الجذور الدينية للإبادة الجماعية في غزة

  • الثلاثاء 10, يونيو 2025 11:47 ص
  • الجذور الدينية للإبادة الجماعية في غزة
لفت انتباهي أثناء حرب إبادة غزة أن كثير من الكتاب والبحاثة يرجعون ارتكاب جنود العدو المجازر البشعة في غزة وبتلك الوحشية واللاإنسانية إلى المناهج التربوية والتعليمية التي يتلقاها أولئك الجنود في المدارس من صغرهم وتشكل نظرتهم للفلسطيني. ويذكروا أن رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو يحفز الجنود على ارتكاب تلك المجازر بنصوص من التوراة. وأن وزير الحرب يوآف غالانت، يضف الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية". ويندهش البعض قائلاً: وكأن قتل الفلسطينيين واجب مقدس، لا جُرم. أو يتساءل: كيف يُفسَّر هذا الانسلاخ التام عن الإنسانية؟!
الجذور الدينية للإبادة الجماعية في غزة
مصطفى إنشاصي
لفت انتباهي أثناء حرب إبادة غزة أن كثير من الكتاب والبحاثة يرجعون ارتكاب جنود العدو المجازر البشعة في غزة وبتلك الوحشية واللاإنسانية إلى المناهج التربوية والتعليمية التي يتلقاها أولئك الجنود في المدارس من صغرهم وتشكل نظرتهم للفلسطيني. ويذكروا أن رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو يحفز الجنود على ارتكاب تلك المجازر بنصوص من التوراة. وأن وزير الحرب يوآف غالانت، يضف الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية". ويندهش البعض قائلاً: وكأن قتل الفلسطينيين واجب مقدس، لا جُرم. أو يتساءل: كيف يُفسَّر هذا الانسلاخ التام عن الإنسانية؟!

ذلك الاندهاش والتساؤل عن مجازر العدو في غزة ينطبق على المجتمعات الإنسانية السوية الطبيعية في معتقداتها، وعلى المجتمعات التي لا تحتوي عقائدها الدينية، أو تراثها التاريخي، أو نسيجها الثقافي والفكري، على معتقدات، وقيم ثقافية، وتراث تاريخي يجعل من العنف ليس ظاهرة عرضية في حياة تلك المجتمعات، ولكن جزءً من البنية العقلية والفكرية والاجتماعية والنفسية للفرد والمجتمع ككل. والأخطر من ذلك أنها تجعلها أساساً للنهج والممارسة للقيادة السياسية والعسكرية لتلك المجتمعات. كما هو الحال عند أتباع الديانة اليهودية الوثنية، سواء كانوا اليهود أنفسهم، أو المتهودون من أتباع المذهب التوراتي البروتستانتي. فهؤلاء العنف لديهم عقيدة وعبادة، والمجازر ترتكب باسم الدين!

فتلك المناهج الدراسية هي خلاصة التعاليم الدينية التوراتية، وإنها عقيدة دينية لدي الجندي وغير الجندي، وممارستها واجب مقدس ولا يعتبر جريمة بل يعتبر طاعة وتقرباً للرب. كما أن اليهودي لا يعتبر غير اليهود إنسان مثله وله حق في الحياة، فالنظر إليها أنها مجرد مناهج تعليمية وتجريدها من جذرها الديني يُضعف تلك الدراسات والأبحاث ويُفقدها العمق الفكري في فهم العدو!

والحديث عن الأصول الدينية للإرهاب والإبادة الجماعية وعلاقتها الوثيقة باغتصاب الأرض في التوراة يطول، وسأكتفِ في هذه المقالة بالإشارة باختصار إلى نظرة اليهودي لغير اليهودي (الجوييم أو الأمم أو الأعيار)، وإلى معنى (حيوانات بشرية) التي ذكرها وزير الحرب الصهيوني بداية الحرب لأن لها علاقة بعمق الصراع الديني على حق ورثة إبراهيم عليه السلام!

ساميون وجوييم
بداية؛ لا يمكن بأي حال اعتبار التوراة كتاب دين سماوي ولا كتاب تاريخي موثوق يمكن الاستدلال بما ورد فيه عن تاريخ الجنس البشرية بعد الطوفان! كما أن هناك حقيقة توراتية حاضرة غائبة في أذهاننا وخطابنا الديني والسياسي والفكري عند حديثنا عن مخططات اليهود لهدم المسجد الأقصى، بزعم أنه قائم مكان (هيكل) سليمان عليه السلام المزعوم، الذي لا بد من إعادة بناءه وإعادة العرش إليه، كرمز لسيادة اليهود العالمية، وهي: أن القضية ليست قضية (الهيكل) في حد ذاته لكنها مسألة سيادة اليهود على العالم أجمع!

