هل كان السنوار يعرف عواقب الهجوم على إسرائيل؟
عريب الرنتاوي
سيدخل السنوار التاريخ من بوابات عدّة، فهو الرجل الذي ارتبطت باسمه شخصيًا، أكبر معارك الشعب الفلسطيني ضد عدوّ استعماري إحلالي – عنصري.. وهو الرجل الذي عاش مشتبكًا ومات مقاتلًا (حتى الرمق الأخير)، لم يضعف ولم يجبن قط.. وهو الرجل الذي جسد في نشأته ومعاشه ومماته، سيرة الفلسطيني من الخيمة إلى الخندق (النفق)، الفلسطيني الذي ذاق ويلات اللجوء ومعاناته، والأسر وزنازينه، ولم يجد ذاته ويعود إليها، إلا حين امتشق حسامه من غمده.
وسيحجز “أبو إبراهيم” لنفسه مقعدًا في صدارة اللائحة “القصيرة” لكبار قادة الفلسطينيين في المئوية الأولى من عمر كفاحهم الوطني في سبيل الحرية والاستقلال.. سيُبعث يوم النشر العظيم، سوية مع عز الدين القسام، وهو الذي رفع كتائبه إلى علياء السماء، وإلى جانب عبدالقادر الحسيني الذي ارتقى في القسطل مقاتلًا حتى الطلقة والرمق الأخيرين، وكتفًا إلى كتف مع ياسر عرفات (أبو الوطنية الفلسطينية المعاصرة)، وهو الذي أطلق رصاصة “فتح” الأولى في الفاتح من يناير/ كانون الثاني 1965، قبل أن تغور في غرف “التنسيق الأمني” المُذلّ وكواليسه السوداء، ثم عاد فنقاها من غبار أوسلو. وسيرث عن كل هؤلاء، ما مرّوا به، من تجارب الخذلان والتخلي العربيين، والتآمر والنفاق الدوليين.
وسيتحول، شأنه في ذلك شأن الثوار العظام، من أمثال تشي غيفارا، إلى أيقونة ومغناة، ستتوارثها أجيال من الفلسطينيين والعرب والمسلمين وشرفاء العالم وأحراره.. كيف لا، وهو الرجل الذي لا تشبه بداياته، سوى نهاياته.. ولا يجد المراقبون سوى “عصا موسى” يستحضرونها في وصف عصاه التي قذف بها الوحش الفولاذي الذي يطارده من غرفة إلى أخرى، إلى أن أسلم الروح فوق أريكة اعتلتها شظايا القذائف وأتربتها، وللسنوار على ما يبدو، حكاية مع الأرائك، لا يفهم معاني التحدي والعناد فيها، سوى الجالسين في غرف العمليات على المقلب الآخر من جبهات الحرب والقتال.
لم أعرفه شخصيًا، ولم ألتقِه مرة، لكن الرجل تمتع مبكرًا بـ”فائض حضور”، يرغمك على متابعته والتعرف عليه، بل ويدفعك إلى إجراء التمارين عمّا يجول في ذهنه، وما تشف عنه نظراته الثاقبة، وحركة جسده النحيل، الذي ضاق بما يعتمل في داخله من مشاريع وأفكار، بعضها كان حتى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ضربًا من الخيال، فإذا بها، طوفان يضرب شواطئ الإقليم جميعها، وتلامس ذيوله شطآن العالَمين القديم والجديد.
هل جال في عقل السنوار، حين خطط مع ثُلة من قادة الميدان، ونفذ ببضعة آلاف من المقاتلين الأشداء، أن الطوفان سيبلغ هذا الحد، وسيتحول إلى “يوم قيامة”، لم تغلق أبوابه بعد؟
سؤال لم يفارقني منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، واشتد عليّ بعد استشهاده، لأنني، وربما من باب “التفكير الرغائبي”، كنت أنتظر أن يروي الرجل حكايته، وأقول تفكيرًا رغائبيًا، لأنني كما الكثرة الكاثرة، كنا نتوقع سماع نبأ استشهاده في أي لحظة، وكنا نتفقد نشرات الأخبار الصباحية المبكرة، للتأكد من أن يومًا إضافيًا قد كتب له من جديد، ولا أدري إن كان الوقت قد أسعفه، وهو يتنقل بين الكمائن والخنادق والأنفاق، لكتابة “شيء ما”.
