كيف تُحذف الرواية الفلسطينية وتُقيَّد الأصوات ويُعاد تشكيل الوعي

  • الأحد 28, ديسمبر 2025 08:39 ص
  • كيف تُحذف الرواية الفلسطينية وتُقيَّد الأصوات ويُعاد تشكيل الوعي
صحفيون: «منصات التواصل لا تحذف العنف… بل تحذف سياقه الفلسطيني ومعركة الرواية أقسى من معركة الصورة"
كيف تُحذف الرواية الفلسطينية وتُقيَّد الأصوات ويُعاد تشكيل الوعي العالمي؟
تجقيق - الرسالة نت - كارم الغرابلي
صحفيون: «منصات التواصل لا تحذف العنف… بل تحذف سياقه الفلسطيني ومعركة الرواية أقسى من معركة الصورة"
خبير في الاعلام الرقمي: "الخوارزميات ليست محايدة والمشهد الرقمي الفلسطيني مستنزف ومستهدف"
صدى سوشيال: "منصات التواصل تكيل بمكيالين… والصحفي الفلسطيني يدفع الثمن"
حقوقي: "الرقابة الرقمية تقتل حرية التعبير الفلسطينية"
لم تعد الحرب على الفلسطينيين محصورة في الجغرافيا المحاصرة أو في سماء تتساقط منها الصواريخ. ثمّة جبهة أخرى لا تقلّ خطورة، أقل دويًا لكنها أعمق أثرًا، تُدار في فضاء غير مرئي هو الفضاء الرقمي، حيث تُشن حرب من نوع مختلف: منشورات تُمحى، حسابات تُغلق، مقاطع التوثيق تختفي، وخوارزميات تعمل بصمت لإضعاف حضور الرواية الفلسطينية وإحلال رواية مضادّة مكانها.
مع استمرار الحرب على غزة، اتسعت رقعة الاستهداف لتطال الهوية الرقمية الفلسطينية بكل مكوناتها: الذاكرة البصرية، الأرشيف الصحفي، التوثيق الميداني، وحتى اللغة نفسها. وكأن الحصار لم يعد على الغذاء والدواء فقط، بل امتدّ إلى الكلمة والصورة والمعنى.
في التحقيق التالي نحاول الإجابة عن أسئلة جوهرية:
هل نحن أمام سياسة ممنهجة لإسكات الفلسطينيين رقميًا؟
من الذي يقرر ما يُسمح بظهوره وما يُزال؟
ولماذا تُحذف التوثيقات الفلسطينية بينما يُسمح بالمحتوى الإسرائيلي التحريضي المضاد؟
وكيف ينعكس ذلك على الرواية والتاريخ والوعي العالمي؟
للإجابة، جمعنا شهادات صحفيين فلسطينيين تعرضت حساباتهم للحذف والتقييد، إلى جانب قراءة معمقة لخبير في الإعلام الرقمي، واشتباك مع السياق القانوني والحقوقي الأوسع.
مشهد عام: فضاء مفتوح ظاهريًا… مراقَب فعليًا
في سنوات سابقة، أتاح الإعلام الرقمي للفلسطينيين فرصة نادرة لكسر الاحتكار الإعلامي الغربي الذي طالما قدّم الصراع بمنطق الرواية الإسرائيلية. الإنترنت فتح نافذة على الحقيقة من قلب الميدان:
• هاتف صحفي
• كاميرا هاوٍ
• بث مباشر من تحت الركام
لكن سرعان ما أدركت الأطراف المتحكمة بالمنصات خطورة هذا الصوت الذي تجاوز الجدران، فبدأت عملية إعادة ضبط للفضاء الرقمي عبر سياسات ومعايير وخوارزميات، ظاهرها “تنظيم المحتوى” وباطنها — كما يقول الشهود — تقييد الرواية الفلسطينية.
