توفيق كنعان طبيب وباحث فلسطيني أتقن ست لغات
الجزيرة نت
توفيق كنعان (1882-1964) من أبرز الباحثين الإثنوغرافيين في الفلكلور الفلسطيني، طبيب وناشط سياسي من فلسطين، له العديد من الأبحاث والكتب باللغة العربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية في الطب وفي الفلكلور الفلسطيني.
المولد والنشأة
ولد توفيق كنعان في بلدة بيت جالا، في 24 سبتمبر/أيلول 1882 زمن الدولة العثمانية لعائلة مسيحية ثرية تنتمي للمذهب اللوثري.
كان والده بشارة كنعان أول قس عربي للبعثة الألمانية البروتستانتية في فلسطين، وأسس أول كنيسة لوثرية ومدرسة مختلطة في بيت جالا.
أما والدته كاترينا فقد نشأت في دار أيتام ألمانية في العاصمة اللبنانية بيروت والتقت بشارة أثناء عملها بمستشفى في القدس.
زوجته السيدة مارغوت أيلندر، وهي من أصل ألماني، وكان والدها مستوردًا ألمانيًا وُلدت ونشأت في فلسطين.
وُلد لتوفيق وكاترينا 4 أبناء هم يَسْمى وثيو وندى وليلى.
الدراسة والتكوين
أكمل تعليمه الابتدائي في بيت جالا، وانتقل إلى مدرسة "شنللر" الألمانية في القدس، وهي مدرسة أسسها المبشرون الألمان، وفيها أنهى تعليمه الثانوي.
سافر سنة 1899 إلى بيروت لدراسة الطب في الكلية الإنجيلية السورية، التي سميت فيما بعد الجامعة الأميركية في بيروت.
توفي والده بُعيد وصوله إلى بيروت فاضطر أن يجمع بين الدراسة والعمل، إلى أن تخرّج طبيبا بامتياز في عام 1905، وكُلّف بإلقاء خطبة التخرّج التي نشرت في مجلة "المقتطف" اللبنانية.
عاد بعدها مباشرة إلى فلسطين، وكان خطابه الوداعي "العلاج الحديث" على الأرجح أول مقالة منشورة له، وتناول استخدام الأمصال وأعضاء الحيوانات والأشعة السينية.
كان في الفترة من 1906 إلى 1910 يجري اختبارات في علم الجراثيم والفحوص المجهرية، ونَشر نتائجها في أول مقال طبي أساسي له سنة 1911 في مجلة "الكلية" الصادرة عن الكلية الإنجيلية السورية.
وكان ذلك، فيما بعد، مجال تخصصه، وتابع في مدينة هامبورغ بألمانيا دراسة أمراض المناطق الحارة وعلم الجراثيم في الفترة ما بين 1912 ومنتصف 1914، وفي برلين لاحقا سنة 1922، ثم عاد إلى القدس لمتابعة أبحاثه ومزاولة عمله.
أتقن كنعان 6 لغات، وهي الألمانية والإنجليزية والفرنسية والتركية إضافة إلى العربية، فأتاح له ذلك أن يوسّع معارفه النظرية، وأن يكتب مقالاته في صحف بريطانية وألمانية وفرنسية.
التجربة الوظيفية
عمل كنعان بعد تخرّجه بمستشفيات عدّة في القدس، بدءا من المستشفى الألماني (الشماسات الألمانيات) ثم المستشفى الإنجليزي وفي مستشفى "شعاريه تسيدِك" اليهودي الألماني.
كانت أول مقالة طبية منشورة له عندما كان طبيبا ممارسا هي "التهاب السحايا الدماغية الشوكية في القدس" (1911)، وكانت مبنية على دراسات أجراها مع مدير مستشفى "شعاريه تسيدِك".
وفي سنة 1910 أصبح الطبيب المسؤول عن عيادة تابعة لبلدية القدس. وعُيّن سنة 1913 مديرا لفرع مكافحة الملاريا في القدس في مركز "مويهلن" العالمي للأبحاث الطبية والفحوص المجهرية لتحسين الأوضاع الصحية في فلسطين، كما افتتح عيادته الخاصة في بيته الذي بناه في حي المصرارة بالقدس، وكانت العيادة العربية الأولى والوحيدة فيها حينذاك.
