وفي درس نظري مع أحد أساتذة الكلية، والأستاذ يقف عند الجواب على سؤال أحد الطلبة.
كيف يحتكم الطبيب إلى إنسانيته في لحظة يقتل فيها الناس جملة والأطفال خاصة؟
يرد الأستاذ الطبيب: أحيانا لا مجال لصوت الإنسانية خاصة حينما تكثر الحالات المصابة ...؟!
لم يستصغ عصام مثل هذا الجواب، وسؤال يتردد بداخله، كيف تغيب إنسانية الإنسان في أي لحظة ... بل كيف تغيب إنسانية الطبيب؟!!!
انتهت الحصة ولازال السؤال والجواب يصطدمان في ذهن عصام وكأنه يقول ويردد بداخله: ما اخترت هذه المهنة إلا بباعث إنساني ... شفقة بداخلي تجعلني أكره ألم الناس، فكيف بي أقبل بألم الأطفال؟؟؟
كان هذا السؤال الملح ما جعله يختار تخصص طب الأطفال دون تردد، وخلال سنوات الدراسة وأثناء التدريب داخل مجموعة من المستشفيات قرر عصام مساعدة كل الأطفال الذين يصادفهم أو يقصدونه دون مقابل، خاصة من كانت ظروفهم قاسية ولا يملكون المال للعلاج.
انتهت سنوات الدراسة، واليوم يحتفل عصام مع زملائه بحفل التخرج، اختير من بين أصدقائه ليعمل في أحد أكبر المستشفيات المعروفة لأنه حصل على الرتبة الأولى. كان سعيدا بهذا الاختيار ولأن الحاجة ملحة إليه بعدما أظهر نبوغه وقدراته الفائقة، لم تمضي إلا أيام حتى التحق بهذه المستشفى، كان معظم زوارها من الطبقة الراقية الميسورة الحال، لأن قوانينها تقضي بمقابل مادي للعلاج لا يقدر عليه الفقراء، وداخل المستشفى هناك خدمات خاصة تليق بهذه الطبقة من أبناء الأعيان وذوي النفوذ داخل الدولة، تمر الأيام هادئة وحاجيات المستشفى متوفرة، لا احتجاجات ولا صياح ولا خصاص.
التقى عصام بأحد أصدقاء الدراسة الذي عين بمستوصف بأحد الأرياف فبدأ كل منهما يتبادل أطراف الحوار، ويذكر كل واحد منهما زمن الدراسة وما مضى من الذكريات، إلى أن بدأ صديق عصام يشتكي من ظروف العمل وقساوتها ونقص المعدات الطبية والأدوية ولائحة المتطلبات تطول، وحينها وقف عصام مشدوها يقارن الوضع الذي يعيشه داخل المستشفى وما يتحدث عنه صديقه وكأنه في عالم آخر غير هذا الذي يعرفه، ذكر ذلك لصديقه طبيب الأرياف ليرد عليه بابتسامة ساخرة.
– عزيزي أنسيت أنك تعمل بمستشفى للأعيان وذوي النفوذ لابد أن يتوفر فيها كل شيء، أما نحن ومن نعالجهم فنعتبر مواطنون من الدرجة الثانية، لا قيمة لنا سوى تكملة عدد فكيف يتههم الوطن بتوفير احتياجاتنا من العلاج والدواء؟!!
– كانت هذه الكلمات بمثابة الصفعة على وجه عصام، ذلك الرجل الذي كان يحلم بالمثالية أيام الدراسة والإنسانية في علاج المرضى دون ميز أو حيف، هل انتهت كل تلك الأحلام بعد التخرج أم أن المنصب الراقي جعلك تنسى إنسانيتك أيها الإنسان؟؟ ؟ بدأ يردد بداخله: عد إلى صوابك يا عصام ما لهذا امتهنت طب الأطفال، أنا لست تاجرا لأبحث عن المال، أنا إنسان .. أنا إنسان .. نظر الصديق إلى عصام لحظة وداعه، وقال: أعلم أنك لن تنام هذه الليلة فبداخلك صوت يصرخ وينادي على ذلك الشاب الإنسان لعلك تجده يا عصام لم يمت بعد؟!!!
