يلعبون الكرة في باحاته وينتعلون أحذيتهم في مُصلّاه
د. أسامة الأشقر
(عربي بوست)
يتخذ بعضهم -لأغراض يعلمها الناس- من بعض المظاهر التي ترافق النضال الشعبي في المسجد الأقصى فرصة للتحريض على هؤلاء المتعبّدين، ويلبّسون على العامّة وذوي النفوذ بخلط الأحكام، وتجريدها عن سياقها، وانتقاء مواضع خلاف أو عدم وضوح لتركيز الاهتمام عليها وترك ما سواها، ووضع مقارباتهم في سياق الإدانة والتخطئة والتحريض على جهات لا يتفقون معها سياسيّاً، وقد كان الأحرى بهؤلاء المحرّضين الحريصين على مصلحة المسجد الأقصى، فيما زعموا، أن يثبّتوا قضية الدفاع عن المسجد الأقصى وتحريره من الاحتلال، ونقد مَن يقصّرون في إسناده قبل أن ينتقدوا أيّ مظهر في مساندته مما لا يرونه مشروعاً، لنثق ابتداءً في صحة نيتهم وبراءة مقاصدهم، وسنخوض في مقالتنا هذه في تفنيد هذه التشويشات وتوضيح ملابساتها، وإعادة تحرير مسارها وفق نقاشٍ شرعيّ منفتح يفتح مداخل موضوعية متخصصة لذوي التأهيل المتخصص بعد ذلك.
ونودّ التوضيح أنّ قضيّتنا هنا ليست في سياق ما يذكره الفقهاء من منع اللعب في المسجد إذا كان فيه تشويش على المصلين، وليست أيضاً في مسألة حكم اللعب في المسجد، فتلك بحوث مضى الكلام فيها، وإنما قضيتنا في الدفاع عن المسجد الأقصى الآن، وتأكيد الالتفاف حوله، ومنع انهيار الإسناد الشعبي له -الذي هو آخر دفاعاته – في ظرف حساس يعمل فيه "الإسرائيليون" على تثبيت أحقيتهم في الولاية على مسجدنا، وحيازته وتحويله إلى كنيس يتعبّدون فيه، ضمن حملة استهداف مركّزة تهدف إلى إكمال حلقة حلم "الدولة" باتخاذه مركزاً للديانة اليهودية، ببناء معبدهم الأكبر على أنقاض المسجد، وفي هذه السياسة ما فيها من مفاسد عظمى توجب الاستثناء والتفصيل والتخصيص في كثير من عموميات الأحكام وإجمالها.
وما فعله الاحتلال في المسجد الإبراهيمي في الخليل بعد مجزرة الحرم الدموية، من تقسيم زماني ومكانيّ فيه، كان مثالاً بالغ السوء لا يمكن السماح بتكراره في المسجد الأقصى؛ أيْ إنّ حديثنا هنا يأتي في ظرف خاص وباعتبارات خاصة تتعلق بالمسجد الأقصى، الذي يقع تحت سيادة عسكرية وسياسية يهودية صهيونية متحكّمة بجبروت وطغيان وقهر، والذي لا يوجد الآن من يدافع عنه إلا تلك الأيادي العارية من السلاح، المخذولة التي لا تجد ناصراً من الجيوش العربية والإسلامية حولها.
وينبغي أن يعرف الناس أن المسجد الأقصى الآن هو تحت احتلال كامل، وأنه لا ولاية لجهة عربية أو إسلامية فيه، وإنما هي إدارة شؤونه ومتابعة خدماته بموافقة المحتل، وهو أمر مؤقت لا يريد المحتلّ بقاءه، كما أنه يفرض قيوداً لا تنتهي عليه، وبالتالي فلا توجد هنا ولاية تقتضي السمع والطاعة لأحد، وأن القرار بيد قيادة المدافعين عن المسجد الأقصى بما يرونه من تقديرات الميدان.
وينبغي أن يفهم الناس أن المسجد ليس موضعاً لأداء الصلاة فحسب، بل هو مركز شامل للعبادة بكل معانيها من تعليم وقضاء وتأهيل وتدريب ومحاضرة ومجالسة، وعرض واستعراض واعتكاف وتخطيط للحرب وعقد للأنكحة وإقامة الولائم والاحتفاء بالمناسبات والتعزية بالأموات... فلذلك جاز فيه النوم والأكل واللعب والمسامرة وإنشاد الشعر وحتى المصارعة، وإصلاح الأسلحة فيه، وممارسة الرياضة في غير أوقات الصلاة، والتعلّم على الرماية... إذا كان كل ذلك في سياق عبادة ظاهرة، وكان من الأمور المباحة الأصل، وليس فيها تكسّب لآحاد الناس، أو اعتياد مُمتهِن، وفي العموم فإن المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه كل مباح.
