طريق المقاومة طويل ومكلف… ولا بديل له
حسن نافعة
نقترب من مرور عام على حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها آلة الحرب الصهيونية الجبّارة على الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزّة، من دون أن تلوح بارقةُ أملٍ بقرب توقّفها. وقد تابع العالم كلّه بكثير من مشاعر الأسى والحزن ما تنقله وسائل الإعلام يومياً من مشاهد الدمار الهائل، الذي أصاب هذه الرقعة الجغرافية المحدودة المساحة، والمكتظّة بالسكّان، كما تابع مظاهرَ المعاناة الإنسانية الرهيبة التي يكابدها الشعب الفلسطيني هناك، الذي قتل منه ما يقارب 50 ألف شخص، وجرح منه ما يقارب مائة ألف آخرين، أغلبهم من النساء والأطفال، وما زال عدد غير مُحدّد من الأشخاص مدفوناً تحت الأنقاض، تقدّره مصادر موثوقة بأنّه لن يقلّ بأيّ حال عن عشرة آلاف، أمّا من بقي من هذا الشعب على قيد الحياة، فقد فُرض عليه النزوح القسري والترحال الجبري من مكان إلى آخر، تحت وابل من قصفٍ عشوائيٍّ لا ينقطع من الجوّ والبرّ والبحر، ناهيك عن معاناته الشديدة من شحّ الطعام والمياه والدواء والوقود، ومن انقطاع الكهرباء ووسائل التواصل الاجتماعي، بسبب تعمّد حرمانه من التمتّع بأيّ بنية تحتية قوية أو من مرافقَ تصلح لتقديم أيّ نوع من الخدمات، وتكفّل الجيش “الذي لا يقهر” بتدمير كلّ شيء: المدارس والمستشفيات ومؤسّسات الإغاثة والبيوت والملاجئ والمخيّمات.
أمام هذه المأساة الإنسانية غير المسبوقة في التاريخ المعاصر، بدأت أصوات في عالمنا العربي تتساءل عن جدوى الاستمرار في تلك الحرب بالنسبة للفلسطينيين، وما إذا كانت حركة حماس قد أخطأت التقدير والحساب حين أطلقت “طوفان الأقصى”، رغم معرفتها بالطبيعة الانتقامية الشرسة للعدو الصهيوني، وبمخطّطاته الهادفة إلى الاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية، وبحجم الخلل القائم في موازين القوى لمصلحته.
ولأنّنا نفترض في من يتبنون وجهة النظر هذه، أو في بعضهم في الأقلّ، حسن النيّات، فهي وجهة نظر تستحق التوقّف عندها ومناقشتها، خصوصاً أنّها قابلة للتأثير في قطاعاتٍ لا يستهان بها من الشباب العربي الواقع تحت تأثير دعايات مُغرضة ومُوجّهة.
دعونا ننطلق أولاً من التسليم بحقيقة أساسية أصبحت مُسلَّمةً أو بديهيةً مفادها أنّه يحقّ لكلّ شعب احتُلّت أرضه أن يرفض الاحتلال، وأن يسعى إلى مقاومته بالوسائل والطرائق المتاحة كلّها، بما في ذلك الوسائل المسلّحة، وهذا هو الدرس المُستخلَص من تجارب الشعوب كافّة، التي خضعت للاحتلال، وهي كثيرة، فلا جدال أنّ هذه الشعوب لم تتمكّن من التخلّص من الاستعمار، ولا الحصول على الاستقلال، إلّا بعد أن حملت السلاح، وقاتلت، وقدّمت التضحيات.
ولا يجوز التعلّل هنا بالخلل القائم في موازين القوى بين جيوش الدول الاستعمارية وحركات التحرّر الوطني، التي حملت السلاح ضدّها، لأنّ هذه الموازين كانت دائماً في صالح قوى الاستعمار. ومع ذلك، انتصرت قوى التحرّر الوطني، في النهاية، لأنّها استطاعت أن تجعل من كلفة بقاء الاحتلال واستمراره أكبر من كلفة رحيله. ويكفي أن نتذكّر الدروس المُستخلَصة من تجارب الجزائر وفيتنام وأفغانستان وغيرها، لندرك هذه الحقيقة بوضوح تامّ.