عندما يتحول التوثيق إلى تهمة
خلال الأشهر الماضية، أصبح حذف المنشورات التي تتعلق بغزة أو بالانتهاكات (الإسرائيلية)خلال حرب الإبادة مشهدًا مألوفًا. صور الشهداء، شهادات الجرحى، مقاطع القصف، تقارير الصحفيين، بيانات حقوقية — كلها عرضة للإزالة خلال دقائق بذريعة:
“محتوى عنيف”، “انتهاك المعايير” ، “خطاب كراهية” ، “دعم منظمات محظورة”
لكن السؤال الأهم:
لماذا لا تُعامل المنشورات التي توثق معاناة الفلسطينيين كتوثيق صحفي، مثل تغطية أي حرب أخرى؟
يقول الصحفي زهير دولة "للرسالة نت"، وهو أحد الذين تعرضوا مرارًا للحظر وتقييد الوصول: «لم يكن حسابي الشخصي مساحة للآراء فقط، بل أصبح أرشيفًا لتوثيق المجازر… ومع أول موجة عدوان، بدأت عمليات الحذف المتتابع لكل ما أنشره تقريبًا».
ويتابع: «نشرت صور شهداء مجزرة المستشفى المعمداني، وبعد دقائق تلقيت إشعارًا يقول: المحتوى صادم ويخالف المعايير. ثم حُذف المنشور، وبعدها حُذفت منشورات أخرى أقل حدة. في النهاية تم إغلاق الحساب نفسه».
يؤكد دولة أن ما يُستهدف — في رأيه — ليس مجرد صور العنف: بل رواية الضحية الفلسطينية ؛ اللغة التي تشرح ما حدث؛ هوية الضحايا وأسماؤهم .
ويضيف بنبرة حاسمة: «الغريب أن التحريض على الفلسطينيين يبقى، بينما إظهار معاناتهم يُعد مخالفة! هذه ليست إدارة محتوى، بل تدخل سياسي مباشر في الرواية».
ويشير إلى أثر نفسي لا يقل خطورة: الإحباط؛ الشعور بالرقابة الدائمة؛ الخشية من النشر؛ الإقدام على الرقابة الذاتية خوفًا من الحظر
ويختم قائلاً: «نحن لا نكتب للتسلية… نحن نوثق تاريخًا يُمحى مرتين: مرة بالقصف، ومرة بالحذف الرقمي».
من الحذف إلى العقوبة القصوى
يتدرج العقاب الرقمي من حذف منشور واحد إلى: تقييد الظهور؛ حظر مؤقت؛ إغلاق نهائي للحساب، ضرب وصول الصفحة لمتابعيها؛ منع تحقيق الدخل للمؤسسات الإعلامية.
يقول الصحفي أشرف حجاج إنه تعرض لسلسلة طويلة من القيود: «أواجه تقييدًا شبه يومي، خصوصًا حين أنشر موادًا توثيقية من غزة. الصور، الفيديوهات، الشهادات… كلها تُعتبر حساسة وتُزال».
ويضيف: «تتكرر العبارات نفسها: خطاب كراهية، عنف، محتوى صادم. لكن لا أحد يشرح لنا: هل المشكلة في الصورة؟ أم في كون الضحية فلسطينيًا؟».
ويعتبر حجاج أن ما يجري:
ليس خللًا تقنيًا؛ ولا محض خطأ خوارزمي بل سياسة متدرجة لإضعاف الحضور الفلسطيني
وعن أثر ذلك على العمل الصحفي يقول:
«تضطر أحيانًا للتفكير قبل النشر، ليس خوفًا من الحقيقة، بل خوفًا من فقدان المنصة التي توصل الحقيقة. وتلك أخطر أشكال الرقابة، لأنها تُزرع داخل الصحفي نفسه».
ومع كل ذلك يؤكد:
«هذه معركة على الوعي… والانسحاب منها يعني ترك الساحة لرواية واحدة، لهذا نلجأ لمنصات بديلة ونوزّع المحتوى بدل الاستسلام».
جيوش رقمية لإسكات الفلسطينيين
تبرز ظاهرة أخرى موازية، هي حملات التبليغ الجماعي المنسق ضد الحسابات الفلسطينية.
ففي لحظات محددة، تتعرض منشورات لآلاف البلاغات المتزامنة، ما يدفع الأنظمة الآلية إلى حذفها فورًا قبل أي مراجعة بشرية، فالخوارزمية تتعامل مع الكمّ لا مع السياق.
وتتزامن هذه الحملات مع: نشر تقارير حساسة؛ بث مباشر من موقع القصف؛ نشر صور لشهداء أو مجازر ؛ فضح خطاب رسمي (إسرائيلي)
المفارقة — كما يقول الصحفيون — إن البلاغات ضد المحتوى التحريضي المضاد لا تُعامل بالجدية نفسها، ما يكرّس عمليًا ازدواجية معايير صارخة.
