اليومية من رادارات اهتمام الإعلام الدولي، حدث ذلك عندما انصرف تركيز هذا الإعلام على الحرب على لبنان وتطوّراتها الدراماتيكية، ومن بعد انصبّ على التطوّرات المفاجئة والسريعة في سورية، وتداعيتها على إعادة تشكل خريطة المنطقة، وموازين القوى داخلها، وكلّ يوم يمضي يُتجاهل الوضع في غزّة، التي تشهد حرباً إجرامية غير مسبوقة في التاريخ الحديث من حيث الإصرار على القتل بهدف القتل والتدمير من أجل الانتقام.
في وقت نشر هذا المقال، تكون قوات الاحتلال الإسرائيلي مستمرّة في عملياتها الإجرامية في غزّة، تقصف المستشفيات، وتحرق الناس تحت خيامهم، وتجرّف البيوت المدمّرة، وتقطع المساعدات عن الأحياء، وتتركهم يتضوّرون جوعاً، ويموتون عطشاً، ويتجمّدون برداً تحت خيام رثّة، أو تحت السماء مباشرة في ليالي شتاء غزّة القاسي.
يحدث هذا في وقت تجاوز فيه ضحايا حرب الإبادة الجماعية في غزّة أكثر من 153 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنّين، في إحدى أسوأ وأبشع الكوارث الإنسانية في عالم اليوم.
منذ أكثر من عام، تجري عملية تطهير وإبادة جماعية لشعب بأكمله أمام أعين العالم، إذ لا شيء في العالم يمكنه أن يوقف الآلة الجهنمية لدولة خارجة عن القانون، أعلنت نفسها فوق القوانين والمواثيق الدولية كلّها، تلعب دور القاضي الجنائي والجلّاد المتعطّش للدماء في تحدّ، بل واستفزاز للعالم كلّه، يواصل قادتها المجرمون مجازرهم بالرغم من صدور مذكرتَي اعتقال بحقّ رئيس كيانهم، ووزير أمنهم السابق، المتّهمَين من أعلى محكمة دولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بحقّ الفلسطينيين في غزّة.
أصبح إعدام المرضى والجرحى في المستشفيات أمراً عاديّاً، وقصف المستشفيات وتفخيخها مشهداً طبيعياً، ومشهد الناس وهم يُحرَقون أحياءَ تحت خيام بلاستيكية كأنّه جزء من مشهد فيلم قديم يذكّر بنيران النابالم التي كان الجيش الأميركي يحرق بها قوّات الفيتكونغ في فيتنام في سبعينيّات القرن الماضي، مع فارق كبير، وهو أن نيران إسرائيل هي صواريخ حارقة وناسفة، مع أن ما تنقله وسائل الإعلام القليلة، التي ما زالت تغطّي الجرائم الاسرائيلية في غزّة، ليس سوى القليل ممّا يحدث من فظائع لا تُوثَّق بسبب الحصار الإعلامي الذي تفرضه قوات الاحتلال على قطاع غزّة، وأيضاً بسبب قبول وسائل الإعلام، ومن ورائها الرأي العام العالمي، بسياسة الأمر الواقع التي فرضها جيش وسياسيو الاحتلال على العالم.
فهل كان العالم سيقبل أن تُمنَع وسائل الإعلام من تغطية جرائم، مثل تلك التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي يومياً في غزّة، لو كانت تحدث في منطقة أخرى من العالم غير فلسطين؟ أو لو كان من يرتكبها ليسوا إسرائيليين؟ وهل كانت وسائل الإعلام الدولية الكبرى، التي لها إمكانيات كبيرة، ستقبل هذا الأمر المفروض من طرف القوة التي ترتكب هذه الجرائم؟ لماذا عندما تعلّق الأمر بغزّة افتقدت هذه الوسائل روح المغامرة، وخانت الشجاعةُ كبارَ مراسليها؟
غزّة تُباد في صمت، بل في تجاهل تامّ من العالم، وفي عدم اكتراث مستفزّ لإنسانيتنا، تُجرّب في أهلها (أو ما تبقّى منه) أنواع الأسلحة الفتّاكة كلّها، وتمارس ضدّهم أنواع الجرائم البشعة. لقد اعتاد المشاهدون (أو من لا يزالون يتابعون الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزّة) صورَ الجثث الممزّقة، وتلك المتفحّمة.