صحيحٌ أنّ تجربة الشعب الفلسطيني تبدو مختلفةً لأنّه لم يتعرّض لاحتلال تقليدي عبر عملية غزو قام بها جيشٌ ينتمي لدولة بعيدة جغرافياً، وإنّما لاحتلال استيطاني تمارسه جماعةٌ دينيةٌ تطرح نفسها جماعةً قوميةً، وتعبّر عن طموحات مشروع صهيوني تتبنّاه القوى الغربية، ولا يستطيع البقاء أو الاستمرار من دون دعمها، لكنّه اختلاف لا يغيّر شيئاً في طبيعة الصراع، بل يُلقِي بمسؤوليات إضافية على عاتق حركة التحرّر الوطني الفلسطينية، التي يتعيّن عليها ابتكارُ وسائلَ جديدة للمقاومة.
لم يبدأ الصراع الفلسطيني الصهيوني، الذي تُشكّل الحربُ المشتعلةُ حالياً في قطاع غزّة إحدى جولاته، مع “طوفان الأقصى”، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، وهو ليس صراعاً بين حركة حماس وجيش الكيان الصهيوني، وإنما صراعٌ وجوديٌّ بين الشعب الفلسطيني بمكوّناته كلّها ومشروعٍ صهيوني يحاول الاستيلاء على كامل وطنه التاريخي، بدأ منذ أكثر من قرن. لذا يمكن القول إنّه صراع يدور بين حركة تحرّر وطني فلسطيني شهدت عبر تطورها التاريخي منعطفات كثيرة انخرطت فيها فصائل عديدة متنوّعة المشارب والأيديولوجيات (من بينها “حماس”)، والحركة الصهيونية العالمية المدعومة من القوى الغربية.
وإذا كانت “حماس” قد برزت اليوم وأصبحت تتصدّر المشهدَ الفلسطيني، فليس لأنّها استطاعت أن تُلحِق بالكيان الصهيوني خسائرَ غير مسبوقةٍ في تاريخه فحسب، وإنّما أيضاً لأنّ فصائل غيرها جرّبت الوسائل السلمية سنواتٍ طويلةً وأخفقت. غير أنّ هذا لا يعني جواز اختزال حركة التحرّر الوطني الفلسطيني في “حماس”، أو أنّه يمكن للأخيرة أن تصبح بديلاً من الأولى، وإنّما يعني أنّ “حماس” باتت مكوّناً يستحيل تجاهله في حركة وطنية فلسطينية تتطلّب إعادة تشكيلها من جديد على أسس ديمقراطية.
لم يكن هدف “حماس”، حين قرّرت توجيه ضربتها لجيش الكيان في السابع من أكتوبر، تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، أو تمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة فوراً، وإنّما إثبات أنّه شعب لن يستسلم أو يستكين، ولن يقبل مُطلقاً تجاهلَ قضيّته أو تصفيتها، وللتأكيد، في الوقت نفسه، على أنّ بمقدور الفصائل الفلسطينية المسلّحة رفع كلفة الاحتلال إلى الحدّ الذي لا يستطيع تحمّله، وأسر ما يكفي من الجنود والمستوطنين لإجباره على إخلاء سجونه من المعتقلين الفلسطينيين كافّة، وتلك كلّها أهداف طبيعية ومشروعة لأيّ حركةٍ وطنيةٍ تحمل السلاح في وجه الاحتلال.
أمّا هدف بنيامين نتنياهو، حين قرّر الردّ بشنّ حرب إبادة شاملة على الشعب الفلسطيني في غزّة، فلم يكن القضاء على “حماس” عسكرياً، وعزلها سياسياً، واستعادة الرهائن فحسب، وإنّما أراد أيضاً اغتنام الفرصة لإخلاء القطاع من سكّانه، بإجبارهم على الرحيل إلى سيناء، وإعادة احتلاله عسكرياً، وهو لم يكتفِ بذلك، وإنّما قرّر التصعيد أيضاً في الضفّة الغربية وممارسة أقصى قدر من الضغوط لإجبار سكّانها على الرحيل إلى الأردن.