تلك الحقيقة لها علاقة بمنهجية التوراة في تعاطيها مع تاريخ الجنس البشري وتاريخ فلسطين خاصة، من حيث أن الحياة البشرية وتاريخ الأجناس عندهم يبدأ من بعد الطوفان، استناداً إلى خرافة اختيار إلههم (ياهو أو يهوه) سام بن نوح وذريته واختصاصهم بالبركة والسيادة العالمية من دون بقية أبناء نوح وذريتهم. واختيار إبراهيم عليه السلام من نسل سام بن نوح من دون بقية نسله ليمنحه الحق بالأرض من النيل إلى الفرات، بل الأرض كلها. واختيار إسحاق وذريته من ذرية إبراهيم دون أخاه إسماعيل وذريته، وزعمهم أنه الذبيح. واختيار يعقوب (إسرائيل) وذريته (بنو إسرائيل) من ذرية إسحاق دون أخاه عيسو وذريته، ليكونوا له الشعب المختار الموعود بالسيادة العالمية، واختيار فلسطين من دون كل بقاع الأرض لتكون مركزاً لتلك السيادة!

إذن هناك علاقة وثيقة بين عهد إله اليهود لمن تزعم التوراة المحرفة أنه سام بن نوح وذريته بالسيادة العالمية، وبين وعده لإبراهيم عليه السلام وبني إسرائيل من ذريته تحديداً بالأرض من النيل إلى الفرات.

تلك الخرافة جعلت اليهود يعتقدون أنهم خُلقوا بتدبير سماوي، وذلك ولد لديهم النزعة العنصرية التي تجعلهم يشعرون أنهم من جوهر غير طينة البشر جميعاً، وأن هذا الجوهر مفرد بأسرار ومواهب لا توجد في غيرهم. والعقيدة اليهودية تعتبر الأمم الأخرى من غير اليهود ليسوا بشر، ولا روح إنسانية، لكنهم (جوييم) وهي جمع (غوي)، ويستعمل اليهود مقابلها في العربية كلمة (الأمم). وهي تعني عندهم بحسب الظروف: العدو العالمي المكروه. أو السعادين الحليقة المحتقرة أو قطيع الجوييم الغبي، أو الإرث الذي وعدهم به (يهوه). فقد خلقهم الرب إلههم على هيئة البشر ليستأنس بهم شعبه المختار. أو بهايم وحواوين، وأن بيوت غير اليهود خان البهايم، أو الإرث الذي وعدهم به (يهوه)!

كما أنها تعني عند اليهود عقائدياً: امتدادات الشيطان، مخلوقات شيطانية "ليس بداخلها أي شيء جيد على الإطلاق" حتى الجنين اليهودي يختلف نوعاً عن الجنين غير اليهودي، كما أن وجود غير اليهودي مسألة "غير جوهرية" في الكون، فقد نشأ كل الخلق من أجل اليهود فقط! لذلك: يجب فصل جسد الإسرائيلي (أبناء سام) عن جسد سلالة نوح (أبناء حام ويافث) لأنه من نوع مختلف تماماً، والشيء ذاته ينطبق على الروح. روح المخلوقات الإسرائيلية من طبيعة مضادة لروح سلالة نوح.

ويصف التلمود الذي له مكانة أعظم من التوراة نفسها الجوييم بصفات أشد احتقاراً وعنصرية واستعلاء مما في التوراة، وفيه من كلمات التحقير والتحريض على قتل كل من هو غير يهودي الكثير الذي لا يتسع له المقال، منها:
أن الأرواح غير اليهودية هي أرواح شيطانية وشبيهة بأرواح الحيوانات.
أن نطفة غير اليهودي هي كنطفة باقي الحيوانات.
لا يدخل الجنة إلا اليهود. أما الجحيم فهو مأوى الكفار، ولا نصيب لهم فيه سوى البكاء لما فيه من الظلام والعفونة والطين.
غير اليهود حيوانات في صورة إنسان ـ هم حمير وكلاب وخنازير ـ يلزم بغضهم سراً.
الفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بقدر الفرق الموجود بين اليهود وباقي الشعوب.
"الشعب المختار فقط يستحق الحياة الأبدية، وأما باقي الشعوب فمثلهم كمثل الحمير.
إن الكلب أفضل من الأجانب.

كما أن التلمود يزخر بأوامر سرقة أموال وممتلكات غير اليهود، وواجب لعنتهم، والتحريض على قتلهم:
ملعونة كل الشعوب، ومبارك شعب اليهود.
استيلاء اليهود على ما يملكه الجوييم هو عمل تصحبه المسرة الإلهية.
يستحق القتل كل جوييم حتى ذوو الفضل منهم!
يجب إزالتهم من سجل الأحياء لأنه قيل عنهم: من يأثم ضدي، سأزيله من سجل الحياة. من يقتل "مسيحياً" أو أجنبياً أو وثنياً يكافأ بالخلود في الفردوس والجلوس هناك في السراي الرابعة!
فقد ذكر الأب برانايتس أن "اليهودي وحده يحترم كرجل، كل ما ومن في العالم له، وجميع الأشياء يجب أن تكون في خدمته، خصوصاً الحيوانات التي لها أشكال آدمية".