ألحقته الدولة العثمانية طبيبا بجيشها بعد دخولها الحرب العالمية الأولى في أواخر 1914، بصفته مواطنا من الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تدير فلسطين في ذلك الوقت.
تم تجنيد كنعان ضابطا في الجيش العثماني، وعُيّن في البداية طبيبا بفرقة في الناصرة، ثم نُقل في العام نفسه إلى عوجا الحفير، فعمل خلال فترة الحرب في أوضاع صعبة بأنحاء مختلفة من فلسطين وعلى جبهة سيناء وفي عمّان ودمشق وحلب، وأصيب بالكوليرا والتيفوئيد.
كان كنعان يعتبر مرضه غير قابل للشفاء في ذلك الوقت، وساهم في الأبحاث في مجالات علم الجراثيم والفحص المجهري، مما أدى إلى اكتشاف علاج باستخدام زيت شالموغرا.
كان مسؤولا كذلك أثناء سنوات الحرب عن إدارة المختبرات الطبية العثمانية في فلسطين ودمشق وحلب.
بعد انتهاء الحرب تسلّم كنعان في سنة 1919 إدارة مستشفى الجُذام "مشفى هانسن" (وهو المستشفى الوحيد للجذام في سوريا وفلسطين وشرق الأردن) بالطالبية، والذي أنشأته الجالية البروتستانتية الألمانية في القدس سنة 1885.
وواصل العمل فيه حتى نهاية عهد الانتداب، وشارك في الأبحاث والفحوص المجهرية التي أدّت إلى معالجة هذا المرض وتحقيق الشفاء منه في حالات كثيرة. وفي سنة 1924 تمّ تعيينه رئيسا لدائرة الأمراض الباطنية في المستشفى الألماني بالقدس بعد إعادة افتتاحه وبقي فيه حتى سنة 1940.
ساهم كنعان سنة 1944 في تأسيس الجمعية الطبية العربية لفلسطين، وانتخب رئيسا لها، وكان عضوا مدة 7 سنوات في هيئة تحرير المجلة الصادرة عنها باللغتين العربية والإنجليزية، وكان لهذه الجمعية دور كبير في توفير الخدمات الطبية للمجاهدين.
وعُيّن في سنة 1949 رئيسا للدائرة الصحية للاتحاد اللوثري العالمي في الأردن، وبجهود منه أنشأ الاتحاد عددا من العيادات في القدس وبيت جالا والخليل، وفي قريتي الطيبة والعيزرية. وفي سنة 1950، وبجهد من كنعان وبالتعاون مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والاتحاد اللوثري، أُسس مستشفى أوغستا فيكتوريا (المطلع) على جبل الطور وعُيّن مديرا طبّيا له حتى تقاعده سنة 1955.
التجربة السياسية
عرف كنعان لدى سلطات الانتداب البريطاني بنضاله السياسي، إذ إنه طالما أعلن معارضته للسياسة البريطانية والصهيونية، وفَتْح باب الهجرة أمام اليهود، وهو ما حدا بسلطة الانتداب إلى اعتقاله يوم الثالث من سبتمبر/أيلول 1939، يوم إعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا، وأودع سجن عكا 9 أسابيع، غير أن ذلك لم يمنعه من مواصلة تصدّيه لتلك السياسات وللحركة الصهيونية في محاضراته ومؤلفاته.
دراسة التراث الشعبي الفلسطيني
نشط كنعان في دراسة التراث الشعبي الفلسطيني، وترأس سنة 1927 جمعية فلسطين الشرقية، كما رأس تحرير مجلتها. وكان عضوا في المدارس الأميركية للأبحاث الشرقية، ونشر عدة مقالات فيها.
وإضافة إلى ذلك، كان كنعان رئيسا لجمعية الشبان المسيحية في القدس، وانتخب 3 دورات رئيسا لها، وبعد تقاعده عين رئيسا فخريا لها مدى الحياة.
كان كنعان من روّاد الباحثين الفلسطينيين العرب في الشؤون التاريخية والفلكلورية والإثنوغرافية للفلسطينيين بصفتهم الوطنية، وليس بوصفهم طوائف دينية مختلفة تسكن أرض فلسطين.