الخوارزميات ليست محايدة
الخبير في الإعلام الرقمي خالد صافي يقدم قراءة أشمل "للرسالة نت": «المشهد الرقمي الفلسطيني نشِط وشجاع… لكنه في الوقت نفسه مُستنزف ومُستهدف. نحن أمام حصار رقمي غير معلن».
يرى صافي أن جوهر المشكلة يكمن في:
غياب الحياد التقني
برمجة الخوارزميات وفق سياقات سياسية
ضغط حكومي على الشركات
توصيفات فضفاضة للإرهاب تشمل المصطلحات الفلسطينية
ويقول: «الخوارزميات ليست كائنات محايدة. يتم تدريبها على بيانات، وهذه البيانات منحازة بطبيعتها. ما يعني أن الانحياز ينتقل برمجيًا إلى طريقة التعامل مع المحتوى الفلسطيني».
يشرح صافي أن كلمات مثل: شهيد؛ مقاومة؛ انتفاضة؛ احتلال تُعامل كإشارات خطِرة في أنظمة الرقابة الآلية.
ويضيف: «الأخطر ليس الحذف اليدوي، بل الحذف الخوارزمي السريع الواسع. محتوى يُزال قبل أن يراه أحد، بلا جهة مسؤولة يمكن مخاطبتها، وبلا شفافية أو مراجعة جادة».
ويحذر من آثار عميقة على المدى الطويل:
ضياع الأرشيف التوثيقي للحرب
إضعاف قدرة الباحثين والمؤرخين
خلق فجوة في الذاكرة الجمعية
بقاء الرواية (الإسرائيلية) شبه منفردة في الفضاء العالمي.
ويؤكد: «من لا يملك سيادته الرقمية يُمحى من السردية. اليوم يمحون الفيديوهات، وغدًا سيقال: أين الدليل؟».
القيود الرقمية تعصف بالمحتوى الفلسطيني
مدير عام مركز “صدى سوشيال” للحقوق الرقمية اياد الرفاعي يؤكد أن المحتوى الرقمي الفلسطيني يتعرض لانتهاكات واسعة وممنهجة، لا تقتصر على ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل تمتد إلى ما قبله بسنوات.
ويوضح للرسالة نت أن وتيرة تلك الانتهاكات ترتفع وتنخفض تبعًا لتطورات الميدان؛ فكلما تصاعدت الأحداث على الأرض أو وقعت تطورات سياسية وأمنية كبيرة، ارتفع معها مستوى القيود الرقمية وشدتها بصورة ملحوظة مقارنة بالفترات الهادئة نسبيًا.
ويشير إلى أن المركز يعتمد في توثيق الانتهاكات على البلاغات التي يستقبلها من المستخدمين، إلى جانب استخدام أدوات رقمية متخصصة في الرصد والمتابعة، إضافة إلى شبكة من المتطوعين والشركاء الذين يعملون عبر منصات متعددة لتوثيق هذه الانتهاكات بصورة منهجية.
ويلفت إلى أن الصحفيين يشكّلون إحدى أكثر الفئات استهدافًا بالانتهاكات الرقمية، موضحًا أن تقارير عدة صادرة عن المركز وثّقت نسبًا مرتفعة من هذه الانتهاكات بحق الصحفيين مقارنة بإجمالي الانتهاكات الموثقة، وأن جميع هذه البيانات والأرقام منشورة عبر الموقع الإلكتروني للمركز وصفحاته على منصات التواصل الاجتماعي.
ويكشف مدير عام “صدى سوشيال” أن شهر نوفمبر وحده شهد 846 انتهاكًا رقميًا بحق المحتوى الفلسطيني، جاءت غالبيتها عبر منصة تيليغرام بواقع 381 انتهاكًا –تفرّد معظمها بخطاب التحريض والتشهير– فيما سُجلت 208 انتهاكات عبر منصات “ميتا”، مقابل 231 انتهاكًا عبر منصة “إكس” (تويتر سابقًا).
ويبيّن أن هذه الانتهاكات شملت حذف محتوى وتقليل الوصول وتقييد الحسابات من جانب المنصات، إلى جانب حملات تشهير وخطاب كراهية وتحريض مباشر ضد الفلسطينيين يقودها مستخدمون.
