اعتياد الإبادة والتطبُّع مع المذلة

  • الثلاثاء 01, يوليو 2025 11:00 ص
  • اعتياد الإبادة والتطبُّع مع المذلة
إننا لو حشدنا كل المشاهد التي ترصدها كاميرات الإعلام فقط في اليوم الواحد في غزة من تقتيل وحرق وتدمير وتجويع سنجد أن كل التغطية الإعلامية لا تمثل مقدار ذرة مما يتضمنه مجمل المشهد من وجوه لا حصر لها من المعاناة الفظيعة، وأن جهود الإغاثة المتواضعة وحركة الاحتجاج السلمية وسيل الإدانات الرسمية والشعبية على مستوى العالم لا تكافئ ساعة واحدة وسط جحيم الإبادة، ولا تعطيها حقها.
اعتياد الإبادة والتطبُّع مع المذلة
لمى خاطر
إننا لو حشدنا كل المشاهد التي ترصدها كاميرات الإعلام فقط في اليوم الواحد في غزة من تقتيل وحرق وتدمير وتجويع سنجد أن كل التغطية الإعلامية لا تمثل مقدار ذرة مما يتضمنه مجمل المشهد من وجوه لا حصر لها من المعاناة الفظيعة، وأن جهود الإغاثة المتواضعة وحركة الاحتجاج السلمية وسيل الإدانات الرسمية والشعبية على مستوى العالم لا تكافئ ساعة واحدة وسط جحيم الإبادة، ولا تعطيها حقها.
فكيف ونحن أمام أكثر من 630 يوماً من جحيم متكرر مع تصاعد في دموية وشدة البطش الصهيوني الذي كرس إجراماً متفرداً في قبحه وتجرده من أدنى درجات الآدمية؟
ما يحدث في غزة يستعصي على الإدراك البشري، وتلك المذبحة المستمرة على مدار الأيام والساعات لا يهوّن منها تكرار مشاهد المذبوحين، وحتى لو أمعنا النظر في حجم الفجيعة وتفاصيلها الصغيرة وانعكاساتها على الناس ونفوسهم وعقولهم سنظل عاجزين عن تصور ما يجري وعن أثره البالغ، وهو أمر لا يدرك حجم مرارته إلا من يعيش في أتونه.
وإن ما يظهر من آيات الصمود واستمرار الأداء البطولي للمجاهدين في غزة لا يقلل من ضراوة المذبحة ولا يبيح لكل العاجزين من حولها أن يظنوا بأن ما يجري قابل للاحتمال البشري ويمكن العودة بعده إلى نمط من الحياة الطبيعية بمجرد وقف الحرب. وإن من آثار قصور الإحساس بمأساة غزة أو تصور مداها أن العالم كله قد أخفق في منع الإبادة أو وقفها فيما بعد، كما أخفق في تكريس تفاعل وتضامن مناسبين مع غزة، وفي فرض حالة إغاثة تلبي الحد الأدنى من احتياجات الناس وهم في مرمى النار الصهيونية.
والحقيقة أن العربدة الصهيونية المتسلحة بكل هذه القوة الباطشة نجحت إلى حد كبير في إماتة الضمائر وترهيب النفوس وحمْل المتفرجين كلهم على ابتغاء السلامة والخلاص الفرديين وعدّهما غنيمة. ولم يحصل هذا فقط منذ أن اعتاد المتفرجون مشاهد الذبح والتدمير المجنون والأحزمة النارية اليومية، بل منذ سماحهم بأن يتم استغفالهم من حكوماتهم وممن يسمون بالنخب الإعلامية والسياسية بتكريس ديباجة العار والتخلي والخضوع التي تقول: (لا نريد لساحتنا أن تصبح غزة ثانية( .
إن عبارة مثل هذه كانت تمثل أقصى درجات الأنانية القبيحة، مع ما يداخلها من تجميل لجريمة الصمت والسكون وإعفاء للمجرم الحقيقي والمعتدي الأساسي الذي اغتصب الأرض ابتداء وأعمل في أهلها المجازر والتدمير والتهجير، ثم عاد إلى سيرته الأولى منذ عامين ليكثف كل ما كان ينفذه بالتدريج، منذ احتلال فلسطين وبعد مذبحته الكبرى على أرضها وصولاً إلى اليوم.
وإن كل من يستطيب حياته الساكنة على هامش الإبادة في غزة، ويرى أن غاية مراده من الحياة في ظل الاحتلال أن يأكل ويشرب ويعيش بلا منغصات، سيظل معطوب الضمير ومضيعاً لبوصلة المسير، وذاهلاً عن حقيقة ما يحصل، ليس فقط لأن النار لن تلبث أن تطأ دياره وتمس ثيابه، بل لأن إدارة الظهر لأكبر مذبحة في التاريخ المعاصر هي فعل نذل في جوهره، وهي نمط من التواطؤ مع الجزار، لأنها تشرعن الصمت وتبرر التخاذل، وتزيف الوعي وتفسد مفهوم واجب التضامن والتكاتف، الذي بدأ يتآكل مدفوعاً بالاستسلام لسرديات تضليلية تجعل الضحية التي تقاوم الاحتلال هي المتهم الأساسي، وتبرر بشكل مباشر أو غير مباشر اندفاع المحتل المجرم للفتك بكل شيء ودون أن يضطر لتفسير أسباب عدوانه الشامل.
أخيرا.. إن مرور كل هذه الوقت على بداية المجزرة لا يبيح اعتيادها ولا تحويلها إلى بيانات رقمية يتم استعراضها يوميا بإيجاز في كثير من وسائل الإعلام، فكل بيت مهدم وكل بطن خاوية وكل ساعد مبتور وكل نفس مكلومة يجب أن تظل في بؤرة الاهتمام الإعلامي والسياسي والشعبي، حتى وإن كان هذا الجهد لا يفعل شيئاً كثيراً على صعيد وقف الإبادة، لكنه على الأقل لا يمررها ولا يسمح باعتيادها بل يبقي وجدان الناس على تماس مباشر معها وفي حالة انفعال دائمة بها. ذلك أن رد الفعل المقابل الذي ينتجه البطش -ولو بعد حين- لا يتحصل في حالة الغفلة عن إدراك حجم تلك الجرائم، وعدم عيشها وتصورها والإحساس بها، إحساساً حقيقياً يتعاظم مع الوقت ولا يخبو، وتراكم الأيام ألمه وغضبه ولا تنقصه، ولا تحوله إلى تطبع مع المذابح أو تعايش مع المذلة الناجمة عن الهلع من مصير مماثل.