نُشر كتاب "القضية العربية الفلسطينية" باللغات الإنجليزية والعربية والفرنسية، وهو كتيب من 48 صفحة جمع سلسلة من المقالات التي كتبها كنعان للصحافة المحلية والأجنبية في أعقاب اندلاع الثورة العربية عام 1936.
وصف كنعان السياسة البريطانية في فلسطين بأنها "حملة مدمرة ضد العرب بهدف إبادتهم من بلادهم في نهاية المطاف". كما تساءل عن قوانين الجنسية التي سنتها السلطات الانتدابية، والتي منعت المهاجرين الفلسطينيين في الأميركتين، الذين كانوا مواطنين في الإمبراطورية العثمانية، من الحصول على الجنسية الفلسطينية في فلسطين الانتدابية.
ولأن هذه الكتابات كانت موجهة للتأثير على الرأي العام البريطاني، فقد اعتبرتها السلطات الانتدابية تخريبية.
وفي مقالته "النور والظلمة في الفلكلور بفلسطين" (1931)، التي كتبها باللغة الإنجليزية، يقتبس من الكتاب المقدس كما من القرآن الكريم، ويعود إلى الأدب العربي الكلاسيكي وإلى التعابير والمصطلحات العربية.
وبهذا نجح في إثبات جوانب الاستمرارية الثقافية للفلسطينيين العرب من أقدم الأزمنة حتى الزمن الحاضر. وقد ظلت مؤلفاته أساسية لأي باحث في حقل علم الأعراق البشرية (الإثنوغرافيا) في منطقة الشرق الأدنى.
وعى توفيق كنعان مبكرا أهمية التراث في ترسيخ الهوية الوطنية للفلسطينيين، فدعا إلى إجراء مسح شامل له قبل أن يضيع، وهذا ما دفعه منذ سنة 1905 إلى جمع مقتنيات ترتبط بالمعتقدات الشعبية وتوثيقها والكتابة عنها، فتجمّعت لديه 1400 قطعة منها تعود أقدمها إلى عام 1912 وأحدثها إلى عام 1947.
وكان يثبتها على ألواح كرتونية ويكتب إلى جوار كلّ منها ملاحظاته الأوّلية التي تتضمّن اسمها بالعربية وما يقابله بالأحرف اللاتينية، وسنة اقتنائها ومصدرها وكيفية حصوله عليها، وسعرها إذا كانت مشتراة، ثم منحتها عائلته إلى جامعة بيرزيت، بعد أن نجح في إنقاذها مما تعرّض له بيته لاحقا، إذ إنه في أوائل شهر مايو/أيار 1948 أصيب منزله في القدس إصابة مباشرة بقذائف الهاون الصادرة من الأحياء اليهودية الغربية.
فلجأت العائلة إلى دير الروم الأُرثوذكس في الجانب الشرقي من القدس حيث وفّر لها البطريرك غرفة أمضت فيها عامين ونصف العام. وكان كنعان يراقب عبر سور المدينة كيف تنهب الحركات الصهيونية المسلحة محتويات منزله الثمينة ومكتبته الغنية، وقد ضاعت معها 3 مخطوطات له كانت معدّة للنشر، قبل أن يحرق المعتدون المنزل بكامله.
حاضر وكتب عن القضية العربية الفلسطينية، خصوصا في ثلاثينيات القرن العشرين، حين تبيّنت له أخطار الهجرة اليهودية إلى فلسطين ودعا إلى إيقافها فورا وبشكل كامل، وضمان الحدّ الأدنى من الأرض للمزارعين العرب، وعدم نزع ملكيتها.
كان توفيق كنعان سفيرا ثقافيا لبلاده؛ عرّف القارئ الغربي والعربي بالعادات والتقاليد الفلسطينية، وبقضية العرب الفلسطينيين في وطنهم على حدّ سواء.
مقالات ومؤلفات
نشر كنعان ما يزيد عن 60 مقالة علمية في الدوريات الطبية الأوروبية باللغتين الألمانية والإنجليزية، ولم تقتصر مؤلفاته على العلوم الطبية، فقد كتب 45 مقالة تقريبا في التراث الشعبي (الفلكلور) المرتبط بالمعتقدات الغيبية والطب الشعبي، خاصة عند الفلاحين، ونشر ما يزيد عن 30 منها في السنوات ما بين 1920 و1938 في مجلة جمعية فلسطين الشرقية.
