قيام عنقاء فلسطين ومُلثّمها
خالد الحروب
إنّها بداية الحكاية لا النهاية. تُكتب ملاحم الشعوب، وتَخْلُد وتُخلّد، عندما تختلط البدايات بالنهايات. ما يتبدّى نهاية لأيّ منها يكون بداية لتاليها. تصير نقطة الفناء ذاتها تجسّداً صوفياً وانبعاثاً في الحياة طولاً وعرضاً. تُرافق الملحمة الناسَ ويهتدون بها، تصير ابنتهم الحبيبة. تتجذّر وجوه أبطالها في حيوات الأفراد واجتماعهم وتاريخهم ومقبل أيامهم، فيحيا هؤلاء مع من يحيا من أولئك.
أسطورة البطل وحدها من تتحدّى محاولاتِ الموت شطب أسماء البشر من الوجود. قليلون هم المُتعالون فوق الشطب اللحظي، رافضين مدحلة الموت اليومي حيث كانت حياة. يموت الناس ويذهبون إلى الفناء، يقوم الفرسان منهم لحظة موتهم ويتوشّحون وسام البقاء. اليوم يوم قيام الفارس المُلثّم. كم صار ممشوق القامة وطويلها. كيف صار طويلاً إلى هذا الحدّ يلاحقه الناس بنظراتهم إذ تغوص كتفاه في سقف السماء!
اليوم ولدت أسطورة، ومن هنا نبدأ. كم من الأجيال القادمة ستقرأ في سماوات البلاد تفاصيل الحكاية. ما كان لتراجيديا قيام عنقاء فلسطين إلّا أن يكون لها بداية تليق بالأساطير، تستدعي كنعان ومعه تمرّ على الجبال كلّها، وتحضن الزيتون كلّه. أكتوبر صناعتك العبقرية هو أكتوبر حضنك النهائي، كأنما أعطاك عمراً فسيحاً مديداً طوله عام كامل من الرصاص.
في كلّ ثانية منه كان هناك إكسيرُ سحرٍ غريبٍ من العناد، والعرق، والدم، والدمع، يتكوّن في قلب الأرض التي عشقتَها وعشقَتْك. كم هي المساحات التي قطعتها فوق الأرض وتحتها في ذاك العام الخرافي! كم هم الشهداء الذين عانقتهم وتعشق جسدك رائحة دمهم! كم هي أخبار الثكالى التي أوجعت قلبك، فحبست دمعك؟ اليوم تتعشّق فلسطين، وملايين ناسها ومن سيأتون غداً وبعد غد، دمَكَ وروحَكَ وغضبَك.
يوم صعدتْ ولُدت أسطورة في امتداد سماء فلسطين، يحتلّها وجهك الصارم، ساعدك المُغبرّ، وتروح فيها وتجيء روحك العنيدة. 22 عاماً في سجونهم يحاولون كسر الروح. هزمْتَهم في سجنهم، وخارج سجنهم. في الخارج، كانت ثمّة 13 سنة فقط استكملت مسيرة العناد. كم منّا يجلس على قارعة الروتين أطول من ذلك بكثير! لا أثر. صعدت نجماً، أيقونة تظلّ تبرق في أرواح أجيال قادمة. يوم ظنّ العدو أنّ النهاية جاءت، وصلت معها بدايات كثيرة. هكذا تقول الحياة، وهكذا يقول من يريدها بهامة عالية. وهكذا ردَّد أولاد المدارس حكاية عنقاء الأرض التي لا تموت.
في كلّ أسطورة فروسية، يخبرنا التاريخ، هناك أنذال على الهامش يُفرحهم سقوط الفارس. فروسيته تُخجِلهم، شجاعته تُعرّيهم، تفضح خنوعهم، وتذيبهم في مستنقع قميء حفرته حكايات البشر منذ بدء الخليقة. لما يلتفتون حولهم ليشاركوا فرحهم الغادر مع غيرهم لا يجدون سوى عدوّهم يدقّ الطبول، عدوّ الفارس ذاته. يرتبكون لوهلة، ثمّ يكابرون، يصفّقون للقاتل فيما حذاؤه يسدّ أفواههم.
