"يسرج في قناديله" محاولة جديدة للفهم!
د. مراد كدير
الأصل في الفتوى النبوية في حديث استفتاء ميمونة لرسول الله في علاقة المسلم ببيت المقدس (ايتوه فصلوا فيه)، فذاك أصل العلاقة إتيان بغاية وهي إقامة الصلاة؛ والإتيان مجيء بسهولة بالذات وبالأمر وبالتدبير كما ذكر الراغب الأصفهاني في المفردات؛ فالواجب في علاقة المسلم ببيت المقدس مجيء بسهولة نتيجة أمر نبوي رباني للصلاة فيه، فإن لم يتحقق الإتيان لعارض استحال فيه إتيان المسجد بسهولة، لسبب حرب أو احتلال مثلما كان وقت فتوى ميمونة باحتلال البيزنطيين للمسجد وقيام حرب بين الفرس الروم فيه، فتكون علاقة المسلم مستمرة لا تنقطع بوجود الحائل، وعلاقته «فلْتُهْدي له زَيتًا يُسرَجُ فيه» أو في رواية أخرى «فابْعَثوا بزَيتٍ يُسرَجُ في قَناديلِه»، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم«فمَن فعَل ذلك فهو كمَن أتاهُ»
إسراج الزيت في القناديل، يذكرنا بقول الله تعالى: {ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةࣲ فِیهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِی زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبࣱ دُرِّیࣱّ یُوقَدُ مِن شَجَرَةࣲ مُّبَـٰرَكَةࣲ زَیۡتُونَةࣲ لَّا شَرۡقِیَّةࣲ وَلَا غَرۡبِیَّةࣲ یَكَادُ زَیۡتُهَا یُضِیۤءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارࣱۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورࣲۚ یَهۡدِی ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَیَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَـٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ}
فالمشكاة صدر المؤمن كما قال ابن كثير والطبري والبغوي في تفسيرهم وكما أكدته التفاسيى أخرى نقلا عن ابن جبير وأبي بن كعب، والمصباح القرآن والإيمان الذي يشتعل نوره في عمود القنديل (المشكاة)، والزجاجة قلب المؤمن، ونأخذ قول الطبري في تفسيره "حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ قال: مثل المؤمن، قد جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة، قال: المشكاة: صدره ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ قال: والمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾ قال: والزجاجة: قلبه".
المشكاة كلمة حبشية تعني الكوّة المغلقة التي لا منفذ لها، فهي بذلك محيطة بالمصباح حامية له من الإنطفاء، وكذلك جسد المؤمن وصدره يحمي قلبه الزجاجي المضيء كالكوكب الدري، وفي قراءة دِرّيءٍ، فهو يدرأ عنه ما يمنع انبثاث نوره الحق، وقيل دري ظاهر صاعد فدرأ النجم طلع وظهر وصعد، فقلب المؤمن المنير بنور الإيمان صاعد في مدارج السالكين نحو رب العالمين، مترقي في منازل السائرين نحو تحقيق غاية وجوده.