وله مؤلفان في السياسة هما:
كتاب القضية العربية الفلسطينية.
كتاب الصراع في أرض السلام.
أما مؤلفاته في الطب فأبرزها:
العلاج الحديث.
التهابات السحايا الدماغية في القدس.
كتاب ملاحظات حول وباء حمى الضنك في القدس.
الحبة الشرقية: دراسة وبائية في فلسطين.
علم الأوبئة في فلسطين.
دراسات طبوغرافية في داء الليشمانيات في فلسطين.
الطفيليات المعوية في فلسطين.
أما كتاب "الأولياء والمزارات الإسلامية في فلسطين"، الذي صدر باللغة الإنجليزية سنة 1927، فهو مسح شامل للأولياء والمقامات الإسلامية في فلسطين، بعد بحث ميداني وأثري وتاريخي ولغوي وديني.
ويعتبر كثيرون هذا الكتاب مرجعا معياريا للدراسة عن هذا الموضوع، إذ يلقي الضوء على المناطق المعتمة في الذهن الشعبي، ويوفر إمكانية للمقارنة مع عادات وطقوس الأزمان السابقة.
ولتأليف الكتاب زار الباحث 235 موقعا و348 مزارا توفرت لديه مادة ومعلومات عنها من خلال المشاركة في الاحتفالات والطقوس المتعلقة بهذه المزارات، كما جمع الأذكار والحكايات والأشعار والأمثال التي تحدثت عن الأولياء والأشعار التي يغنيها الناس تكريما للأولياء.
وفي كتابه المهم "قضية عرب فلسطين" الذي صدر أولا بالإنجليزية وترجمه إلى العربية الكاتب المصري سلامة موسى عام 1963، وصف كنعان أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين، وكيف تعرّب الفلسطينيون سريعا وعلى نحو بنيوي شامل، فولدت هويتهم العربية الإسلامية وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية) دون أن تخسر هذه الهوية عناصرها التكوينية الأولى (الكنعانية والآرامية والهيلينية، وسواها).
ظلّ توفيق كنعان مواصلا نشاطه العلمي حتى أواخر أيام حياته على الرغم من اعتلال صحته، فقد نشر عدة مقالات في العام السابق لوفاته، بل إن مقالته الأخيرة "الجريمة في تقاليد وعادات عرب الأردن" نشرت بالألمانية بعيد وفاته.
الأوسمة التي حصل عليها
نال توفيق كنعان تقديرا كبيرا في حياته، سواء في بلاده أو خارجها. وقد مُنح 8 أوسمة يُعرف منها:
وسام الهلال الأحمر (أثناء الحرب العالمية الأولى).
وسام الصليب الحديدي (أثناء الحرب العالمية الأولى).
وسام صليب القبر المقدس.
وسام الشريط الأحمر، وقلّده إياه بطريرك الروم الأُرثوذكس سنة 1951.
وسام صليب الاستحقاق الاتحادي من جمهورية ألمانيا الاتحادية سنة 1951.
في بُقعة هادئة من حي الطالبية غربي مدينة القدس، بنى الدكتور بشارة كنعان في الثلاثينيات من القرن العشرين بناية من طابقين على النمط الشرقي، استخدمت حتى عام 1937 مقرا ومدرسة لراهبات الأفريا (شارع الحريري حاليا)، وفي عام 1938 حوّل الدكتور كنعان المبنى إلى فندق أسماه "ياسمين هاوس" وضمّ 27 غرفة.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 أوقفت السلطات البريطانية جميع المواطنين أصحاب الجنسيات الألمانية، ومن ضمنهم كانت ياسمين كنعان فاضطرت لنقل ملكية البيت إلى يهودي يدعى غوستاف كلاين، ويقال إن وفد الأمم المتحدة الذي تم إرساله لبحث إمكانية تقسيم فلسطين كان قد اجتمع في فندق الياسمين.
عام 1945 استعاد الفلسطيني جورج حداد ملكية الفندق وبعد النكبة تحول إلى بناية متعددة الشقق تسكنها عائلات إسرائيلية.
وفاته
توفي توفيق بشارة كنعان عام 1964، في جبل الطور بالقدس، وكان عمره 84 سنة.
ودفن في المقبرة اللوثرية في بيت لحم، بمحاذاة شارع القدس-الخليل.