أظنّ، وليس كلُّ الظن إثمًا، أن الرجل أراد أن يلقي بحجر كبير في مستنقع الركود الآسن، الذي عاشته قضية شعبه، ولِمَ لا يفعل، والأرض تُنتهب لصالح قطعان المستوطنين، والحقوق تُبدد على موائد العجز والتواطؤ والتآمر، وقطار التطبيع جارف، وسجون الغزاة تأكل “زهرة شباب” ألوف الأسرى والمعتقلين، وأولى القبلتين تدنس يوميًا بـ”آثار القدم الهمجية”.
أظنه أراد للطوفان أن يفتح بابًا لوقف مسارات التردي والانهيار، والتأكد من أن قضية شعبه ووطنه، قد بلغت “القعر” الأخير، لتبدأ من بعده، مشوار الصعود والتعافي، لا أحسب أن الرجل خطط وحلم بأكثر من ذلك على أية حال، ولا أحسب أن الحركة برمتها، كانت ترنو لما هو أبعد من “تحريك الراكد” في المشهد الفلسطيني، ووضع المشروع الوطني على سكة الانفلات من أسر أوسلو وقيودها، التي زادها عجز “المقاطعة”، ذلًا واستكانة، والتوطئة لولوج عتبات مرحلة جديدة.
لكن صانع “المفاجأة الإستراتيجية” الأخطر في تاريخ إسرائيل منذ نشأتها، سيُصدم هو نفسه بهول المفاجأة، عندما رأى “الجيش الذي لا يقهر”، يتقهقر أمام طلائع المقاتلين ذوي البأس الشديد، وعندما تهاوت أمام ناظريه، عوالم “الأساطير” و”الخرافات” المُؤَسِسَةِ لهذا الكيان، وعندما تبدّى له، أن هذا “البُعبع”، العاجز عن حماية نفسه، سرعان ما يعود كالطفل الفاسد والأزعر، باكيًا شاكيًا إلى أحضان والديه، عندما يجابَه بأول ضربة على رأسه.
لم تعد المسألة “حجرًا كبيرًا في مستنقع راكد”، فقد بشرّ الغزال بزلزال، والزلزال استنفدَ تدريج “ريختر” حتى نهايته، ومنذ تلك اللحظة، ستدخل فلسطين ودولة الاحتلال والأبارتيد، بل والإقليم برمته، في مرحلة جديدة، لا حدود ولا نهايات مرئية لديناميّاتها، ولا لعلاقات القوة وتوازناتها، وستفضي كل مرحلة منها إلى مرحلة أشد غموضًا وتعقيدًا.
“الحكماء بأثر رجعي”، سارعوا للقول: ألم يكن يتعين على من خطط ونفذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أن يتحسب لكل هذه الآثار والارتدادات؟ .. هؤلاء أنفسهم، لو سألتهم قبل ساعة من الطوفان، عن “سيناريو انهيار الجبهات الإسرائيلية” لسخروا منك وظنوك خَرِفًا، فأنّى لك أن تفكر، مجرد تفكير، بأن إسرائيل يمكن أن تُهزم، ومِمَن؟ من فصيل مُحارَب في قطاع مُحاصَر.
“الحكماء بأثر رجعي” يشهرون الحجة في وجه السنوار وصحبه: ألم يكن يتعين عليكم التفكير بعواقب ردّ فعلٍ إسرائيلي مزلزل، يطاول البشر والشجر والحجر؟.. ومن قال لهؤلاء إن السنوار وحماس والكتائب، لم يأخذوا أمرًا كهذا بعين الاعتبار، وأنهم ما كانوا على استعداد لتقديم التضحيات الجسام لتحقيق هذه الأهداف الجسام.. لكنك حين تسأل هؤلاء، باستثناء المدّعين الزائفين، وهل كنتم أنتم تتوقعون، أن إسرائيل ومن خلفها الغرب كله، ومعها كثرة من العرب، ستخوض معركة “وجود”، وأن الأمر بلغ هذه النقطة الحرجة في التفكير الإسرائيلي والاستعماري، وأنه يعود في جزء منه، إلى انهيارات في جبهة العدو، ما كان أحد ليتخيلها أو يتوقعها، بمن في ذلك كبار العقول والمؤسسات الإستراتيجية والاستشرافية في تل أبيب وعواصم الغرب.