انصرف عصام إلى بيته المرتب الجميل الذي وفرته له إدارة المستشفى، ليكون قريبا من مرضاه الأعيان والذين لا يحتملون الجلوس في قاعة الانتظار، فمركزهم الاجتماعي يتيح لهم توفير جميع الخدمات المطلوبة في أسرع وقت خشية غضبتهم على إدارة المستشفى، بل وتم توفير سيارة خاصة لعصام ليزور المرضى في بيوتهم ممن يتأففون الحضور إلى المستشفى وطلب العلاج، فطلباتهم أوامر، ما عليهم إلا دق جرس الهاتف ليحضر الطبيب والعلاج بل لتحضر المستشفى كلها إليهم ...
من أجل هذه الطبقة كان تخصصك يا عصام؟؟! ... أم أنك تهدر وقتك بينهم في زمن هناك من هو أحوج لعلاجك ورعايتك؟؟! عد إلى صوابك !!! لابد أن تتخذ الموقف المناسب قبل فوات الأوان !!! يعاتب نفسه بهذه الكلمات وهو جالس على مكتبه الفاره المجهز بأحدث الأجهزة، ويقابله تلفاز مسطح بصورة عالية الجودة، أخذ بيده محول القنوات يعبث به لعل صوت الضمير يخبو قليلا لكن دون جدوى، يشغل التلفاز وينتقل من قناة لأخرى، عل هواجسه تضيع وينشغل بغيرها.
وما هي إلا لحظة يضغط فيها على زر قناة إخبارية ليرى الصواريخ تنهال على غزة وجثامين الأطفال الممزقة تظهر هنا وهناك وينتقل المذيع بعدها إلى سورية وما يحدث في حلب والغوطة ويتكرر المشهد، بين أشلاء لأطفال رضع، أو مبثوري الأطراف وآخرون يختنقون بغازات سامة محرمة دوليا في عرف الأقوياء إلا إذا أبيد بها الضعفاء، وجبال من الركام لبيوت سقطت على عائلات بأكملها، من قدر له الحياة من الأطفال يئن تحتها ويحاول الصراخ ...
جحظت عيني عصام وكأنه ينظر إلى عالم آخر غير هذا الذي يعيشه، وبدأت تتقاطر دموعه على عينيه وتفيض دون أن يشعر بها، ينتفض بداخله ذلك الإنسان الذي اختار تخصص طب الأطفال ليكون عونا لهم وسندا، لكنه اليوم يشعر أنه بعيد عن تلك المهمة النبيلة التي كانت دافعه الأول في اختيار مهنته، ينفجر صوت من داخله يعاتبه.. كيف قبلت بالبقاء داخل مكتب مرفه واخترت علاج أصحاب المال فقط، وهناك من هم في حاجة ماسة إليك؟؟؟ كيف لم يستيقظ ضميرك وأنت تعلم أن هناك من يتألم ولا يجد من يساعده، أطرق رأسه طويلا وكأنه في لحظة اتخاذ قرار حاسم في حياته، وبعد برهة أخذ قلما وورقة وبدأ يكتب استقالته ليقدمها لإدارة المستشفى، كان الأمر صادما لمدير المستشفى وطاقمها، رفض المدير الاستقالة، وبدأ يقدم عروضا مغرية لعصام لعله يتراجع عن قراره ويسأله عن سبب هذه الاستقالة، لكن عصام لا يجيب إلا بكون الأمر شخصي ولا أريد مناقشته، لم يجد مدير المستشفى أمام هذا الإلحاح إلا أن يستجيب لطلب عصام، وأكد له أن الباب مفتوح متى تراجعت عن قرارك مرحبا بك، شكر عصام المدير ثم ودعه ليعود إلى مكتبه ويحمل حقيبته وبعض كتبه وينصرف إلى بيت أسرته بعدما ترك مفاتيح المكتب والمنزل والسيارة الخاصة بالمستشفى إلى مقتصدها، عاد إلى بيت أسرته المتواضع وقد استقل سيارة أجرة.