الجزيرة نت
توفيق كنعان (1882-1964) من أبرز الباحثين الإثنوغرافيين في الفلكلور الفلسطيني، طبيب وناشط سياسي من فلسطين، له العديد من الأبحاث والكتب باللغة العربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية في الطب وفي الفلكلور الفلسطيني.
المولد والنشأة
ولد توفيق كنعان في بلدة بيت جالا، في 24 سبتمبر/أيلول 1882 زمن الدولة العثمانية لعائلة مسيحية ثرية تنتمي للمذهب اللوثري.
كان والده بشارة كنعان أول قس عربي للبعثة الألمانية البروتستانتية في فلسطين، وأسس أول كنيسة لوثرية ومدرسة مختلطة في بيت جالا.
أما والدته كاترينا فقد نشأت في دار أيتام ألمانية في العاصمة اللبنانية بيروت والتقت بشارة أثناء عملها بمستشفى في القدس.
زوجته السيدة مارغوت أيلندر، وهي من أصل ألماني، وكان والدها مستوردًا ألمانيًا وُلدت ونشأت في فلسطين.
وُلد لتوفيق وكاترينا 4 أبناء هم يَسْمى وثيو وندى وليلى.
الدراسة والتكوين
أكمل تعليمه الابتدائي في بيت جالا، وانتقل إلى مدرسة "شنللر" الألمانية في القدس، وهي مدرسة أسسها المبشرون الألمان، وفيها أنهى تعليمه الثانوي.
سافر سنة 1899 إلى بيروت لدراسة الطب في الكلية الإنجيلية السورية، التي سميت فيما بعد الجامعة الأميركية في بيروت.
توفي والده بُعيد وصوله إلى بيروت فاضطر أن يجمع بين الدراسة والعمل، إلى أن تخرّج طبيبا بامتياز في عام 1905، وكُلّف بإلقاء خطبة التخرّج التي نشرت في مجلة "المقتطف" اللبنانية.
عاد بعدها مباشرة إلى فلسطين، وكان خطابه الوداعي "العلاج الحديث" على الأرجح أول مقالة منشورة له، وتناول استخدام الأمصال وأعضاء الحيوانات والأشعة السينية.
كان في الفترة من 1906 إلى 1910 يجري اختبارات في علم الجراثيم والفحوص المجهرية، ونَشر نتائجها في أول مقال طبي أساسي له سنة 1911 في مجلة "الكلية" الصادرة عن الكلية الإنجيلية السورية.
وكان ذلك، فيما بعد، مجال تخصصه، وتابع في مدينة هامبورغ بألمانيا دراسة أمراض المناطق الحارة وعلم الجراثيم في الفترة ما بين 1912 ومنتصف 1914، وفي برلين لاحقا سنة 1922، ثم عاد إلى القدس لمتابعة أبحاثه ومزاولة عمله.
أتقن كنعان 6 لغات، وهي الألمانية والإنجليزية والفرنسية والتركية إضافة إلى العربية، فأتاح له ذلك أن يوسّع معارفه النظرية، وأن يكتب مقالاته في صحف بريطانية وألمانية وفرنسية.
التجربة الوظيفية
عمل كنعان بعد تخرّجه بمستشفيات عدّة في القدس، بدءا من المستشفى الألماني (الشماسات الألمانيات) ثم المستشفى الإنجليزي وفي مستشفى "شعاريه تسيدِك" اليهودي الألماني.
كانت أول مقالة طبية منشورة له عندما كان طبيبا ممارسا هي "التهاب السحايا الدماغية الشوكية في القدس" (1911)، وكانت مبنية على دراسات أجراها مع مدير مستشفى "شعاريه تسيدِك".
وفي سنة 1910 أصبح الطبيب المسؤول عن عيادة تابعة لبلدية القدس. وعُيّن سنة 1913 مديرا لفرع مكافحة الملاريا في القدس في مركز "مويهلن" العالمي للأبحاث الطبية والفحوص المجهرية لتحسين الأوضاع الصحية في فلسطين، كما افتتح عيادته الخاصة في بيته الذي بناه في حي المصرارة بالقدس، وكانت العيادة العربية الأولى والوحيدة فيها حينذاك.