ونور القلب مستمد من زيت الشجرة المباركة الشريعة الغرّاء الصفية النورانية التي تنير دون أن تمسها النار لشدة إشعاعها واكتمال نورانيتها. يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير"والوَحْيُ الَّذِي أبْلَغَ اللَّهُ بِهِ حَقائِقَ الدِّيانَةِ مِنَ القُرْآنِ والسُّنَّةِ يُشْبِهُ الشَّجَرَةَ المُبارَكَةَ الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَةً يُسْتَخْرَجُ مِنها دَلائِلُ الإرْشادِ" وكذلك قال "وتَعْلِيمُ النَّبِيءِ ﷺ أُمَّتَهُ بِبَيانِ القُرْآنِ وتَشْرِيعِ الأحْكامِ يُشْبِهُ الزَّيْتَ الصّافِي الَّذِي حَصَلَتْ بِهِ البَصِيرَةُ، وهو مَعَ ذَلِكَ بَيِّنٌ قَرِيبُ التَّناوُلِ يَكادُ لا يَحْتاجُ إلى إلْحاحِ المُعَلِّمِ. وانْتِصابُ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلتَّعْلِيمِ يُشْبِهُ مَسَّ النّارِ لِلسِّراجِ وهَذا يُومِئُ إلى اسْتِمْرارِ هَذا الإرْشادِ"
فيكون إسراج زيت قناديل بيت المقدس، السعي المتواصل لتمكين الشريعة الصافية النقية في قلوب الأمة الإسلامية أجمع، حتى يثبت النور فيها وتشع كالكوكب الدري، وأن تستهدي الأمة بهذه الشريعة الغراء نور القرآن وسنة العدنان، لتبلغ سيادة دولة الإسلام الحامية للشريعة منبت الزيتونة الشجرة المباركة التي جغرافيتها في بيت المقدس قلب الأمة لا شرقها ولا غربها، فتستهدي عقول وقلوب الأمة بنور الإسلام وبنور جيل التحرير الكواكب النورانية الدرية، التي تسرج قلوب وعقول العالمين بظهور الشريعة الإسلامية على الدين كله في بيت المقدس فتنال البشرية نور الله، ويصل النور الرباني السموات والأرض فتنال البشرية هدى الله، شريعة لا شرقية ولا غربية، لا شرقية المنبت والهوى هلكت وأهلكت مجتمعات بفكرها الملحد ولا غربية المنبت والهوية أهلكت قديما وحديثا البشرية بفكرها الضال المادي، بل وسطية المنبت والمنهج، وسطية الإشعاع والإنبثاق والإنبثاث والإنتشار.
فابعثوا بزيت يسرج في قناديله، سعي متواصل لتزكية الزجاجة ليعود لها صفائها، فتشع بنور الإيمان ليصبح الإنسان قنديلا ملتهبا، وسعي حثيث لبذل جهد الاهتداء لتستنير العقول بزيت الشريعة الوضاء نور القرآن وهدي العدنان الذي به يكون هدى الإنسان وتسديد عقله وتأييد مسيره، وهو سعي مستمر لإيقاد القناديل في الأمة أجمع قلوبا وعقولا لتعود لطهارتها وصفائها، بهدف حمل نورانية الزيت المبارك (الشريعة) لتسرج بها قناديل المسجد الأقصى، فتمكن الشريعة الإسلامية في بيت المقدس، حتى تكون سراجا للبشرية أجمع، فهي كانت مهد الأنبياء حملة الشريعة للناس، مستخرجي الزيت من تلك الشجرة المباركة، فكانت منبتا مباركا ومنبعا مباركا لزيت الشريعة وجهد الأنبياء في استدامة الإيقاد والاشتعال، منبت وسطي لا شرقي ولا غربي، وظيفته الإشعاع النوراني والتدفق والفيضان بالبركة على العالمين، بعد تمكن زيت الشريعة النورانية في قناديله.
إنارة العالم بنور الله المبثوث في السموات والأرض، يكون بإنارة المشكاة بنور الإيمان ونور القرآن لتشتعل القلوب الزجاجية الصافية بزيت الشريعة النورانية، فتصبح الكواكب الدرية هدى ورحمة ساعية لإسراج زيت الشريعة في قناديل المسجد الأقصى، فتفيض منبت الشجرة المباركة الزيتونة في جغرافيتها الوسط لا الشرقية ولا الغربية على العالمين أجمع بعد تمكن النور في قناديلها وإشعاعها به، لتغدو هدى ورحمة وبركةللعالمين ، وكذلك هو درب المشكاة في إنارة ظلام حملة مشروع الفساد وإساءة وجههم واستعادة مسجدهم وتتبير علوهم. وكذلك دورنا في الفتوى النبوية لمن منعوا إتيان المسجد الأقصى، إسراج الزيت في القنديل.