غزة عقدة المنشار في المنطقة
أسامة أبو ارشيد
التطورات الحاصلة في سورية والمنطقة عموماً، على أهميتها، لا ينبغي أن تشتت انتباهنا عمَّا يجري في قطاع غزّة، فهو المَرْجَلُ الذي تغلي فيه المنطقة، ونقطة الانعطاف التي ترتبت عليها التداعيات الإقليمية الماثلة أمام أعيننا، ونتيجة المعركة فيه هي ما سيقرّر، إلى حد كبير، شكل المنطقة في المستقبل القريب وما يراد بها ولها. وسواء أكان أصحاب قرار إطلاق “طوفان الأقصى” قد أدركوا بداية التداعيات الكبرى التي ستترتّب على قرارهم ذاك، ليس فلسطينياً فحسب، بل إقليمياً وحتى دولياً، أم لا، فإننا اليوم نتعامل مع النتائج والوقائع الجديدة. ومن الأهمية هنا بمكان أن يدرك الجميع أنه ما كان للثورة السورية أن تطيح نظام بشّار الأسد، وما كان لنفوذ إيران في المنطقة أن يتضعضع، لولا الشرارة التي أطلقها قطاع غزّة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023). حتى الانكفاء الروسي في سورية كان لما يجري في قطاع غزّة مساهمة فيه.
ليس ما سبق حكماً قيميّاً لناحية الإيجاب والسلب، بقدر ما هو توصيف، إذ لا يمكن قراءة التداعيات الإقليمية والدولية التي انتظمت على خلفية “الطوفان” ضمن معادلات الأبيض والأسود، مع بقاء مسألة الترجيح القيميِّ أمراً مشروعاً وقائماً. كما أنه يمكن قراءة المشهد وتحليله قيميّاً لناحية الأبيض والأسود على مستويات عدّة، وفي سياقات مختلفة تتفاوت فيها المكاسب والخسائر الاستراتيجية، وكذلك المكاسب والخسائر التكتيكية.
في سياق النشوة المُحِقَّةِ الذي يشعر بها كثيرون جرّاء إطاحة نظام الطاغية الأسد، يتغاضى بعضهم عن أنه في حال غياب رؤية وطنية سورية جامعة، وإرادة سياسية مُسْتَبْصِرَة، وإدراك لدور سورية الإقليمية ومكانتها، والقدرة على الالتزام والإنفاذ، فإن سورية قد تكون مدخلاً، بعد قطاع غزّة، لاختبار مساعي إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، ليس جغرافياً فحسب، بل وحتى ثقافياً وجيوسياسياً. الرغبة في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط ليست مسألة تحليلية، بل هي هدف إسرائيلي – أميركي معلن، مهما حاول بعضهم أن يتجاهلوا الحقائق الدامغة.
تندرج في هذا السياق محاولات الابتزاز الأميركي لفصائل الثورة السورية، وتحديداً هيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد الشرع، القائد الفعلي لسورية اليوم. تساوم واشنطن الهيئة بورقة تصنيفها “كياناً إرهابياً”، وكذلك العقوبات على سورية تحت نظام الأسد، بغرض إخضاعها (الهيئة وبقية فصائل الثورة)، في وقتٍ تبرّر فيه العدوان الإسرائيلي الكبير على القدرات العسكرية السورية واحتلاله مساحات إضافية واسعة في هضبة الجولان. في المقابل، ثمَّة موقف عربي تائه ومشتت وغير فاعل في بعض أجزائه، وآخر متواطئ يعمل لإجهاض أي بصيص أمل لانبعاث سورية حرّة ديمقراطية مدنية قوية، تقوم على مبدأ المواطنة وحماية سيادتها ووحدة أراضيها وسلامتها. وما الاجتماعات العربية والدولية في العقبة، الأسبوع الماضي، لمناقشة مستقبل سورية إلا محاولة لفرض وصاية أو فرض سَطْوٍ على القرار الوطني السوري. المفارقة أن تكون بعض الأطراف العربية التي شاركت في تلك الاجتماعات هي نفسها كانت داعمة نظام الأسد، وأنها وهي تدعو إلى “إنجاز عملية انتقالية وفق قرار مجلس الأمن 2254، تلبي طموحات الشعب السوري.. وتحفظ.. حقوق جميع مواطنيها”، تتناسى عامدةً أنها هي نفسها لا تحترم حقوق شعوبها وطموحاتهم وتطلعاتهم.