“الحكماء بأثر رجعي” يقذفون في وجه حماس والسنوار بسؤالهم الاستنكاري: ألم تكونوا على دراية من قبل، بمستويات التهالك في الموقف الفلسطيني والتآكل في المواقف العربية، والانحياز الغربي الأعمى لإسرائيل قبل أن تقدموا على “ارتكاب فعلتكم”؟.. والحقيقة، أن أحدًا لم يكن ليراهن على انتقال السلطة من غرف التنسيق الأمني إلى خنادق المقاومة، ولكن الرهان كان قائمًا على “ذرة حياء” تسمح بالتداعي لتوفير شبكة أمان للمقاومة والمشروع الوطني والشعب الفلسطيني: حكومة وفاق وطني من باب أضعف الإيمان.
الرهان لم يكن معقودًا على قيام النظام العربي بحشد الجيوش وفتح الجبهات، بيد أنه لم يكن معدومًا قدرة النظام العربي على إدخال حبة دواء ووجبة غذاء للفلسطيني في القطاع المحاصر والمجوّع.. الرهان ظل قائمًا على أن هذا الغرب، سيظل متمسكًا وإن بورقة التوت لستر عورات انحيازاته وشراكاته في جرائم الحرب والإبادة، قبل أن يتبين لهم ولنا، أن لا قيمة لورقة التوت إن كان مصير “حاملة الطائرات المتقدمة” كله مطروحًا على بساط البحث.
كل هذه الرهانات، بحدودها الدنيا، سقطت دفعة واحدة، ومرد سقوطها أن الطوفان بلغ ضفاف التهديد الوجودي لإسرائيل، ولأن الأخيرة هي نتاج أكبر وأهم استثمار استعماري غربي طيلة المئة عام الفائتة، بدت ككومة قشّ تذروها الريح، فكان إسقاط أوراق التوت تباعًا، أهون “الشرَّين” عند هذه الأطراف، حتى وإن تكشفت عورات السلطة الفلسطينية وبؤس النظام العربي ونفاق ما يسمى بـ”المجتمع الدولي”.
كنّا قبل الطوفان نظن، أن أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” ضرورية لغايات حفظ الهيمنة والتفوق الإسرائيليين في إقليم يُعدُّ لمواجهة تهديدات أخرى، من شرق الشرق، فإذا بنا، بعد الطوفان، نكتشف، أن بقاء هذه الأسطورة وتضخيمها، هي “متطلب مسبق” لحفظ النظام العربي، في مواجهة معارضيه، وأن النصر ممنوع، حين تكون راياته معقودة لقوى وفصائل لطالما أدرجتها حكومات عربية عدة، في صدارة لوائح المُهددات لأمنها واستقرارها، حتى وإن تطلب الأمر، حجب الماء والغذاء عن ملايين الفلسطينيين في القطاع والضفة، وتوجيهه عبر قنوات التجارة وممراتها المتعددة صوب إسرائيل وهي تمارس طغيانها ضد المدنيين والبنى المدنية.
فاضت روح “أبو إبراهيم” إلى بارئها، لكنه ترك بصمات لن تُمحى في ذاكرة الأجيال القادمة، من الفلسطينيين وأعدائهم على حد سواء، فتح أفقًا إستراتيجيًا لن تسدّه أكوام الخرائب والأنقاض في غزة، وضع فلسطين في قلب خريطة العالم وصدارة لوائح أولوياتها، وعلّم القريب والبعيد، أن إسرائيل يمكن أن تهزم، ونبهنا إلى ما نحن فيه من عجز وتقصير وتَلَهٍّ.
فاضت روح السنوار إلى خالقها، وإسرائيل في أرذل حالاتها: كيان منبوذ ومتهم، سقطت عنه جميع الادعاءات الزائفة، وهو يقف عاريًا أمام أجيال من الشباب والشابات في العالم، بوصفه كيانًا يمارس الإبادة والتطهير والتمييز العنصري.
رحل السنوار، وإسرائيل ينتظرها “اليوم التالي” وليس غزة وحدها، فعقارب ساعتها لن تعود إلى الوراء، وما بدأ كانقسامات بين تيارات الفكر والسياسة فيها، تحول بفعل الطوفان، إلى أسئلة الوجود والثقة بالمستقبل والكيان.
ذهب السنوار، لكنّ المقاومين في غزة، لم تهن لهم قناة، ولم تفتّ لهم عزيمة، ورحى المعارك ما زالت تدور، على جبهات عدة، والذين استعجلوا رحيل المقاومة برحيل قادتها، واهمون ومُشتَبِهون، والأيام بيننا.