ويضيف أن حجم الانتهاكات شهد تصاعدًا كبيرًا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بالتوازي مع ازدياد حملات التحريض التي يقودها مستخدمون (إسرائيليون) ضد الفلسطينيين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مؤكدًا أن هذه المعطيات موثقة في تقارير شهرية يصدرها المركز بشكل منتظم.
كما يشير إلى أن منصات التواصل الاجتماعي ما تزال تتعامل بسياسة الكيل بمكيالين، إذ تمنح مساحة أوسع للمحتوى المحرِّض ضد الفلسطينيين، بينما تُشدّد القيود على المحتوى العربي بسرعة وصرامة أكبر من تعاملها مع المحتوى المكتوب بالعبرية. ويذكر أن للمركز تجارب عملية قام خلالها بنشر منشورات متطابقة في المعنى بالعربية والعبرية، فجرى حذف المحتوى العربي والإبقاء على العبري.
وبحسب متابعته، فإن الشخصيات الإعلامية والسياسية ونشطاء اليمين (الإسرائيلي) هم الأكثر إنتاجًا لخطابات الكراهية والتحريض، حيث رُصدت دعوات صريحة ومباشرة لقتل الفلسطينيين أينما وجدوا، ولا سيما في قطاع غزة، واستهداف الأسر والمدنيين.
ويحذر من أن القيود الرقمية لا تمثل مجرد تضييق افتراضي، بل تمس جوهر العمل الصحفي الفلسطيني، إذ تؤدي إلى تقليص الوصول إلى المحتوى الإخباري وإضعاف مصادر دخل المؤسسات والصفحات الإخبارية التي تعتمد على الإعلان والوجود الرقمي. ويشدد على أن الحضور على منصات التواصل الاجتماعي بات اليوم جزءًا من الوجود الحقيقي في المجال العام، وأن فقدان هذا الحضور يعني تغييب الصحفي الفلسطيني وصوته.
ويختتم مدير عام مركز “صدى سوشيال” بالدعوة إلى دور عربي ودولي أكثر فاعلية، مطالبًا المؤسسات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني بممارسة ضغط حقيقي على شركات التواصل الاجتماعي، لضمان مساحة عادلة للمحتوى الفلسطيني أسوة ببقية مستخدمي العالم، بعيدًا عن التمييز والازدواجية في المعايير.
القانون الدولي صامت أمام الشركات الرقمية
من الناحية القانونية، تتمتع شركات التواصل الاجتماعي بسلطات واسعة تحت عنوان: شروط الاستخدام؛ سياسات المجتمع؛ حماية العلامة التجارية؛ الامتثال للقوانين المحلية.
لكن الإشكالية تكمن في أن هذه الشركات تمثل فاعلاً إعلاميًا ضخمًا يؤثر بشكل مباشر على الرأي العام العالمي، ويسيطر على وصول المعلومات، مع بقائها خارج نطاق الرقابة الحقيقية للدول. في ظل هذا الواقع، تصبح حرية التعبير خاضعة لمعايير غير شفافة، ومعرضة للضغط السياسي، ومرتبطة بالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية لهذه الشركات الكبرى.
ما يعني أن الفلسطيني، الذي يعاني أصلاً من التهميش السياسي، يتعرض أيضًا لتهميش رقمي مؤسسي.
ولفهم البعد الحقوقي والقانوني للحصار الرقمي وتأثيره على حرية التعبير والهوية الفلسطينية، يقدّم الحقوقي صلاح عبد العاطي قراءة شاملة للرسالة نت لما يجري في الفضاء الرقمي، بوصفه امتدادًا لسياسات التقييد والإقصاء التي يتعرض لها الفلسطينيون، مؤكّدًا أن ما يحدث يتجاوز الأخطاء التقنية الفردية إلى نمط ممنهج من الحذف والتقييد وإعادة تشكيل الوعي العام.
يؤكد عبد العاطي أن واقع حرية التعبير الفلسطينية في الفضاء الرقمي “متدهور ومعقّد”، ولا يعكس بأي حال بيئة مفتوحة أو عادلة.
ويشير إلى أن المحتوى الفلسطيني الذي يوثّق الانتهاكات (الإسرائيلية) أو يعبّر عن وجهات نظر سياسية وحقوقية مشروعة، يتعرض بشكل متكرر لعمليات حذف وتقييد وتقليل انتشار عبر خوارزميات المنصات المختلفة، وصولًا إلى إغلاق الحسابات والصفحات بذريعة مخالفة “معايير المجتمع” أو “السياسات الداخلية”، دون توضيحات شفافة أو مسارات تظلّم فعالة.