وذلك هو بالتحديد برنامج حكومة نتنياهو المُتطرّفة، التي تضمّ شخصيات من أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما من الشخصيات، التي أخذت على عاتقها مهمّة تصفية القضية الفلسطينية بالكامل، وهو برنامج كان سيوضع موضع التنفيذ، حدث “طوفان الأقصى” أو لم يحدث. دليلنا على ذلك أنّ مساحة الأراضي التي استولت عليها الحكومة الإسرائيلية الحالية في الضفّة الغربية، وعدد المستوطنات التي أقامتها أو شرعنتها، وحجم اقتحاماتها المسجد الأقصى، وذلك كلّه في سنة واحدة، يفوق كثيراً ما قامت به أيّ حكومة أخرى في تاريخ إسرائيل في فترةٍ زمنيةٍ مشابهةٍ.
في سياق كهذا، الظنّ أنّ تقييم عملية طوفان الأقصى التي تمّت بمبادرة من حركة حماس لا ينبغي أن يستند إلى حجم المعاناة التي تكبّدها الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة فحسب، وإنّما يجب أن تأخذ في اعتبارها أيضاً حجم الخسائر والأضرار التي لحقت بالمشروع الصهيوني بصفة عامّة، وبالكيان الصهيوني بصفة خاصّة، فقد أثبتت هذه العملية أنّ جيشَ هذا الكيان قابلٌ للكسر، وأنّ أجهزته الأمنية قابلة للخداع والتغرير، وبالتالي يمكن إلحاق الهزيمة بهما معاً في معاركَ يُخطّط لها بعناية، وأثبت صمود فصائل المقاومة في قطاع عزّة ما يقرب من عام أمام آلة الحرب الصهيونية المدعومة بالأساطيل وأجهزة المخابرات الغربية، أنّ حرب التحرير الشعبية هي السبيل الوحيد لاستنزاف هذه الآلة ميدانياً ومعنوياً.
يضاف إلى ذلك أنّ صورة الكيان الصهيوني واحةً للديمقراطية وسط صحراء الاستبداد العربي، وكياناً يقوم على التعدّدية واحترام القانون، سقطت نهائياً تحت وقع جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، التي ارتكبها في حقّ الشعب الفلسطيني. لذا يمكن القول بقدر كبير من الثقة إنّ المشروع الصهيوني للهيمنة على المنطقة قد اهتزّ تماماً، حتى في أعين الغرب، وأنّه لن يكون بعد “الطوفان” مثلما كان عليه من قبل.
يميل كثيرون إلى التعامل مع حركة حماس من منظور أيديولوجي وسياسي بحت، سواء باعتبارها امتداداً تنظيمياً لجماعة الإخوان المسلمين أو باعتبارها أحد مكوّنات محور سياسي تقوده إيران في المنطقة. ولا جدال في أنّ هذا المنظور يُؤثّر سلباً في رؤية “حماس” أحدَ مكوّنات حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، التي تتصدّى لمشروع صهيوني يُشكّل مصدرَ تهديد للأمّة كلّها، وليس للشعب الفلسطيني وحده.
يمكن بالطبع أن نختلف كثيراً أو قليلاً مع بعض الأطروحات الفكرية أو المواقف السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، وأن نختلف أيضاً مع بعض السياسات التي تنتهجها إيران في المنطقة، لكن حين يتعلّق الأمر بإنجاز “حمساوي” كبير ضدّ الكيان الصهيوني، فإنّ الاختلاف عليه لا يمكن إلّا أن يصبّ في صالح الأخير مباشرةً. وعلينا أن نتذكّر أنّ “طوفان الأقصى” هو جولة واحدة من جولات صراع طويل وممتدّ مع المشروع الصهيوني، لكنها بالقطع أكثر جولاته أهمّيةً. صحيح أنّها جولةٌ لم تنتهِ بعد، ومن ثمّ يصعب الحكم عليها وتقييمها منذ الآن، لكنّها تُؤكّد أنّ الكفاح المسلّح هو الطريق الوحيد لهزيمة المشروع الصهيوني وتحرير فلسطين.