عريب الرنتاوي
سيدخل السنوار التاريخ من بوابات عدّة، فهو الرجل الذي ارتبطت باسمه شخصيًا، أكبر معارك الشعب الفلسطيني ضد عدوّ استعماري إحلالي – عنصري.. وهو الرجل الذي عاش مشتبكًا ومات مقاتلًا (حتى الرمق الأخير)، لم يضعف ولم يجبن قط.. وهو الرجل الذي جسد في نشأته ومعاشه ومماته، سيرة الفلسطيني من الخيمة إلى الخندق (النفق)، الفلسطيني الذي ذاق ويلات اللجوء ومعاناته، والأسر وزنازينه، ولم يجد ذاته ويعود إليها، إلا حين امتشق حسامه من غمده.
وسيحجز “أبو إبراهيم” لنفسه مقعدًا في صدارة اللائحة “القصيرة” لكبار قادة الفلسطينيين في المئوية الأولى من عمر كفاحهم الوطني في سبيل الحرية والاستقلال.. سيُبعث يوم النشر العظيم، سوية مع عز الدين القسام، وهو الذي رفع كتائبه إلى علياء السماء، وإلى جانب عبدالقادر الحسيني الذي ارتقى في القسطل مقاتلًا حتى الطلقة والرمق الأخيرين، وكتفًا إلى كتف مع ياسر عرفات (أبو الوطنية الفلسطينية المعاصرة)، وهو الذي أطلق رصاصة “فتح” الأولى في الفاتح من يناير/ كانون الثاني 1965، قبل أن تغور في غرف “التنسيق الأمني” المُذلّ وكواليسه السوداء، ثم عاد فنقاها من غبار أوسلو. وسيرث عن كل هؤلاء، ما مرّوا به، من تجارب الخذلان والتخلي العربيين، والتآمر والنفاق الدوليين.
وسيتحول، شأنه في ذلك شأن الثوار العظام، من أمثال تشي غيفارا، إلى أيقونة ومغناة، ستتوارثها أجيال من الفلسطينيين والعرب والمسلمين وشرفاء العالم وأحراره.. كيف لا، وهو الرجل الذي لا تشبه بداياته، سوى نهاياته.. ولا يجد المراقبون سوى “عصا موسى” يستحضرونها في وصف عصاه التي قذف بها الوحش الفولاذي الذي يطارده من غرفة إلى أخرى، إلى أن أسلم الروح فوق أريكة اعتلتها شظايا القذائف وأتربتها، وللسنوار على ما يبدو، حكاية مع الأرائك، لا يفهم معاني التحدي والعناد فيها، سوى الجالسين في غرف العمليات على المقلب الآخر من جبهات الحرب والقتال.
لم أعرفه شخصيًا، ولم ألتقِه مرة، لكن الرجل تمتع مبكرًا بـ”فائض حضور”، يرغمك على متابعته والتعرف عليه، بل ويدفعك إلى إجراء التمارين عمّا يجول في ذهنه، وما تشف عنه نظراته الثاقبة، وحركة جسده النحيل، الذي ضاق بما يعتمل في داخله من مشاريع وأفكار، بعضها كان حتى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ضربًا من الخيال، فإذا بها، طوفان يضرب شواطئ الإقليم جميعها، وتلامس ذيوله شطآن العالَمين القديم والجديد.
هل جال في عقل السنوار، حين خطط مع ثُلة من قادة الميدان، ونفذ ببضعة آلاف من المقاتلين الأشداء، أن الطوفان سيبلغ هذا الحد، وسيتحول إلى “يوم قيامة”، لم تغلق أبوابه بعد؟
سؤال لم يفارقني منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، واشتد عليّ بعد استشهاده، لأنني، وربما من باب “التفكير الرغائبي”، كنت أنتظر أن يروي الرجل حكايته، وأقول تفكيرًا رغائبيًا، لأنني كما الكثرة الكاثرة، كنا نتوقع سماع نبأ استشهاده في أي لحظة، وكنا نتفقد نشرات الأخبار الصباحية المبكرة، للتأكد من أن يومًا إضافيًا قد كتب له من جديد، ولا أدري إن كان الوقت قد أسعفه، وهو يتنقل بين الكمائن والخنادق والأنفاق، لكتابة “شيء ما”.
