حين تكون الجلافة منهجًا دعويًّا في وسائل التواصل الاجتماعي
بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مسجده المفروش بالحصى، دخل أعرابيّ جاء إلى المدينة لزيارة أرحام له، وقد أراد قضاء الحاجة فجلس وبالَ في زاويةٍ من المسجد؛ فثار الصّحابة الكرام ليقعوا فيه؛ فمنعهم سيّد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بل أمرهم أن يتركوه حتّى يتمّ بولَه قائلًا: "دعوهُ لا تُزرِموهُ"، وقال لهم: "إنّما بُعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين" وتعامل مع المسألة بغاية الرّفق والبساطة، وقال لهم: أريقوا على بوله ذَنوبًا -أي دلوًا- من الماء، ثمّ أقبل على الأعرابيّ بحنوّ الأب وبيّن له أنّ هذه المساجد لا يصلح فيها شيءٌ من هذا، فما كان من الأعرابيّ وهو يقارن ثورة النّاس عليه وهجومهم ليقعوا به برقّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم ورفقه إلّا أن رفع يديه داعيًا: اللهمّ ارحمني وارحم محمّدا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم له: "لقد حجّرتَ واسعًا".
لا يشكّ أحدٌ على الإطلاق في صدق غيرة الصّحب الكرام على الدّين وعلى المسجد النّبويّ، لكنّ الغيرة الصّادقة والعاطفة الجيّاشة التي تدفع إلى هجومٍ غير منضبطٍ على المخطئ وتضخيم فعلِه تأتي بنتيجة عكسيّة تمامًا؛ فلكَ أن تتخيّل لو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسجد ووقع النّاس في هذا الأعرابيّ، كيف ستكون النّتيجة؟
ثمّ انظر إلى تعامل النبيّ صلى الله عليه وسلّم في استيعاب الموقف والتّعامل مع الخطأ في سياقه وتبسيط المشهد والرّقّة في النّصح والإقبال على المخطئ واحتوائه ببالغ الرّحمة.
هذا المشهد نستحضره ونحن نرى بين الفينة والأخرى معارك تثور في وسائل التّواصل الاجتماعيّ لا سيما فيسبوك وتويتر حول أحداث ومواقف وأشخاص، وللأسف أنّ المشهد الغالب على هذه الخلافات هو الجلافة في التّعبير، والعقل المعاركيّ، والهجوم الكلاميّ، وإطلاق الأحكام الاستعلائيّة، وكلّ هذا يأتي -مع بالغ الأسف- في أوعيةٍ كلامية مليئة بالجلافة اللفظيّة وغياب الذّوق وتنحّي الأخلاق التّعامليّة واستعراض العضلات الاستهزائيّة بالآخرين وطغيان الشّتائم والبذاءة وتوزيع التّوصيفات غير الأخلاقيّة، وكلّ ذلك تحت عنوان الدّفاع عن الإسلام والذّود عن الشّريعة.
الحطيئة حين يتصدّر للدّعوة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ
في بعض كتبه، ذكر الشّيخ محمّد الغزالي عبارة "الحُطيئة حين يشتغل بالدّعوة إلى الله تعالى"، وكم كان بارعًا في هذا الاستحضار؛ فالحطيئة هو الشّاعر الهجّاء، بل إنّه يختلف عن شعراء الهجاء العرب جميعًا في أنّه هجا زوجتَه بقصيدة قال فيها:
لها جسمُ برغوثٍ وساقا بعوضةٍ
ووجهٌ كوجهِ القردِ بلْ هو أقبحُ
وتبرقُ عيناها إذا ما رأيتَها
وتعبسُ في وجهِ الضّجيعِ وتكلحُ
كما أنّه هجا أمّه فأقذع في هجائها، فكان ممّا قاله فيها:
تَنَحِّي فَاجْلِسِي عَنِّي بَعِيدًا
أَرَاحَ اللَّهُ مِنْك الْعَالَمِينَا
حَيَاتُكِ -مَا عَلِمْتُ- حَيَاةَ سُوءٍ
وَمَوْتُك قَدْ يُسِرُّ الصَّاحِبِينَا
وعندما لم يبقَ أحدٌ لم يهجوه هجا نفسَه؛ فنظرَ يومًا في المرآة فقال:
أَبَت شَفَتايَ اليَومَ إِلّا تَكَلُّمًا
بِشَرٍّ فَما أَدري لِمَن أَنا قائِلُه
أَرى لِيَ وَجهًا شَوَّهَ اللَهُ خَلقَهُ
فَقُبِّحَ مِن وَجهٍ وَقُبِّحَ حامِلُه
وإنّ أشدّ ما نلحظه في معارك وسائل التّواصل الاجتماعيّ اليوم حول مسائل وقضايا شرعيّة أنّ الكثير من المتعاركين يحملون نفسيّة الحُطيئة الهجائيّة وهم يمارسون ما يظنّونه دفاعًا عن الإسلام في الرّدّ على مخالفيهم ودحض أقوالهم.