حسن نافعة
نقترب من مرور عام على حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها آلة الحرب الصهيونية الجبّارة على الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزّة، من دون أن تلوح بارقةُ أملٍ بقرب توقّفها. وقد تابع العالم كلّه بكثير من مشاعر الأسى والحزن ما تنقله وسائل الإعلام يومياً من مشاهد الدمار الهائل، الذي أصاب هذه الرقعة الجغرافية المحدودة المساحة، والمكتظّة بالسكّان، كما تابع مظاهرَ المعاناة الإنسانية الرهيبة التي يكابدها الشعب الفلسطيني هناك، الذي قتل منه ما يقارب 50 ألف شخص، وجرح منه ما يقارب مائة ألف آخرين، أغلبهم من النساء والأطفال، وما زال عدد غير مُحدّد من الأشخاص مدفوناً تحت الأنقاض، تقدّره مصادر موثوقة بأنّه لن يقلّ بأيّ حال عن عشرة آلاف، أمّا من بقي من هذا الشعب على قيد الحياة، فقد فُرض عليه النزوح القسري والترحال الجبري من مكان إلى آخر، تحت وابل من قصفٍ عشوائيٍّ لا ينقطع من الجوّ والبرّ والبحر، ناهيك عن معاناته الشديدة من شحّ الطعام والمياه والدواء والوقود، ومن انقطاع الكهرباء ووسائل التواصل الاجتماعي، بسبب تعمّد حرمانه من التمتّع بأيّ بنية تحتية قوية أو من مرافقَ تصلح لتقديم أيّ نوع من الخدمات، وتكفّل الجيش “الذي لا يقهر” بتدمير كلّ شيء: المدارس والمستشفيات ومؤسّسات الإغاثة والبيوت والملاجئ والمخيّمات.
أمام هذه المأساة الإنسانية غير المسبوقة في التاريخ المعاصر، بدأت أصوات في عالمنا العربي تتساءل عن جدوى الاستمرار في تلك الحرب بالنسبة للفلسطينيين، وما إذا كانت حركة حماس قد أخطأت التقدير والحساب حين أطلقت “طوفان الأقصى”، رغم معرفتها بالطبيعة الانتقامية الشرسة للعدو الصهيوني، وبمخطّطاته الهادفة إلى الاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية، وبحجم الخلل القائم في موازين القوى لمصلحته.
ولأنّنا نفترض في من يتبنون وجهة النظر هذه، أو في بعضهم في الأقلّ، حسن النيّات، فهي وجهة نظر تستحق التوقّف عندها ومناقشتها، خصوصاً أنّها قابلة للتأثير في قطاعاتٍ لا يستهان بها من الشباب العربي الواقع تحت تأثير دعايات مُغرضة ومُوجّهة.
دعونا ننطلق أولاً من التسليم بحقيقة أساسية أصبحت مُسلَّمةً أو بديهيةً مفادها أنّه يحقّ لكلّ شعب احتُلّت أرضه أن يرفض الاحتلال، وأن يسعى إلى مقاومته بالوسائل والطرائق المتاحة كلّها، بما في ذلك الوسائل المسلّحة، وهذا هو الدرس المُستخلَص من تجارب الشعوب كافّة، التي خضعت للاحتلال، وهي كثيرة، فلا جدال أنّ هذه الشعوب لم تتمكّن من التخلّص من الاستعمار، ولا الحصول على الاستقلال، إلّا بعد أن حملت السلاح، وقاتلت، وقدّمت التضحيات.
ولا يجوز التعلّل هنا بالخلل القائم في موازين القوى بين جيوش الدول الاستعمارية وحركات التحرّر الوطني، التي حملت السلاح ضدّها، لأنّ هذه الموازين كانت دائماً في صالح قوى الاستعمار. ومع ذلك، انتصرت قوى التحرّر الوطني، في النهاية، لأنّها استطاعت أن تجعل من كلفة بقاء الاحتلال واستمراره أكبر من كلفة رحيله. ويكفي أن نتذكّر الدروس المُستخلَصة من تجارب الجزائر وفيتنام وأفغانستان وغيرها، لندرك هذه الحقيقة بوضوح تامّ.