ألحقته الدولة العثمانية طبيبا بجيشها بعد دخولها الحرب العالمية الأولى في أواخر 1914، بصفته مواطنا من الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تدير فلسطين في ذلك الوقت.
تم تجنيد كنعان ضابطا في الجيش العثماني، وعُيّن في البداية طبيبا بفرقة في الناصرة، ثم نُقل في العام نفسه إلى عوجا الحفير، فعمل خلال فترة الحرب في أوضاع صعبة بأنحاء مختلفة من فلسطين وعلى جبهة سيناء وفي عمّان ودمشق وحلب، وأصيب بالكوليرا والتيفوئيد.
كان كنعان يعتبر مرضه غير قابل للشفاء في ذلك الوقت، وساهم في الأبحاث في مجالات علم الجراثيم والفحص المجهري، مما أدى إلى اكتشاف علاج باستخدام زيت شالموغرا.
كان مسؤولا كذلك أثناء سنوات الحرب عن إدارة المختبرات الطبية العثمانية في فلسطين ودمشق وحلب.
بعد انتهاء الحرب تسلّم كنعان في سنة 1919 إدارة مستشفى الجُذام "مشفى هانسن" (وهو المستشفى الوحيد للجذام في سوريا وفلسطين وشرق الأردن) بالطالبية، والذي أنشأته الجالية البروتستانتية الألمانية في القدس سنة 1885.
وواصل العمل فيه حتى نهاية عهد الانتداب، وشارك في الأبحاث والفحوص المجهرية التي أدّت إلى معالجة هذا المرض وتحقيق الشفاء منه في حالات كثيرة. وفي سنة 1924 تمّ تعيينه رئيسا لدائرة الأمراض الباطنية في المستشفى الألماني بالقدس بعد إعادة افتتاحه وبقي فيه حتى سنة 1940.
ساهم كنعان سنة 1944 في تأسيس الجمعية الطبية العربية لفلسطين، وانتخب رئيسا لها، وكان عضوا مدة 7 سنوات في هيئة تحرير المجلة الصادرة عنها باللغتين العربية والإنجليزية، وكان لهذه الجمعية دور كبير في توفير الخدمات الطبية للمجاهدين.
وعُيّن في سنة 1949 رئيسا للدائرة الصحية للاتحاد اللوثري العالمي في الأردن، وبجهود منه أنشأ الاتحاد عددا من العيادات في القدس وبيت جالا والخليل، وفي قريتي الطيبة والعيزرية. وفي سنة 1950، وبجهد من كنعان وبالتعاون مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والاتحاد اللوثري، أُسس مستشفى أوغستا فيكتوريا (المطلع) على جبل الطور وعُيّن مديرا طبّيا له حتى تقاعده سنة 1955.
التجربة السياسية
عرف كنعان لدى سلطات الانتداب البريطاني بنضاله السياسي، إذ إنه طالما أعلن معارضته للسياسة البريطانية والصهيونية، وفَتْح باب الهجرة أمام اليهود، وهو ما حدا بسلطة الانتداب إلى اعتقاله يوم الثالث من سبتمبر/أيلول 1939، يوم إعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا، وأودع سجن عكا 9 أسابيع، غير أن ذلك لم يمنعه من مواصلة تصدّيه لتلك السياسات وللحركة الصهيونية في محاضراته ومؤلفاته.
دراسة التراث الشعبي الفلسطيني
نشط كنعان في دراسة التراث الشعبي الفلسطيني، وترأس سنة 1927 جمعية فلسطين الشرقية، كما رأس تحرير مجلتها. وكان عضوا في المدارس الأميركية للأبحاث الشرقية، ونشر عدة مقالات فيها.
وإضافة إلى ذلك، كان كنعان رئيسا لجمعية الشبان المسيحية في القدس، وانتخب 3 دورات رئيسا لها، وبعد تقاعده عين رئيسا فخريا لها مدى الحياة.
كان كنعان من روّاد الباحثين الفلسطينيين العرب في الشؤون التاريخية والفلكلورية والإثنوغرافية للفلسطينيين بصفتهم الوطنية، وليس بوصفهم طوائف دينية مختلفة تسكن أرض فلسطين.