لم يخبر عصام أسرته سبب الزيارة، بل لم يخبرهم عن استقالته لا يريد سماع لومهم، أخبرهم أنه قد يسافر سفرا طويلا في مهمة طبية اعتقد الأهل أن المستشفى هي من أرسلت عصام لهذه المهمة لكنه لم يحدد لهم الوجهة. صبيحة يوم غد اتصل بالمطار ليحجز له مقعدا في الطائرة نحو تركيا لقد بدأ عصام يحدد لنفسه مسارا جديدا ... بعد يومين من مكوثه في البيت ومراجعة حساباته مع نفسه، جاء موعد السفر، حزم حقائبه وانطلق نحو المطار في طريقه إلى تركيا، وبالضبط إلى مخيمات اللاجئين السوريين -هم أحوج الناس إلى مساعدته في هذه اللحظات-، وصل إلى المخيمات وكان الأمر ميسرا، لأنهم كانوا يبحثون عن أطباء متطوعين، لعلاج حالات كثيرة، مرت من وطيس حرب شرسة لا تميز بين صغير ولا كبير، سنة كاملة وهو يمارس هذه المهمة النبيلة ويسمع من قصص ضحايا الحرب العجب العجاب، وفي كل يوم تستقبل المخيمات نازحين جدد ولازالت المجازر مستمرة دون توقف، لم يعد الأمر يطاق وكأن الكل قد هجر عن وطنه، الى متى سيستمر هذا الوضع.
في نفس الأثناء بدأت تصل أخبار عن اشتداد الوضع في غزة وما يعانيه أهلها بسبب الحصار المطبق على أنفاسهم، لا طعام ولا أدوية، وانقطاع مستمر للكهرباء، وموت الأطفال الخدج في الحضانات بسبب غياب الكهرباء. ويبدو أن مجموعة من فضلاء العالم، قرروا بشكل رمزي تكسير هذا الحصار بأخذ بعض المساعدات لأهل غزة، تتضمن أدوية وألبسة وحليب الأطفال لحاجتهم الماسة إليه. قرر عصام تسجيل اسمه ضمن لائحة المتطوعين لهذه المهمة، وكان أمله أن يسعف الأطفال الذين عانوا من حصار لا يميز بين صغير ولا كبير، أطفال اغتصبت أرضهم قبل ولادتهم، فقدر عليهم أن يحملوا الحجارة أمام فوهة المدفع دفاعا عن أرضهم، ومنعوا من حقهم الطبيعي في الدراسة، فقد حيل بينهم وبين مدارسهم بسور قطع الصلة بين العائلات والأقارب، فكيف لا يقطع الصلة بين التلميذ ومدرسته، لكن عزيمة هؤلاء الأطفال كثيرا ما كانت تتحدى جبروت الاحتلال حينما يمنعون من تجاوز المعبر للوصول الى مدارسهم، فيجعلون من المعبر مدرسة يتعلمون في حدوده الوهمية، أن لا حدود تقطع أرض فلسطين عن بعضها البعض، بل ويتعلمون تاريخ فلسطين وثباتها على الحق، فمهما غير المستوطن المدن والأماكن فان تاريخ الوطن محفور في ذاكرة تأبى النسيان.
أمام كل هذه المشاهد التي يسترجعها عصام عن أرض فلسطين ازدادت حماسته لهذه الرحلة التطوعية، وحان اليوم، وها هو يحمل معه معداته الطبية ويشتري من ماله الخاص بعض الألعاب عساه يفرح بها من يلقاه من الأطفال. بدأت الرحلة البحرية والسفينة تخترق عباب البحر، إلى أن اقتربت أدراجها من ضفاف غزة لم تبق إلا أمتار، وعمت الفرحة وجوه المتطوعين إنه نصر إنساني شارك فيه أشخاص من جنسيات وملل متعددة، فرحة لم تستمر فما هي إلا لحظات وطائرات العدو الصهيوني تحوم وتحلق فوق سفينة المتطوعين وتطلب منهم التراجع وإلا سيتم قصف الجميع، حاول بعض المتطوعين أن يتحاوروا مع العدو للتأكيد على سلميتهم، ورسالتهم النبيلة التي أتوا من أجلها، لكن دون جدوى فالعدو الصهيوني لا يعرف سوى لغة الرصاص، بل بدأ على الفور إطلاق ناري تحذيري وقد أصيب بعض من كان في السفينة، مما اضطر ربان السفينة إلى العودة من حيث انطلق. اعتقد عصام أن المنتظم الدولي الذي يدعي الحرص على العدالة سيكون له موقف حازم تجاه ما وقع، فبدأ ينتظر خبرا من قناة لأخرى قد يطلعه على ردة فعل تشعر بأن العالم لا زال يحتفظ بإنسانيته، لكن التعتيم الإعلامي المتواطئ كان أسوء من ذلك.