صحيحٌ أنّ تجربة الشعب الفلسطيني تبدو مختلفةً لأنّه لم يتعرّض لاحتلال تقليدي عبر عملية غزو قام بها جيشٌ ينتمي لدولة بعيدة جغرافياً، وإنّما لاحتلال استيطاني تمارسه جماعةٌ دينيةٌ تطرح نفسها جماعةً قوميةً، وتعبّر عن طموحات مشروع صهيوني تتبنّاه القوى الغربية، ولا يستطيع البقاء أو الاستمرار من دون دعمها، لكنّه اختلاف لا يغيّر شيئاً في طبيعة الصراع، بل يُلقِي بمسؤوليات إضافية على عاتق حركة التحرّر الوطني الفلسطينية، التي يتعيّن عليها ابتكارُ وسائلَ جديدة للمقاومة.
لم يبدأ الصراع الفلسطيني الصهيوني، الذي تُشكّل الحربُ المشتعلةُ حالياً في قطاع غزّة إحدى جولاته، مع “طوفان الأقصى”، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، وهو ليس صراعاً بين حركة حماس وجيش الكيان الصهيوني، وإنما صراعٌ وجوديٌّ بين الشعب الفلسطيني بمكوّناته كلّها ومشروعٍ صهيوني يحاول الاستيلاء على كامل وطنه التاريخي، بدأ منذ أكثر من قرن. لذا يمكن القول إنّه صراع يدور بين حركة تحرّر وطني فلسطيني شهدت عبر تطورها التاريخي منعطفات كثيرة انخرطت فيها فصائل عديدة متنوّعة المشارب والأيديولوجيات (من بينها “حماس”)، والحركة الصهيونية العالمية المدعومة من القوى الغربية.
وإذا كانت “حماس” قد برزت اليوم وأصبحت تتصدّر المشهدَ الفلسطيني، فليس لأنّها استطاعت أن تُلحِق بالكيان الصهيوني خسائرَ غير مسبوقةٍ في تاريخه فحسب، وإنّما أيضاً لأنّ فصائل غيرها جرّبت الوسائل السلمية سنواتٍ طويلةً وأخفقت. غير أنّ هذا لا يعني جواز اختزال حركة التحرّر الوطني الفلسطيني في “حماس”، أو أنّه يمكن للأخيرة أن تصبح بديلاً من الأولى، وإنّما يعني أنّ “حماس” باتت مكوّناً يستحيل تجاهله في حركة وطنية فلسطينية تتطلّب إعادة تشكيلها من جديد على أسس ديمقراطية.
لم يكن هدف “حماس”، حين قرّرت توجيه ضربتها لجيش الكيان في السابع من أكتوبر، تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، أو تمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة فوراً، وإنّما إثبات أنّه شعب لن يستسلم أو يستكين، ولن يقبل مُطلقاً تجاهلَ قضيّته أو تصفيتها، وللتأكيد، في الوقت نفسه، على أنّ بمقدور الفصائل الفلسطينية المسلّحة رفع كلفة الاحتلال إلى الحدّ الذي لا يستطيع تحمّله، وأسر ما يكفي من الجنود والمستوطنين لإجباره على إخلاء سجونه من المعتقلين الفلسطينيين كافّة، وتلك كلّها أهداف طبيعية ومشروعة لأيّ حركةٍ وطنيةٍ تحمل السلاح في وجه الاحتلال.
أمّا هدف بنيامين نتنياهو، حين قرّر الردّ بشنّ حرب إبادة شاملة على الشعب الفلسطيني في غزّة، فلم يكن القضاء على “حماس” عسكرياً، وعزلها سياسياً، واستعادة الرهائن فحسب، وإنّما أراد أيضاً اغتنام الفرصة لإخلاء القطاع من سكّانه، بإجبارهم على الرحيل إلى سيناء، وإعادة احتلاله عسكرياً، وهو لم يكتفِ بذلك، وإنّما قرّر التصعيد أيضاً في الضفّة الغربية وممارسة أقصى قدر من الضغوط لإجبار سكّانها على الرحيل إلى الأردن.