وقد جعل رسول الله لحسان بن ثابت المسجد منبراً لأشعاره المنافحة عن رسول الله، وكان النمط الأكثر حضوراً في هذه الأشعار هو الهجاء، وكان الناس يسمعون لحسان أشعاره ويرونها ويتناقلونها، ولو قرأ الناس مضامين الهجاء في أشعار حسان لرأوا فيها سقفاً عالياً يمسّ أعراض الكفار بإقذاع وقسوة تتناسب مع حملة الكفار الهجومية التي استنفروا فيها من كل سوء.
وقد ثبت في الصحيح أن فتية من الحبشة السودان كانوا يلعبون بالدرق (التروس المتخذة من الجلود) والحِراب في مسجد رسول الله، وكان الصحابة وأولادهم وأمهات المؤمنين يشاهدون ذلك، ولاسيما في الأعياد، وهذه الألعاب وصفتها روايات الحديث بأنها لعب ورقص وزَفْن، وفيها تغنٍّ بمقطوعات تحفيزيّة تعبويّة، وهذه المراقصات بالحراب لا تزال موجودة إلى يومنا هذا لدى القبائل الإفريقية المسلمة وغيرها، وفيها من الوثب والقفز والتقلّب وإبراز المهارات الأدائية ما فيها من إظهار القوة والمفاخرة بها.
وهذا الرقص -الذي يتحلّق الناس لمشاهدته وقتل السآمة بمتابعته- لا يقلّ في أدائه عن مداولة الكرة في نطاق ضيق لا يزعج المصلين داخل المسجد الأقصى الواسع الرحب، ولا يمسّ ممتلكات المسجد ومرافقه، بل هو مما يتألّف الشباب ويزيد من إقبالهم أكثر على المسجد، بل إن رسول الله أراد ذلك لأمر آخر يناسب مقالتنا هذه (لتعلمَ يهودُ أن في ديننا فسحة)، كما كان رسول الله ينهّضهم وينشّطهم لذلك: (دونكم يا بني أرفدة).
وليس ما صنعوه هذا من اللعب مما يكتسب صفة الدوام، بل هو حاجة رأوا أنها مما يعينهم على طول الانتظار والترقّب، خوفاً من الاقتحامات المفاجئة لجيش الاحتلال وشرطته ومستوطنيه، الذين لم يعودوا يضمرون الشرّ بالمسجد، بل أصبحوا يعلنون عن مشروعاتهم التهويدية بصلافة ووقاحة، مدعومين بقرارات قضائية ومساندة سياسية من سلطتهم الجَبْريّة، كما أن في لعبهم هذا تنشيطاً لهم وتحفيزاً يعلم أهميته من يكون في ميدان المرابطة في هذا الثغر.
وانتقدوا على بعض المرابطين ممن يدخل بحذائه المسجد، ولو أمعنوا النظر لوجدوا أنهم لا يفعلون ذلك إلا عند الاضطرار وعند الاشتباك، إذ إنهم يتعرضون للمطاردة في ساحات مكشوفة ومغلقة، وقد يحتاجون إلى إسناد فرق مرابطة قريبة وتخفيف الضغط عنها، وأفضلُ لهم أن يكونوا على أكمل وجوه استعدادهم، فضلاً عن أن هذه الأحذية هي أشبه ما تكون بعدّة القتال وزيّه في هذا الظرف، كما أنها طاهرة لا تنجّس المسجد، وحتى لو أصابها شيء فإن الأرض تطهّرها بكثرة حركتها واحتكاكها، كما أن الصلاة جائزة بها؛ بل وجدنا بعضهم لا يجد غيرها في مواجهة العدوّ وتلقّي ضربات عصيّهم عند الاقتحام، وكانوا يقذفون بأحذيتهم في وجوه العدوّ إذا عدِموا شيئاً بأيديهم، ويناوشون بها، وكلما كثرت هذه الأحذية من حولهم ازداد رشقُهم للعدوّ وأبعدوه أكثر وأكثر، ويكون في هذا مزيد نكاية فيهم وإغاظة.