كما استأنسوا صور الأكياس المعبئة بالأعضاء البشرية المتناثرة، وصور الكلاب الضالّة وهي تنهش الجثث المهملة تحت الدمار، وعمليات التجريف اليومي لجرّافات وجنازير الدبابات الصهيونية، لطمس وإخفاء معالم جرائم الإبادة الجماعية المستمرّة في كلّ شبر من قطاع غزّة. لا شيء يثير الاهتمام، لقد تعوّدنا رؤية الخراب والدمار في مدن غزّة، وأصبحت كرات اللهب العملاقة وستائر الدخان التي تشقّ عنان سماء القطاع مناظر طبيعية، سرعان ما نضغط زرَّ التحكم من بعد لتغيير مشهد الشاشة الصغيرة.
دمّر قطاع غزّة بنسبة تزيد على 80%، وما يجري في شمال القطاع منذ ثلاثة أشهر هو حرب تطهير جماعي لإعادة احتلال المنطقة، ومن أبسط أنواع الدعم لأهل غزّة في محنتهم المستمرّة، منذ نحو خمسة عشر شهراً، هو عدم تركهم للنسيان يأكلهم بعد أن تركناهم للعدوان يفتك بهم. “طوفان الأقصى” كان ردّة فعل على خشية الفلسطينيين من سقوط قضيتهم في غياهب النسيان، والسكوت على إبادتهم اليومية أو تجاهل مأساتهم، لا يقلّ عن المشاركة في الجريمة ولا عن التواطؤ مع المجرم. أضعف الإيمان هو ألّا ننسى غزّة وسكّانها، وأن نُبقِى الجرائم حيّةً، حتى ينال المجرم عقابه. أصعب من التصالح مع المجرم هو التصالح مع جريمته، وبالأحرى التصالح معهما معاً، المجرم والجريمة.
مهما حاولت آلة الحرب الجهنّمية الإسرائيلية أن تحدُث من حرائق ودخان، ومن مناورات إعلامية لتحويل الانتباه عن جرائمها وطمس الأساسيات، يجب أن تبقى البوصلة هي فلسطين وقضية شعبها العادلة. فبشاعة الجريمة وقساوة المجرم لن تزيد الجميع إلّا قناعةً بعدالة هذه القضية، مهما حاولوا طمسها ومحو شعبها من الوجود.
لقد أصبحت الأمور أكثر وضوحاً، يريدون تسليم مصير شعب بكامله إلى الدبّابات والقذائف والصواريخ، ليبنى على أنقاضه نظامٌ عالميٌّ جديدٌ في المنطقة، تكون فيه إسرائيل القوّةَ الوحيدةَ التي تنظّم وتراقب وتهيمن على المنطقة برمّتها. باختصار، نحن نشهد ميلاد عصرٍ صهيونيٍّ جديدٍ إن لم نستيقظ من غفلتنا قبل فوات الآوان سنصبح مُجرَّد عبيد داخل مملكة آل إسرائيل، التي تُوضع أُسسها على أنقاض الخراب الذي تحدثه آلتها الحربية المدمّرة في غزّة ولبنان وسورية، وصولاً حتى اليمن والعراق، وربّما غداً مناطقَ أخرى من الخريطة العربية المستسلمة للمدّ الصهيوني، تنتظر النهاية المُعلَنة لزمن انتهى بالفعل، ومستقبلاً من المفترض أن يحدث من دون العرب.