نُشر كتاب "القضية العربية الفلسطينية" باللغات الإنجليزية والعربية والفرنسية، وهو كتيب من 48 صفحة جمع سلسلة من المقالات التي كتبها كنعان للصحافة المحلية والأجنبية في أعقاب اندلاع الثورة العربية عام 1936.
وصف كنعان السياسة البريطانية في فلسطين بأنها "حملة مدمرة ضد العرب بهدف إبادتهم من بلادهم في نهاية المطاف". كما تساءل عن قوانين الجنسية التي سنتها السلطات الانتدابية، والتي منعت المهاجرين الفلسطينيين في الأميركتين، الذين كانوا مواطنين في الإمبراطورية العثمانية، من الحصول على الجنسية الفلسطينية في فلسطين الانتدابية.
ولأن هذه الكتابات كانت موجهة للتأثير على الرأي العام البريطاني، فقد اعتبرتها السلطات الانتدابية تخريبية.
وفي مقالته "النور والظلمة في الفلكلور بفلسطين" (1931)، التي كتبها باللغة الإنجليزية، يقتبس من الكتاب المقدس كما من القرآن الكريم، ويعود إلى الأدب العربي الكلاسيكي وإلى التعابير والمصطلحات العربية.
وبهذا نجح في إثبات جوانب الاستمرارية الثقافية للفلسطينيين العرب من أقدم الأزمنة حتى الزمن الحاضر. وقد ظلت مؤلفاته أساسية لأي باحث في حقل علم الأعراق البشرية (الإثنوغرافيا) في منطقة الشرق الأدنى.
وعى توفيق كنعان مبكرا أهمية التراث في ترسيخ الهوية الوطنية للفلسطينيين، فدعا إلى إجراء مسح شامل له قبل أن يضيع، وهذا ما دفعه منذ سنة 1905 إلى جمع مقتنيات ترتبط بالمعتقدات الشعبية وتوثيقها والكتابة عنها، فتجمّعت لديه 1400 قطعة منها تعود أقدمها إلى عام 1912 وأحدثها إلى عام 1947.
وكان يثبتها على ألواح كرتونية ويكتب إلى جوار كلّ منها ملاحظاته الأوّلية التي تتضمّن اسمها بالعربية وما يقابله بالأحرف اللاتينية، وسنة اقتنائها ومصدرها وكيفية حصوله عليها، وسعرها إذا كانت مشتراة، ثم منحتها عائلته إلى جامعة بيرزيت، بعد أن نجح في إنقاذها مما تعرّض له بيته لاحقا، إذ إنه في أوائل شهر مايو/أيار 1948 أصيب منزله في القدس إصابة مباشرة بقذائف الهاون الصادرة من الأحياء اليهودية الغربية.
فلجأت العائلة إلى دير الروم الأُرثوذكس في الجانب الشرقي من القدس حيث وفّر لها البطريرك غرفة أمضت فيها عامين ونصف العام. وكان كنعان يراقب عبر سور المدينة كيف تنهب الحركات الصهيونية المسلحة محتويات منزله الثمينة ومكتبته الغنية، وقد ضاعت معها 3 مخطوطات له كانت معدّة للنشر، قبل أن يحرق المعتدون المنزل بكامله.
حاضر وكتب عن القضية العربية الفلسطينية، خصوصا في ثلاثينيات القرن العشرين، حين تبيّنت له أخطار الهجرة اليهودية إلى فلسطين ودعا إلى إيقافها فورا وبشكل كامل، وضمان الحدّ الأدنى من الأرض للمزارعين العرب، وعدم نزع ملكيتها.
كان توفيق كنعان سفيرا ثقافيا لبلاده؛ عرّف القارئ الغربي والعربي بالعادات والتقاليد الفلسطينية، وبقضية العرب الفلسطينيين في وطنهم على حدّ سواء.
مقالات ومؤلفات
نشر كنعان ما يزيد عن 60 مقالة علمية في الدوريات الطبية الأوروبية باللغتين الألمانية والإنجليزية، ولم تقتصر مؤلفاته على العلوم الطبية، فقد كتب 45 مقالة تقريبا في التراث الشعبي (الفلكلور) المرتبط بالمعتقدات الغيبية والطب الشعبي، خاصة عند الفلاحين، ونشر ما يزيد عن 30 منها في السنوات ما بين 1920 و1938 في مجلة جمعية فلسطين الشرقية.