ضمن نسقية مساعي تشكيل منطقة الشرق الأوسط، وخطأ القراءات التبسيطية والاختزالية والقيميَّةِ الحَدِيَّةِ، لا ينبغي أن يغيب عن اعتباراتنا أن إضعاف المحور الإيراني، وتحديداً حزب الله، قد أخلَّ بتوازنات المنطقة لصالح إسرائيل. نعم، ساهم ذلك في ضعضعة النفوذ الإيراني في لبنان وسورية، وربما لاحقاً في العراق واليمن، ولكن لا يوجد مشروع عربي قادر على تعبئة الفراغ ومنع إسرائيل من الانسياح فيه، وبالتالي، إيجاد توازنات إقليمية جديدة، حتى لا تعربد إسرائيل من دون رقيب ولا حسيب. يعيدنا هذا إلى قطاع غزة الذي تُرك وحيداً في حمل عبء التصدّي للمشروع الإسرائيلي – الأميركي في المنطقة ككل، وليس ضمن حدوده فحسب. ولو كان هناك محور عربي قوي وفاعل يدرك مصادر التهديد الاستراتيجية للفضاء العربي ككل لما كان قد فرط في دعم وإسناد قطاع غزّة الذي لا يزال صامداً بعد أكثر من 14 شهراً، بشكل ينافي حسابات العقل والمنطق، في وجه حرب إبادة إسرائيلية – أميركية، مدعومة من محور غربيٍّ أوسع. حتى حزب الله، الذي يملك قدرات عسكرية وتسليحية أكبر بكثير من قدرات فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ولديه عمق استراتيجي في لبنان، وكان يتمتع بخطوط إمداد برّية مفتوحة من إيران حتى سقوط نظام الأسد، لم يقدر، لاعتباراتٍ كثيرة ليس هذا مكانها، على الاستمرار في الحرب المفتوحة مع إسرائيل إلا شهرين تقريباً.
إذن، قطاع غزّة عقدة المنشار، ونتيجة العدوان عليه وحجم المقاومة فيه سيحدّدان كثيراً من مخرجات محاولات إعادة تشكيل المنطقة ومساعيها. وبغض النظر عن الموقف من “طوفان الأقصى”، يقول الواقع إنه زلزال رهيب ضرب المنطقة وأحدث تصدّعات هائلة فيها، وأن ارتداداته لمَّا تنتهي بعد، وما جرى في سورية مقدّمة لأحداث إقليمية ودولية أكبر. لكن، هل ثمَّة في العرب من يدرك حراجة الانعطافة التاريخية التي نحن أمامها وحقيقة أن مستقبلنا الجَمعِيِّ مرتبط إلى حد كبير بها؟ للأسف، لا يبدو ذلك، فأغلب الأنظمة العربية مشغولة بإعادة تعريف دورها ضمن الفلك الأميركي – الإسرائيلي الذي لا ينظر إليها نجوماً تدور فيه، بقدر ما هي أدوات تنتظر لحظة استبدالها. حتى ذلك الحين، كان الله في عون غزّة وأهلها، إذ لا يتعرّضون للخذلان الفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني فحسب، بل وكذلك للخيانة وهم يدافعون عن مستقبل العرب الذي يُراد وأده.
أسامة أبو ارشيد
التطورات الحاصلة في سورية والمنطقة عموماً، على أهميتها، لا ينبغي أن تشتت انتباهنا عمَّا يجري في قطاع غزّة، فهو المَرْجَلُ الذي تغلي فيه المنطقة، ونقطة الانعطاف التي ترتبت عليها التداعيات الإقليمية الماثلة أمام أعيننا، ونتيجة المعركة فيه هي ما سيقرّر، إلى حد كبير، شكل المنطقة في المستقبل القريب وما يراد بها ولها. وسواء أكان أصحاب قرار إطلاق “طوفان الأقصى” قد أدركوا بداية التداعيات الكبرى التي ستترتّب على قرارهم ذاك، ليس فلسطينياً فحسب، بل إقليمياً وحتى دولياً، أم لا، فإننا اليوم نتعامل مع النتائج والوقائع الجديدة. ومن الأهمية هنا بمكان أن يدرك الجميع أنه ما كان للثورة السورية أن تطيح نظام بشّار الأسد، وما كان لنفوذ إيران في المنطقة أن يتضعضع، لولا الشرارة التي أطلقها قطاع غزّة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023). حتى الانكفاء الروسي في سورية كان لما يجري في قطاع غزّة مساهمة فيه.
ليس ما سبق حكماً قيميّاً لناحية الإيجاب والسلب، بقدر ما هو توصيف، إذ لا يمكن قراءة التداعيات الإقليمية والدولية التي انتظمت على خلفية “الطوفان” ضمن معادلات الأبيض والأسود، مع بقاء مسألة الترجيح القيميِّ أمراً مشروعاً وقائماً. كما أنه يمكن قراءة المشهد وتحليله قيميّاً لناحية الأبيض والأسود على مستويات عدّة، وفي سياقات مختلفة تتفاوت فيها المكاسب والخسائر الاستراتيجية، وكذلك المكاسب والخسائر التكتيكية.
في سياق النشوة المُحِقَّةِ الذي يشعر بها كثيرون جرّاء إطاحة نظام الطاغية الأسد، يتغاضى بعضهم عن أنه في حال غياب رؤية وطنية سورية جامعة، وإرادة سياسية مُسْتَبْصِرَة، وإدراك لدور سورية الإقليمية ومكانتها، والقدرة على الالتزام والإنفاذ، فإن سورية قد تكون مدخلاً، بعد قطاع غزّة، لاختبار مساعي إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، ليس جغرافياً فحسب، بل وحتى ثقافياً وجيوسياسياً. الرغبة في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط ليست مسألة تحليلية، بل هي هدف إسرائيلي – أميركي معلن، مهما حاول بعضهم أن يتجاهلوا الحقائق الدامغة.