وذلك هو بالتحديد برنامج حكومة نتنياهو المُتطرّفة، التي تضمّ شخصيات من أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما من الشخصيات، التي أخذت على عاتقها مهمّة تصفية القضية الفلسطينية بالكامل، وهو برنامج كان سيوضع موضع التنفيذ، حدث “طوفان الأقصى” أو لم يحدث. دليلنا على ذلك أنّ مساحة الأراضي التي استولت عليها الحكومة الإسرائيلية الحالية في الضفّة الغربية، وعدد المستوطنات التي أقامتها أو شرعنتها، وحجم اقتحاماتها المسجد الأقصى، وذلك كلّه في سنة واحدة، يفوق كثيراً ما قامت به أيّ حكومة أخرى في تاريخ إسرائيل في فترةٍ زمنيةٍ مشابهةٍ.
في سياق كهذا، الظنّ أنّ تقييم عملية طوفان الأقصى التي تمّت بمبادرة من حركة حماس لا ينبغي أن يستند إلى حجم المعاناة التي تكبّدها الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة فحسب، وإنّما يجب أن تأخذ في اعتبارها أيضاً حجم الخسائر والأضرار التي لحقت بالمشروع الصهيوني بصفة عامّة، وبالكيان الصهيوني بصفة خاصّة، فقد أثبتت هذه العملية أنّ جيشَ هذا الكيان قابلٌ للكسر، وأنّ أجهزته الأمنية قابلة للخداع والتغرير، وبالتالي يمكن إلحاق الهزيمة بهما معاً في معاركَ يُخطّط لها بعناية، وأثبت صمود فصائل المقاومة في قطاع عزّة ما يقرب من عام أمام آلة الحرب الصهيونية المدعومة بالأساطيل وأجهزة المخابرات الغربية، أنّ حرب التحرير الشعبية هي السبيل الوحيد لاستنزاف هذه الآلة ميدانياً ومعنوياً.
يضاف إلى ذلك أنّ صورة الكيان الصهيوني واحةً للديمقراطية وسط صحراء الاستبداد العربي، وكياناً يقوم على التعدّدية واحترام القانون، سقطت نهائياً تحت وقع جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، التي ارتكبها في حقّ الشعب الفلسطيني. لذا يمكن القول بقدر كبير من الثقة إنّ المشروع الصهيوني للهيمنة على المنطقة قد اهتزّ تماماً، حتى في أعين الغرب، وأنّه لن يكون بعد “الطوفان” مثلما كان عليه من قبل.
يميل كثيرون إلى التعامل مع حركة حماس من منظور أيديولوجي وسياسي بحت، سواء باعتبارها امتداداً تنظيمياً لجماعة الإخوان المسلمين أو باعتبارها أحد مكوّنات محور سياسي تقوده إيران في المنطقة. ولا جدال في أنّ هذا المنظور يُؤثّر سلباً في رؤية “حماس” أحدَ مكوّنات حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، التي تتصدّى لمشروع صهيوني يُشكّل مصدرَ تهديد للأمّة كلّها، وليس للشعب الفلسطيني وحده.
يمكن بالطبع أن نختلف كثيراً أو قليلاً مع بعض الأطروحات الفكرية أو المواقف السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، وأن نختلف أيضاً مع بعض السياسات التي تنتهجها إيران في المنطقة، لكن حين يتعلّق الأمر بإنجاز “حمساوي” كبير ضدّ الكيان الصهيوني، فإنّ الاختلاف عليه لا يمكن إلّا أن يصبّ في صالح الأخير مباشرةً. وعلينا أن نتذكّر أنّ “طوفان الأقصى” هو جولة واحدة من جولات صراع طويل وممتدّ مع المشروع الصهيوني، لكنها بالقطع أكثر جولاته أهمّيةً. صحيح أنّها جولةٌ لم تنتهِ بعد، ومن ثمّ يصعب الحكم عليها وتقييمها منذ الآن، لكنّها تُؤكّد أنّ الكفاح المسلّح هو الطريق الوحيد لهزيمة المشروع الصهيوني وتحرير فلسطين.