ويضيف عبد العاطي أن هذا التضييق لا يستثني حتى الصحفيين والحقوقيين المحترفين؛ إذ يلاحظ هؤلاء تراجعًا حادًا في الوصول والتفاعل رغم التزامهم بمعايير النشر المهنية، الأمر الذي يعكس – بحسبه – وجود ضوابط تقنية وخوارزمية تؤثر على ظهور المحتوى الفلسطيني وتحدّ من انتشاره، بما ينفي الادعاء بوجود فضاء رقمي ضامن لحرية التعبير من حيث الإتاحة والاستمرارية والوصول العادل.
نمط ممنهج من التقييد
وبشأن ما إذا كان هناك نمط ممنهج، يوضح عبد العاطي أن ما يجري لا يمكن اعتباره حوادث معزولة؛ بل أنماطًا متكررة وغير متوازنة تطال المحتوى الفلسطيني تحديدًا، من خلال توجيه سياسات المنصات ضمن إطارَي مكافحة الإرهاب وخطاب الكراهية، بما يؤدي عمليًا إلى حذف محتوى سياسي وحقوقي مشروع تحت ذريعة سوء الفهم أو التصنيف الفضفاض. كما تُستهدف الوسوم والكلمات المفتاحية المرتبطة بالقضية الفلسطينية، ما يحدّ من بروزها على نطاق واسع.
مسؤولية شركات التكنولوجيا
قانونيًا، يبيّن عبد العاطي أن هذه الشركات تعمل وفق شروط الخدمة والسياسات الداخلية الخاصة بها أكثر من عملها وفق التزامات قانونية دولية صارمة، في ظل غياب آليات ملزِمة تفرض عليها احترام حرية التعبير. أما أخلاقيًا، فيرى أنها تتحمل مسؤولية واضحة في أن تكون وسيطًا محايدًا يضمن العدالة وعدم التمييز، وأن حذف المحتوى الحقوقي والصحفي المشروع يمثل إخلالًا بهذه المسؤولية.
تحيز خوارزمي
ويشير عبد العاطي إلى أن الخوارزميات المستخدمة في تصنيف المحتوى تُدرّب غالبًا على بيانات لا تمثل السياق العربي والفلسطيني بما يكفي، ما يؤدي إلى تحيز بنيوي يتسبب في إسكات خطاب مشروع وسوء فهم للغة والسياق، فتتعاظم أخطاء التصفية والحذف دون تدخل بشري مهني دقيق.
التبليغ الجماعي كأداة قمع
كما يلفت إلى أن خاصية التبليغ الجماعي تُستغل في كثير من الأحيان كوسيلة قمع رقمي، عبر حملات منظمة تستهدف صفحات فلسطينية، فتسرّع من حذف المحتوى وتعليق الحسابات، خصوصًا خلال فترات التصعيد، رغم أن هذه الحملات لا تصدر مباشرة عن الشركات ولكنها تجد في بنيتها التقنية بيئة قابلة للاستغلال.
تصنيفات الإرهاب والتحريض
ويؤكد عبد العاطي أن تصنيفات “الإرهاب” و“التحريض” تُستخدم بصورة فضفاضة ضد الفلسطينيين، فتطال منشورات حقوقية وإعلامية توثيقية لا تمتّ بصلة للدعوة إلى العنف، وهو ما تنتقده منظمات حقوقية دولية باعتباره تهديدًا جوهريًا لحرية التعبير.
أثر مباشر على الصحافة والهوية
ويرى أن هذه السياسات تنعكس مباشرة على الصحفيين والحقوقيين الذين باتوا يعملون تحت تهديد دائم بفقدان صفحاتهم، ما يحد من قدرتهم على نقل الحقيقة وتوثيق الانتهاكات، ويؤثر بدوره على الذاكرة الجمعية الفلسطينية والهوية الرقمية، ويحجب الرواية الفلسطينية عن قطاعات واسعة من جمهور العالم.