وله مؤلفان في السياسة هما:
كتاب القضية العربية الفلسطينية.
كتاب الصراع في أرض السلام.
أما مؤلفاته في الطب فأبرزها:
العلاج الحديث.
التهابات السحايا الدماغية في القدس.
كتاب ملاحظات حول وباء حمى الضنك في القدس.
الحبة الشرقية: دراسة وبائية في فلسطين.
علم الأوبئة في فلسطين.
دراسات طبوغرافية في داء الليشمانيات في فلسطين.
الطفيليات المعوية في فلسطين.
أما كتاب "الأولياء والمزارات الإسلامية في فلسطين"، الذي صدر باللغة الإنجليزية سنة 1927، فهو مسح شامل للأولياء والمقامات الإسلامية في فلسطين، بعد بحث ميداني وأثري وتاريخي ولغوي وديني.
ويعتبر كثيرون هذا الكتاب مرجعا معياريا للدراسة عن هذا الموضوع، إذ يلقي الضوء على المناطق المعتمة في الذهن الشعبي، ويوفر إمكانية للمقارنة مع عادات وطقوس الأزمان السابقة.
ولتأليف الكتاب زار الباحث 235 موقعا و348 مزارا توفرت لديه مادة ومعلومات عنها من خلال المشاركة في الاحتفالات والطقوس المتعلقة بهذه المزارات، كما جمع الأذكار والحكايات والأشعار والأمثال التي تحدثت عن الأولياء والأشعار التي يغنيها الناس تكريما للأولياء.
وفي كتابه المهم "قضية عرب فلسطين" الذي صدر أولا بالإنجليزية وترجمه إلى العربية الكاتب المصري سلامة موسى عام 1963، وصف كنعان أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين، وكيف تعرّب الفلسطينيون سريعا وعلى نحو بنيوي شامل، فولدت هويتهم العربية الإسلامية وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية) دون أن تخسر هذه الهوية عناصرها التكوينية الأولى (الكنعانية والآرامية والهيلينية، وسواها).
ظلّ توفيق كنعان مواصلا نشاطه العلمي حتى أواخر أيام حياته على الرغم من اعتلال صحته، فقد نشر عدة مقالات في العام السابق لوفاته، بل إن مقالته الأخيرة "الجريمة في تقاليد وعادات عرب الأردن" نشرت بالألمانية بعيد وفاته.
الأوسمة التي حصل عليها
نال توفيق كنعان تقديرا كبيرا في حياته، سواء في بلاده أو خارجها. وقد مُنح 8 أوسمة يُعرف منها:
وسام الهلال الأحمر (أثناء الحرب العالمية الأولى).
وسام الصليب الحديدي (أثناء الحرب العالمية الأولى).
وسام صليب القبر المقدس.
وسام الشريط الأحمر، وقلّده إياه بطريرك الروم الأُرثوذكس سنة 1951.
وسام صليب الاستحقاق الاتحادي من جمهورية ألمانيا الاتحادية سنة 1951.
في بُقعة هادئة من حي الطالبية غربي مدينة القدس، بنى الدكتور بشارة كنعان في الثلاثينيات من القرن العشرين بناية من طابقين على النمط الشرقي، استخدمت حتى عام 1937 مقرا ومدرسة لراهبات الأفريا (شارع الحريري حاليا)، وفي عام 1938 حوّل الدكتور كنعان المبنى إلى فندق أسماه "ياسمين هاوس" وضمّ 27 غرفة.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 أوقفت السلطات البريطانية جميع المواطنين أصحاب الجنسيات الألمانية، ومن ضمنهم كانت ياسمين كنعان فاضطرت لنقل ملكية البيت إلى يهودي يدعى غوستاف كلاين، ويقال إن وفد الأمم المتحدة الذي تم إرساله لبحث إمكانية تقسيم فلسطين كان قد اجتمع في فندق الياسمين.
عام 1945 استعاد الفلسطيني جورج حداد ملكية الفندق وبعد النكبة تحول إلى بناية متعددة الشقق تسكنها عائلات إسرائيلية.
وفاته
توفي توفيق بشارة كنعان عام 1964، في جبل الطور بالقدس، وكان عمره 84 سنة.
ودفن في المقبرة اللوثرية في بيت لحم، بمحاذاة شارع القدس-الخليل.