دار بين عصام وأحد الصحفيين الأجانب حوار حول ما وقع، وكان من المتطوعين أيضا في هذه الرحلة، واستنكر الأمر بشدة، كان لهذا الصحفي إذاعة مستقلة مقرها ولها نسبة مشاهدة عالية لطبيعة مواضيعها الإنسانية التي تختارها، اقترح على عصام استضافته بأحد برامج الإذاعة للحديث حول الموضوع خصوصا بعدما تعرف على قصته وسبب انتقاله من مكان لآخر قصد أداء رسالته الإنسانية، وافق عصام لأنه أراد نقل حقيقة ما يحدث داخل هذا العالم المفترس.
بعد أسبوع وبعد إعلان مكثف عن موعد الحلقة وموضوعها، وشخصيتها، بدا أن نسبة المشاهدة كانت فوق المتوقع، فحملتها الإعلامية السابقة جعلتها ناجحة بامتياز، وما زاد في نجاحها ظهور عصام وهو يستشعر أنه اليوم يحمل فوق كاهله رسالة إلى العالم فلا بد أن تصل على أحسن وجه، رحب به المذيع وبدأ يتحدث عن نبذة من حياة ذلك الطالب في كلية الطب المتفوق، الذي حيزت له أسباب النجاح والسعادة والمال مقابل علاج أطفال ميسوري الحال، فاختار ترك كل ذلك لأن أطفال العالم المقهور بحاجة إليه، وجه الكلمة إلى عصام، لماذا هذا الاختيار؟ وكيف وجدت ذلك العالم الذي كنت تبحث عنه؟
أجاب عصام: اختياري كان صحوة ضمير أيقظه صوت من بعيد لأطفال لم يختاروا زمن عيشهم ولا مكانه. أما كيف وجدت هذا العالم؟ وجدته أشبه بالوحش الذي غابت رحمته ويعيش على أنقاض الناس وآلامهم، قتلت فيه الإنسانية قبل أن تولد تحت مسميات الحضارة والحداثة والتطور، كيف يكون المجتمع متحضرا وهو يصنع أسلحة لا تقتل إلا الضعفاء؟ كيف يكون حداثيا باقتلاع جدور القيم والأخلاق؟ كيف يكون متطورا بامتصاص دماء المقهورين المحتاجين في كل بقعة من بقع العالم؟ إنها حضارة دوابية ليس لها معنى في عرف الإنسانية. تحصد أرواح البشر في نشوة لا تجدها عند مفترسات الغاب، ثم تتغنى عصابة الافتراس العالمي للبشر بأكاذيب وعبارات تلوكها لتغطي على جرائمها فطالما سمعنا كلمات ندين ونشجب ... وأي إدانة تلك وأي شجب، والأرض تضج بجثث الأبرياء كان عصام يتحدث وقد جلب معه تسجيل وصور للأطفال النازحين من أرض الحرب وما تعرضوا له من بتر وإعاقات خطيرة وتشوهات، لم يصمد المديع وهو يستمع لكلمات عصام ويرى هذه المشاهد المروعة حتى انهار بالبكاء، توقف عصام عن الكلام ليترك المشاهد تعبر عن نفسها، حاول المذيع أن يتمالك نفسه قليلا، ثم رفع رأسه وقال هنا تقف الكلمات أيها العالم الصامت قل كلمتك قبل فوات الأوان، يا شرفاء العالم كونوا جنودا تحمي الإنسانية قبل أن نصبح مجرد ذكرى لا يجد أحدنا من ينعي الآخر.
أ. رجاء الرحيوي
معاً نحو القدس