مساءلة ضعيفة وآليات غير مفعّلة
ويخلص عبد العاطي إلى أن الآليات القانونية والدولية لمساءلة شركات التكنولوجيا ما تزال ضعيفة وغير مفعّلة بسبب غياب التنظيم الدولي الملزم، وقوة نفوذ الشركات، وتباين التشريعات الوطنية، ما يجعل البيئة الرقمية الحالية “غير متوازنة وغير آمنة لحرية التعبير”، خصوصًا في سياقات الاحتلال والنزاعات.
ويختتم قائلًا:
“ما يتعرض له المحتوى الفلسطيني ليس مجرد أخطاء تقنية متفرقة، بل جزء من حصار رقمي ممنهج يقوّض حرية التعبير، يضر بالصحافة والحقوق الرقمية، ويهدد الذاكرة الجمعية والهوية الوطنية.”
تزييف الوعي لا حذف المحتوى فقط
الحذف ليس الغاية بحد ذاته، فالأخطر في الحصار الرقمي يكمن في إعادة تشكيل الوعي العالمي، والتحكم بما يراه الناس وما لا يرونه، وتقديم الجرائم خارج سياقها، وتسويق لغة “النزاع المتكافئ” بدل الإبادة، وتحويل الضحية إلى طرف في اشتباك لا موضوع جريمة.
وعندما تُحذف الصور والشهادات الفلسطينية، لا يُمحى الحدث فحسب، بل تُمحى الذاكرة، ويُشوَّه التاريخ، ويُترك المجال لاحتكار الرواية الرسمية. بذلك، تتحول أدوات التقنية إلى وسيط سياسي يشارك — بوعي أو بدون وعي — في صناعة تصور غير عادل للصراع.
خطر على الصحفيين
اتفق جميع المتحدثين على أن الصحفي الفلسطيني اليوم لا يواجه خطر الاستهداف الميداني أو نقص المعدات أو انقطاع الكهرباء والاتصال فحسب، بل يواجه أيضًا تحديات أشد تعقيدًا: خطر اختفاء عمله من الفضاء العام، فقدان أرشيفه الشخصي، ضرب مصادر رزقه إذا اعتمد على المنصات الرقمية، وتراجع وصوله للجمهور العالمي. هذا الواقع يجعل المعركة المهنية مركبة: توثيق تحت النار، نشر تحت الحصار الرقمي، والدفاع عن المحتوى أمام الخوارزميات والمنصات.
فالهوية الفلسطينية ليست مجرد شعارات، بل تاريخ مكتوب، صور عائلات، فيديوهات توثيقية، شهادات ناجين، وأرشيف مخيمات ومدن وقرى. وعندما يُحذف هذا كله، يصبح الأمر مسحًا ممنهجًا للذاكرة الجمعية، طمسًا للأثر البصري والإنساني، وقطعًا لسلسلة الشهادة للأجيال القادمة. في هذه الصورة، يتحول الحصار الرقمي إلى امتداد للحصار الجغرافي، وساحة جديدة من ساحات الصراع على الوجود والمعنى.
كيف يواجه الفلسطينيون هذا الحصار؟
رغم كل التضييق، لم يصمت الفلسطينيون رقميًا، وبرزت استراتيجيات بديلة للتصدي للحصار الرقمي، كما أشار المتحدثون:
الأرشفة اللامركزية للمحتوى، حفظ النسخ خارج المنصات التجارية، استخدام قنوات بديلة مثل تيليغرام، النشر بلغات متعددة للوصول العالمي، توزيع المحتوى على أكثر من منصة، إنشاء قواعد بيانات توثيقية مستقلة، والتعاون مع منظمات حقوق رقمية دولية.
كما يعمل الصحفيون على تدريب جمهورهم على الالتفاف على القيود، وتوعية المتابعين بأهمية إعادة نشر المواد، وبناء شبكات دعم تشاركية للمحتوى المحذوف.
ومن خلال الشهادات السابقة يتضح أن الحذف الرقمي ليس عشوائيًا، وأن الخوارزميات ليست محايدة، وأن المنصات تتأثر بالضغوط السياسية، ليجد الفلسطيني نفسه تحت حصار مزدوج: ميداني ورقمي. إنها معركة على الرواية، على الوعي، على الذاكرة، وعلى الحق في الوجود الرقمي.
يقول الخبير خالد صافي خاتمًا:
«إذا مُحيت صور الضحايا وأصوات الشهود اليوم، فسيأتي يوم يسأل فيه العالم: أين الدليل؟… لذلك معركتنا اليوم ليست من أجل النشر فحسب، بل من أجل التاريخ».