يُعلون أصواتهم آملين أن يُخفي عويلُ صراخهم عمقَ النذالة، لكنّهم يغرقون أكثر. في كلّ قصة فروسية كوضوح الشمس هناك غدر كوضوح الخنجر في الظهر. ثمّة في الوسط جبناء يتردَّدون، ينتظرون نهاية المعركة كي يُحدّدوا موقعَ أقدامهم. قال أحدهم، الجبن ليس عيباً، لكنّه الجريمة.
الفارسُ الصاعدُ تواصل ساعداه وكتفاه الغوص في سقف السماء.
يتابعه الناس، شجعانهم، أنذالهم، جبناؤهم. ترجع رقاب الناظرين إلى الخلف يلاحقون فوران الريح حول رأس الملثّم وساعديه الداميتين الصلبتين. يتساءل بعضهم: ماذا يفعل صاعداً في سقف السماء؟… يجيب عارفوهم: إنّه يرفع السقف من أجلنا وعلينا. أسقفُ فلسطين ظلّت ترتفع واحداً إثر الآخر من الجليل وثلاثية عكا الحمراء، إلى حيفا ويعبد وقسّامها، وقوفاً في كلّ مدينة وقرية ومُخيّم.
خارج حدود الأرض ظلّت الأسقف تُصنع وتُرفع، في بيروت غسان كنفاني وكمال عدوان، في تونس أوّل الرصاص وأوّل الانتفاضة، ثمّ عودة إلى حيث رُفِعت السقف الأولى، وقافلة لم تنته بأبي عمّارها. اليوم وعلى طول درب الدم المزنّر بين مخيَّمَي خانيونس وتلّ السلطان يرتفع سقف الأسقف، عالياً كما لم يَعلُ من قبل. سقف سماء جديدة تُتعِب القادمين الجُدد.
هذا ولد المخيّمات، ابن الأرض يصول في شمالها وجنوبها، يحرثها بالحُبّ والوعد، سليل المُغبرين من المجدل. يُقسِم بالتين والزيتون قسمَ أجيال من قبله ومن بعده أنّ نهاية الدرب المُعبّد بالعناد واضحة كالشمس، يتكئ اليوم على حافة سقف السماء، مُلثّماً، ناظراً، ناشراً ساعديه جسراً لأجيال قادمة معبأة بالصهيل.
خالد الحروب
إنّها بداية الحكاية لا النهاية. تُكتب ملاحم الشعوب، وتَخْلُد وتُخلّد، عندما تختلط البدايات بالنهايات. ما يتبدّى نهاية لأيّ منها يكون بداية لتاليها. تصير نقطة الفناء ذاتها تجسّداً صوفياً وانبعاثاً في الحياة طولاً وعرضاً. تُرافق الملحمة الناسَ ويهتدون بها، تصير ابنتهم الحبيبة. تتجذّر وجوه أبطالها في حيوات الأفراد واجتماعهم وتاريخهم ومقبل أيامهم، فيحيا هؤلاء مع من يحيا من أولئك.
أسطورة البطل وحدها من تتحدّى محاولاتِ الموت شطب أسماء البشر من الوجود. قليلون هم المُتعالون فوق الشطب اللحظي، رافضين مدحلة الموت اليومي حيث كانت حياة. يموت الناس ويذهبون إلى الفناء، يقوم الفرسان منهم لحظة موتهم ويتوشّحون وسام البقاء. اليوم يوم قيام الفارس المُلثّم. كم صار ممشوق القامة وطويلها. كيف صار طويلاً إلى هذا الحدّ يلاحقه الناس بنظراتهم إذ تغوص كتفاه في سقف السماء!
اليوم ولدت أسطورة، ومن هنا نبدأ. كم من الأجيال القادمة ستقرأ في سماوات البلاد تفاصيل الحكاية. ما كان لتراجيديا قيام عنقاء فلسطين إلّا أن يكون لها بداية تليق بالأساطير، تستدعي كنعان ومعه تمرّ على الجبال كلّها، وتحضن الزيتون كلّه. أكتوبر صناعتك العبقرية هو أكتوبر حضنك النهائي، كأنما أعطاك عمراً فسيحاً مديداً طوله عام كامل من الرصاص.