العرب حيوانات بشرية
بتاريخ 9/10/2023 أمر وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت بفرض حصار كامل على قطاع غزة وقال: "نحن نحارب حيوانات بشرية"! إنها العقلية التوراتية التي تربى عليها في صغره عقيدة، وتلقاها في الجيش إعداداً وتربية وإرشاداً وتوجيهاً معنوياً، إنها رسالة تحمل أوامر صريحة ومباشرة للجيش لتنفيذ أوامر الرب بارتكاب المجازر والإبادة الجماعية بلا رأفة ولا شفقة واستخدام أسلوب الأرض المحروقة، وتدمير ما عليها من عمران وحضارة، فماذا تعني (حيوانات بشرية)؟!

بناء على خرافة منح البركة لسام بن نوح وذريته فقط قسم اليهود البشر إلى قسمين: الساميون والجوييم أو الأغيار أو الأمم، وهم كل شعوب العالم الذين ذكرنا صفاتهم في التوراة والتلمود. أما الساميون فهم اليهود والعرب.

ويؤمن اليهودي أن حصة اليهود "سرّ الخير"، وبقية أمم العالم حصتهم "سرّ الشرّ"؛ وهذا الشرّ يستند إلى التوراة: "جذر الشرّ في عيسو هو القتل، وجذر الشرّ في عمون وموأب هو الزنا، وجذر الشرّ في إسماعيل هو السرقة". وإن أرادوا أن يتخلصوا من هذه الصفات ما عليهم إلا قبول التوراة، "لأن قبولها هو تناقض مطلق لواقعهم".

ويعترف أن بين الجوييم فروقات معينة. فجميع الجوييم - ما عدا العماليق - فيهم من الشرّ والخير، أي بإمكانهم تحويل الشرّ إلى خير، أما "العماليق"، الذين هم أبناء البلاد الأصلية، "أرض كنعان"، فأساسهم "شرّ بدون جانب خير". وأن الفروقات بين اليهود والجوييم جوهرانية ولا تتغير أبداً. وإن تغيرت فيجب أن تتغير في اتجاه تطبيق شرائع التوراة، وليس باتجاه بناء مجتمعات تعاونية وتشاركية وتسامحية أكثر.

وقيما يتعلق بالصراع بين العرب واليهود على فلسطين ومن الأحق بها؟! يعترف اليهود أن العرب هم نسل إسماعيل ابن جدهم إبراهيم عليه السلام "لذا يختلفون عن بقية الأمم/الجوييم. فبقية الأمم "حيوانات"، أما العرب فهم "حيوان وحشي بشري"، كما ورد في (سفر التكوين: 16): "11وَقَالَ لَهَا (لهاجر) مَلاَكُ الرَّبِّ: "هَا أَنْتِ حُبْلَى، فَتَلِدِينَ ابْنًا وَتَدْعِينَ اسْمَهُ إِسْمَاعِيلَ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ. 12وَإِنَّهُ يَكُونُ إِنْسَانًا وَحْشِيًّا، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ".

أي أنهم أعلى مرتبة من بقية الجوييم، وذلك لأنهم يُختنون، وكل من يختن "له حصة في ملكوت السماء". لأن الاختتان يهودي الأصل. وبما أن الوعد بأرض كنعان أعطي "لأبينا إبراهيم، فإن للعرب الحق فيها أيضاً، لأنهم نسل ابنه البكر إسماعيل" إلا أنه وبعد أن خُصّص العهد بـإسحاق، "شريطة الحفاظ على الشرائع والقيام بها"، وإذا لم يتم تنفيذ هذا فإن الوعد المخصص لنسله يصبح باطلاً؛ فإن العرب، "الإسماعيليون"، قد تم سحبهم من العهد، وتمت تصفية حصتهم في وطنهم كنعان. وبطبيعة الحال لن يقبل العرب بهذه النتيجة. لذا فإن الصراع على "أرض يسرائيل"، أي فلسطين، يستمر وسيدوم. ولن تحسمه الحروب ولا المراكب ولا الخيول، "من أجل طرد العرب منها".

تلك النظرة السامية من اليهود إلى أنفسهم، واعتبار أنفسهم أنهم وحدهم البشر، والإنسان، وغيرهم حيوانات خلقت لخدمتهم، من أهم العوامل التي تشكل الخلفية الفكرية للعنف والإرهاب في شخصية اليهودي، وتقوم بدور التهيئة النفسية عند اليهودي لارتكاب جرائم القتل والإبادة ضد غير اليهود وهو مرتاح الضمير، بل ويشعر بلذة ونشوة ورضي نفسي بعد كل جريمة، لأنه يعتبر نفسه بذلك نفذ أوامر الرب، وعمل على طاعته وإرضائه.