أظنّ، وليس كلُّ الظن إثمًا، أن الرجل أراد أن يلقي بحجر كبير في مستنقع الركود الآسن، الذي عاشته قضية شعبه، ولِمَ لا يفعل، والأرض تُنتهب لصالح قطعان المستوطنين، والحقوق تُبدد على موائد العجز والتواطؤ والتآمر، وقطار التطبيع جارف، وسجون الغزاة تأكل “زهرة شباب” ألوف الأسرى والمعتقلين، وأولى القبلتين تدنس يوميًا بـ”آثار القدم الهمجية”.
أظنه أراد للطوفان أن يفتح بابًا لوقف مسارات التردي والانهيار، والتأكد من أن قضية شعبه ووطنه، قد بلغت “القعر” الأخير، لتبدأ من بعده، مشوار الصعود والتعافي، لا أحسب أن الرجل خطط وحلم بأكثر من ذلك على أية حال، ولا أحسب أن الحركة برمتها، كانت ترنو لما هو أبعد من “تحريك الراكد” في المشهد الفلسطيني، ووضع المشروع الوطني على سكة الانفلات من أسر أوسلو وقيودها، التي زادها عجز “المقاطعة”، ذلًا واستكانة، والتوطئة لولوج عتبات مرحلة جديدة.
لكن صانع “المفاجأة الإستراتيجية” الأخطر في تاريخ إسرائيل منذ نشأتها، سيُصدم هو نفسه بهول المفاجأة، عندما رأى “الجيش الذي لا يقهر”، يتقهقر أمام طلائع المقاتلين ذوي البأس الشديد، وعندما تهاوت أمام ناظريه، عوالم “الأساطير” و”الخرافات” المُؤَسِسَةِ لهذا الكيان، وعندما تبدّى له، أن هذا “البُعبع”، العاجز عن حماية نفسه، سرعان ما يعود كالطفل الفاسد والأزعر، باكيًا شاكيًا إلى أحضان والديه، عندما يجابَه بأول ضربة على رأسه.
لم تعد المسألة “حجرًا كبيرًا في مستنقع راكد”، فقد بشرّ الغزال بزلزال، والزلزال استنفدَ تدريج “ريختر” حتى نهايته، ومنذ تلك اللحظة، ستدخل فلسطين ودولة الاحتلال والأبارتيد، بل والإقليم برمته، في مرحلة جديدة، لا حدود ولا نهايات مرئية لديناميّاتها، ولا لعلاقات القوة وتوازناتها، وستفضي كل مرحلة منها إلى مرحلة أشد غموضًا وتعقيدًا.
“الحكماء بأثر رجعي”، سارعوا للقول: ألم يكن يتعين على من خطط ونفذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أن يتحسب لكل هذه الآثار والارتدادات؟ .. هؤلاء أنفسهم، لو سألتهم قبل ساعة من الطوفان، عن “سيناريو انهيار الجبهات الإسرائيلية” لسخروا منك وظنوك خَرِفًا، فأنّى لك أن تفكر، مجرد تفكير، بأن إسرائيل يمكن أن تُهزم، ومِمَن؟ من فصيل مُحارَب في قطاع مُحاصَر.
“الحكماء بأثر رجعي” يشهرون الحجة في وجه السنوار وصحبه: ألم يكن يتعين عليكم التفكير بعواقب ردّ فعلٍ إسرائيلي مزلزل، يطاول البشر والشجر والحجر؟.. ومن قال لهؤلاء إن السنوار وحماس والكتائب، لم يأخذوا أمرًا كهذا بعين الاعتبار، وأنهم ما كانوا على استعداد لتقديم التضحيات الجسام لتحقيق هذه الأهداف الجسام.. لكنك حين تسأل هؤلاء، باستثناء المدّعين الزائفين، وهل كنتم أنتم تتوقعون، أن إسرائيل ومن خلفها الغرب كله، ومعها كثرة من العرب، ستخوض معركة “وجود”، وأن الأمر بلغ هذه النقطة الحرجة في التفكير الإسرائيلي والاستعماري، وأنه يعود في جزء منه، إلى انهيارات في جبهة العدو، ما كان أحد ليتخيلها أو يتوقعها، بمن في ذلك كبار العقول والمؤسسات الإستراتيجية والاستشرافية في تل أبيب وعواصم الغرب.