في كلّ ثانية منه كان هناك إكسيرُ سحرٍ غريبٍ من العناد، والعرق، والدم، والدمع، يتكوّن في قلب الأرض التي عشقتَها وعشقَتْك. كم هي المساحات التي قطعتها فوق الأرض وتحتها في ذاك العام الخرافي! كم هم الشهداء الذين عانقتهم وتعشق جسدك رائحة دمهم! كم هي أخبار الثكالى التي أوجعت قلبك، فحبست دمعك؟ اليوم تتعشّق فلسطين، وملايين ناسها ومن سيأتون غداً وبعد غد، دمَكَ وروحَكَ وغضبَك.
يوم صعدتْ ولُدت أسطورة في امتداد سماء فلسطين، يحتلّها وجهك الصارم، ساعدك المُغبرّ، وتروح فيها وتجيء روحك العنيدة. 22 عاماً في سجونهم يحاولون كسر الروح. هزمْتَهم في سجنهم، وخارج سجنهم. في الخارج، كانت ثمّة 13 سنة فقط استكملت مسيرة العناد. كم منّا يجلس على قارعة الروتين أطول من ذلك بكثير! لا أثر. صعدت نجماً، أيقونة تظلّ تبرق في أرواح أجيال قادمة. يوم ظنّ العدو أنّ النهاية جاءت، وصلت معها بدايات كثيرة. هكذا تقول الحياة، وهكذا يقول من يريدها بهامة عالية. وهكذا ردَّد أولاد المدارس حكاية عنقاء الأرض التي لا تموت.
في كلّ أسطورة فروسية، يخبرنا التاريخ، هناك أنذال على الهامش يُفرحهم سقوط الفارس. فروسيته تُخجِلهم، شجاعته تُعرّيهم، تفضح خنوعهم، وتذيبهم في مستنقع قميء حفرته حكايات البشر منذ بدء الخليقة. لما يلتفتون حولهم ليشاركوا فرحهم الغادر مع غيرهم لا يجدون سوى عدوّهم يدقّ الطبول، عدوّ الفارس ذاته. يرتبكون لوهلة، ثمّ يكابرون، يصفّقون للقاتل فيما حذاؤه يسدّ أفواههم.
يُعلون أصواتهم آملين أن يُخفي عويلُ صراخهم عمقَ النذالة، لكنّهم يغرقون أكثر. في كلّ قصة فروسية كوضوح الشمس هناك غدر كوضوح الخنجر في الظهر. ثمّة في الوسط جبناء يتردَّدون، ينتظرون نهاية المعركة كي يُحدّدوا موقعَ أقدامهم. قال أحدهم، الجبن ليس عيباً، لكنّه الجريمة.
الفارسُ الصاعدُ تواصل ساعداه وكتفاه الغوص في سقف السماء.
يتابعه الناس، شجعانهم، أنذالهم، جبناؤهم. ترجع رقاب الناظرين إلى الخلف يلاحقون فوران الريح حول رأس الملثّم وساعديه الداميتين الصلبتين. يتساءل بعضهم: ماذا يفعل صاعداً في سقف السماء؟… يجيب عارفوهم: إنّه يرفع السقف من أجلنا وعلينا. أسقفُ فلسطين ظلّت ترتفع واحداً إثر الآخر من الجليل وثلاثية عكا الحمراء، إلى حيفا ويعبد وقسّامها، وقوفاً في كلّ مدينة وقرية ومُخيّم.
خارج حدود الأرض ظلّت الأسقف تُصنع وتُرفع، في بيروت غسان كنفاني وكمال عدوان، في تونس أوّل الرصاص وأوّل الانتفاضة، ثمّ عودة إلى حيث رُفِعت السقف الأولى، وقافلة لم تنته بأبي عمّارها. اليوم وعلى طول درب الدم المزنّر بين مخيَّمَي خانيونس وتلّ السلطان يرتفع سقف الأسقف، عالياً كما لم يَعلُ من قبل. سقف سماء جديدة تُتعِب القادمين الجُدد.
هذا ولد المخيّمات، ابن الأرض يصول في شمالها وجنوبها، يحرثها بالحُبّ والوعد، سليل المُغبرين من المجدل. يُقسِم بالتين والزيتون قسمَ أجيال من قبله ومن بعده أنّ نهاية الدرب المُعبّد بالعناد واضحة كالشمس، يتكئ اليوم على حافة سقف السماء، مُلثّماً، ناظراً، ناشراً ساعديه جسراً لأجيال قادمة معبأة بالصهيل.