هل الرسول ساعي بريد؟
د.صالح نصيرات
سؤال يخطر على بالي كلما قرأت بعض المنشورات التي تريد أن تحول الرسول الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم إلى مجرد شخص يحمل رسالة مغلقة لايدري شيئا عن محتواها ومهمته إيصالها بأمانة إلى اصحابها. وهذا تقزيم لمفهوم الرسول في السياق الديني عامة والإسلامي خاصة. حجة القائلين بالرأي السابق أن القرآن الكريم جاء مفصلا "وفصلناه تفصيلا" أي أنه لا حاجة لمزيد. وهذا صحيح في جانب المرسل ولكنه ليس صحيحا في جانب المرسل إليه اي المخاطبين. فالمرسل هو الله سبحانه وتعالى فكلامه فصل وما هو بالهزل. وهو واضح لأهل العلم والفهم والإدراك، ولكنه بالتأكيد يحتاج إلى بيان وتفسير وتوضيح.
ولبيان ذلك سنرى من القرآن الكريم نفسه مهمات الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
أولا: القراءة ، قال تعالى "وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا". وهنا من الواضح أن المقصود بالقراءة التلاوة على الناس ليسمعوه منه صلى الله عليه وسلم. وحدث هذا في كل مواقف الجدل و الحوار التي نشأت بين الرسول الكريم ومخالفيه وحتى أصحابه.
ثانيا: التعليم "ويعلمهم الكتاب والحكمة" والتعليم كما يعرف كل من عمل في هذه المهنة تقتضي معرفة ماذا سيعلم وكيف سيعلم (المحتوى والطريقة). فالرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بكتاب الله، وقد أنزل عليه، واستخدم صلوات الله وسلامه عليه كل ما تيسر له من وسائل وأساليب التعليم وطرائقه.
ثالثا: البيان. وقد فسره بعضهم بأن البيان مقصوده الإعلان وعدم الإخفاء. وقد ورد في القرآن الكريم ايضا قوله تعالى "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب..". والبيان في هذه الآية فسر بمناسبة نزول محددة وهي كتم اليهود لآية الرجم. وإن كان مفهوم البيان يعني التفسير والتبيين والشرح و التفصيل. ومنها قوله تعالى " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار.." وهذه الآية واضحة في خطابها الموجه لمن يكتم شيئا من دين الله مقابل المال. وهذه الآية ليست محصورة في كتم صفة النبي في الكتب السابقة، ولكنها عامة لتشمل ايضا العلماء والمفتين والوعاظ الذين ينتقون من آيات الله مايرضي السلاطين، ويخفون الحقيقة البينة ليأكوا بذلك سحتا يتمثل في المال المباشر و المنصب و الجاه.
رابعا: التيسير ورفع الحرج والأغلال
"ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" فسرها بعضهم على أنها موجهة إلى بني إسرائيل، و الواضح أن الآية عامة. فالجاهلية كان فيها من الأصرار والأغلال ما يجعل حياة العرب في ضلال. فعبادة الأصنام والحمية الجاهلية والعنصرية ضد الآخرين كانت أغلالا تقيّد العربي وتجعل منه مجردا من قدرته على التحرر من هذه القيود التي فرضها المجتمع الجاهلي. ومقصود الآية عام، فللرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفع الحرج في إطار من القرآن الكريم. فالقصر في الصلوات والتيمم والجمع أيضا وبعض الأحكام المنسجمة مع القواعد العامة للشريعة وضع النبي الكريم لها الهيئات وبين كيفية الأداء "صلوا كما رايتموني أصلي" و "خذوا عني مناسككم".
خامسا: جوازه لافعال معنية ونسخها. وهذه مزية للنبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه. فالرسول مبلغ عن الله سبحانه، ويأتيه الوحي من الله، وعندما يجيز أمرا من فعل أو قول، فإنما يجيزه بعلمه وفهمه للمنطوق العام لكتاب الله، والظروف التي يعيشها الناس. فتحريم الحمر الأهلية ووزاج المتعة وزيارة القبور للنساء وغيرها من المسائل المشهورة ، وهي من صميم رسالته وفهمه لدوره ووظيفته صلوات الله وسلامه عليه.
سادسا:
من وظائفه ومهماته صلوات الله عليه أن يمثل الرسالة أصدق تمثيل، ليكون الأسوة والقدوة للمسلمين. وقد كان وسيبقى رسول الله الأسرة والقدوة. فرسالته عامة تتجاوز الزمان والمكان ومن شك في ذلك فهذه مشكلته. ولو كانت افعاله الشرعية - وليست الجبلية الفطرية - وقتية ومحدودة بزمن دون زمن ومكان دون مكان لكان ذلك مخالفا لما جاء به القرآن الكريم. فهي رسالة الى العالمين في كل زمان ومكان " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون"
لقد خرج قوم من مسلمي اليوم محتجين بما ورد في الكريم من آيات وردت تفيد بكماله وعموميته وتفصيلاته لمواضيع معينة على نفي السنّة مطلقا أو بشكل جزئي، معتمدين على عقولهم أولا دون معرفة باللغة، والسياقات اي أسباب النزول التي وردت فيها الأحاديث النبوية الشريفة، وعلل الحديث وكل ما يعرفه أهل العلم. ولتبرير أفهامهم لم يجدوا غير النيل من العلماء ، فسخفوا جهودهم، واتهموهم في نياتهم ، متوسلين بالكذب والتدليس، والوقوع في التناقض بقبول الأحاديث التي
توافق هواهم بحجة تناقض بعضها مع العلم والواقع غير مميزين بين مستويات الصحة في الأحاديث، وانه اي الحديث لم يتعهد الان بحفظه كما في حال القرآن الكريم ، فنجح بعضهم في فعله هذا كونه يخاطب عواما وجهلة بعلوم الفقه والتاريخ و الحديث، وآليات الفهم وأدواته. واستخدموا في ذلك مصطلحات ومفردات تبدو مقبولة ومغرية للآخرين، ولكنها تخفي جهلا وربما سوء نيّة.