تندرج في هذا السياق محاولات الابتزاز الأميركي لفصائل الثورة السورية، وتحديداً هيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد الشرع، القائد الفعلي لسورية اليوم. تساوم واشنطن الهيئة بورقة تصنيفها “كياناً إرهابياً”، وكذلك العقوبات على سورية تحت نظام الأسد، بغرض إخضاعها (الهيئة وبقية فصائل الثورة)، في وقتٍ تبرّر فيه العدوان الإسرائيلي الكبير على القدرات العسكرية السورية واحتلاله مساحات إضافية واسعة في هضبة الجولان. في المقابل، ثمَّة موقف عربي تائه ومشتت وغير فاعل في بعض أجزائه، وآخر متواطئ يعمل لإجهاض أي بصيص أمل لانبعاث سورية حرّة ديمقراطية مدنية قوية، تقوم على مبدأ المواطنة وحماية سيادتها ووحدة أراضيها وسلامتها. وما الاجتماعات العربية والدولية في العقبة، الأسبوع الماضي، لمناقشة مستقبل سورية إلا محاولة لفرض وصاية أو فرض سَطْوٍ على القرار الوطني السوري. المفارقة أن تكون بعض الأطراف العربية التي شاركت في تلك الاجتماعات هي نفسها كانت داعمة نظام الأسد، وأنها وهي تدعو إلى “إنجاز عملية انتقالية وفق قرار مجلس الأمن 2254، تلبي طموحات الشعب السوري.. وتحفظ.. حقوق جميع مواطنيها”، تتناسى عامدةً أنها هي نفسها لا تحترم حقوق شعوبها وطموحاتهم وتطلعاتهم.
ضمن نسقية مساعي تشكيل منطقة الشرق الأوسط، وخطأ القراءات التبسيطية والاختزالية والقيميَّةِ الحَدِيَّةِ، لا ينبغي أن يغيب عن اعتباراتنا أن إضعاف المحور الإيراني، وتحديداً حزب الله، قد أخلَّ بتوازنات المنطقة لصالح إسرائيل. نعم، ساهم ذلك في ضعضعة النفوذ الإيراني في لبنان وسورية، وربما لاحقاً في العراق واليمن، ولكن لا يوجد مشروع عربي قادر على تعبئة الفراغ ومنع إسرائيل من الانسياح فيه، وبالتالي، إيجاد توازنات إقليمية جديدة، حتى لا تعربد إسرائيل من دون رقيب ولا حسيب. يعيدنا هذا إلى قطاع غزة الذي تُرك وحيداً في حمل عبء التصدّي للمشروع الإسرائيلي – الأميركي في المنطقة ككل، وليس ضمن حدوده فحسب. ولو كان هناك محور عربي قوي وفاعل يدرك مصادر التهديد الاستراتيجية للفضاء العربي ككل لما كان قد فرط في دعم وإسناد قطاع غزّة الذي لا يزال صامداً بعد أكثر من 14 شهراً، بشكل ينافي حسابات العقل والمنطق، في وجه حرب إبادة إسرائيلية – أميركية، مدعومة من محور غربيٍّ أوسع. حتى حزب الله، الذي يملك قدرات عسكرية وتسليحية أكبر بكثير من قدرات فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ولديه عمق استراتيجي في لبنان، وكان يتمتع بخطوط إمداد برّية مفتوحة من إيران حتى سقوط نظام الأسد، لم يقدر، لاعتباراتٍ كثيرة ليس هذا مكانها، على الاستمرار في الحرب المفتوحة مع إسرائيل إلا شهرين تقريباً.
إذن، قطاع غزّة عقدة المنشار، ونتيجة العدوان عليه وحجم المقاومة فيه سيحدّدان كثيراً من مخرجات محاولات إعادة تشكيل المنطقة ومساعيها. وبغض النظر عن الموقف من “طوفان الأقصى”، يقول الواقع إنه زلزال رهيب ضرب المنطقة وأحدث تصدّعات هائلة فيها، وأن ارتداداته لمَّا تنتهي بعد، وما جرى في سورية مقدّمة لأحداث إقليمية ودولية أكبر. لكن، هل ثمَّة في العرب من يدرك حراجة الانعطافة التاريخية التي نحن أمامها وحقيقة أن مستقبلنا الجَمعِيِّ مرتبط إلى حد كبير بها؟ للأسف، لا يبدو ذلك، فأغلب الأنظمة العربية مشغولة بإعادة تعريف دورها ضمن الفلك الأميركي – الإسرائيلي الذي لا ينظر إليها نجوماً تدور فيه، بقدر ما هي أدوات تنتظر لحظة استبدالها. حتى ذلك الحين، كان الله في عون غزّة وأهلها، إذ لا يتعرّضون للخذلان الفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني فحسب، بل وكذلك للخيانة وهم يدافعون عن مستقبل العرب الذي يُراد وأده.