“الحكماء بأثر رجعي” يقذفون في وجه حماس والسنوار بسؤالهم الاستنكاري: ألم تكونوا على دراية من قبل، بمستويات التهالك في الموقف الفلسطيني والتآكل في المواقف العربية، والانحياز الغربي الأعمى لإسرائيل قبل أن تقدموا على “ارتكاب فعلتكم”؟.. والحقيقة، أن أحدًا لم يكن ليراهن على انتقال السلطة من غرف التنسيق الأمني إلى خنادق المقاومة، ولكن الرهان كان قائمًا على “ذرة حياء” تسمح بالتداعي لتوفير شبكة أمان للمقاومة والمشروع الوطني والشعب الفلسطيني: حكومة وفاق وطني من باب أضعف الإيمان.
الرهان لم يكن معقودًا على قيام النظام العربي بحشد الجيوش وفتح الجبهات، بيد أنه لم يكن معدومًا قدرة النظام العربي على إدخال حبة دواء ووجبة غذاء للفلسطيني في القطاع المحاصر والمجوّع.. الرهان ظل قائمًا على أن هذا الغرب، سيظل متمسكًا وإن بورقة التوت لستر عورات انحيازاته وشراكاته في جرائم الحرب والإبادة، قبل أن يتبين لهم ولنا، أن لا قيمة لورقة التوت إن كان مصير “حاملة الطائرات المتقدمة” كله مطروحًا على بساط البحث.
كل هذه الرهانات، بحدودها الدنيا، سقطت دفعة واحدة، ومرد سقوطها أن الطوفان بلغ ضفاف التهديد الوجودي لإسرائيل، ولأن الأخيرة هي نتاج أكبر وأهم استثمار استعماري غربي طيلة المئة عام الفائتة، بدت ككومة قشّ تذروها الريح، فكان إسقاط أوراق التوت تباعًا، أهون “الشرَّين” عند هذه الأطراف، حتى وإن تكشفت عورات السلطة الفلسطينية وبؤس النظام العربي ونفاق ما يسمى بـ”المجتمع الدولي”.
كنّا قبل الطوفان نظن، أن أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” ضرورية لغايات حفظ الهيمنة والتفوق الإسرائيليين في إقليم يُعدُّ لمواجهة تهديدات أخرى، من شرق الشرق، فإذا بنا، بعد الطوفان، نكتشف، أن بقاء هذه الأسطورة وتضخيمها، هي “متطلب مسبق” لحفظ النظام العربي، في مواجهة معارضيه، وأن النصر ممنوع، حين تكون راياته معقودة لقوى وفصائل لطالما أدرجتها حكومات عربية عدة، في صدارة لوائح المُهددات لأمنها واستقرارها، حتى وإن تطلب الأمر، حجب الماء والغذاء عن ملايين الفلسطينيين في القطاع والضفة، وتوجيهه عبر قنوات التجارة وممراتها المتعددة صوب إسرائيل وهي تمارس طغيانها ضد المدنيين والبنى المدنية.
فاضت روح “أبو إبراهيم” إلى بارئها، لكنه ترك بصمات لن تُمحى في ذاكرة الأجيال القادمة، من الفلسطينيين وأعدائهم على حد سواء، فتح أفقًا إستراتيجيًا لن تسدّه أكوام الخرائب والأنقاض في غزة، وضع فلسطين في قلب خريطة العالم وصدارة لوائح أولوياتها، وعلّم القريب والبعيد، أن إسرائيل يمكن أن تهزم، ونبهنا إلى ما نحن فيه من عجز وتقصير وتَلَهٍّ.
فاضت روح السنوار إلى خالقها، وإسرائيل في أرذل حالاتها: كيان منبوذ ومتهم، سقطت عنه جميع الادعاءات الزائفة، وهو يقف عاريًا أمام أجيال من الشباب والشابات في العالم، بوصفه كيانًا يمارس الإبادة والتطهير والتمييز العنصري.
رحل السنوار، وإسرائيل ينتظرها “اليوم التالي” وليس غزة وحدها، فعقارب ساعتها لن تعود إلى الوراء، وما بدأ كانقسامات بين تيارات الفكر والسياسة فيها، تحول بفعل الطوفان، إلى أسئلة الوجود والثقة بالمستقبل والكيان.
ذهب السنوار، لكنّ المقاومين في غزة، لم تهن لهم قناة، ولم تفتّ لهم عزيمة، ورحى المعارك ما زالت تدور، على جبهات عدة، والذين استعجلوا رحيل المقاومة برحيل قادتها، واهمون ومُشتَبِهون، والأيام بيننا.