يقول الشّيخ محمّد الغزالي في كتابه (مشكلات في طريق الحياة الإسلاميّة): “وقد كتبت يومًا عن الحطيئة عندما يشتغل بالدعوة؛ وتساءلت: ماذا تنتظر من رجل طبيعتُه شرسة إلا الوعظ بقوارص الكَلِم وسيّئ العبارات؟”.
إن طبائع بعض الناس تحوّل الدّين عن وجهته إلى وجهتها هي، فبدل أن تهدي تصد! وبدل أن تسدي تسلب!” ثمّ يقول: “وقد تتستّر العلّة النفسيّة وراء الحماسة للقيم والغيرة على الحقّ، وأوضح مثل لذلك الرّجل الذي علّق على تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم للغنائم، فقال: هذه قسمةٌ ما أُريدَ بها وجه الله”.
ما هكذا تورَد الإبل
لا تجدُ أحدًا ممّن يمارسُ دورَ الحُطيئة في الدّعوة إلى الله تعالى بجلافةٍ وغلظة إلّا وهو يحفظ ويتلو ويستشهد بقول الله تعالى في سورة آل عمران: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، لكنّه لا يفتأ يؤوّل فعله بوجوب الغلظة مع المنافقين وأعداء الدّين؛ ويُدخل عموم من يخالفه تحت مسمّى أعداء الدّين ليسوّغ لنفسه غلظته.
ولو رأينا بقليل من الجهد السياق الذي نزلت فيه الآية الكريمة فإنّنا سنجد أنّها نزلت في معركة أحد حيث اضطربت صفوف المسلمين ورجع ثلث الجيش إلى المدينة، وعصا الرّماة الأوامر واستعجلوا الغنائم وفارقوا أماكنهم، وانهزم فريق من المسلمين وفرّوا من أرض المعركة تاركين النبيّ صلى الله عليه وسلّم، معركة ذاق فيها النبيّ صلى الله عليه وسلّم آلامًا بالغة وفقدَ سبعين من خيرة الصّحابة، ومع ذلك يأتي الأمر من الله تعالى لنبيّه بأن يكون لينًا رحيمًا مؤكّدًا صفة الرّقّة فيه والبعد عن الفظاظة وهو في أشدّ السّاعات التي تبعث على الغضب.
يقول سيّد قطب في (الظّلال) معلّقًا على الآية: "فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم؛ فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيمًا بهم، لينًا معهم. ولو كان فظًّا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب، ولا تجمّعت حوله المشاعر؛ فالنّاس في حاجةٍ إلى كنفٍ رحيم، وإلى رعايةٍ فائقة، وإلى بشاشةٍ سمحة، وإلى ودٍّ يسعهم، وحلمٍ لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم؛ في حاجةٍ إلى قلبٍ كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والودّ والرضاء، وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع النّاس".
وهذا اللّين والرّفق ينبغي أن يكون مع الخلق جميعًا بمن فيهم غير المسلمين، يقول الإمام الطّاهر بن عاشور في (التحرير والتّنوير) معلّقًا على الآية: "واللِّينُ هنا مجاز في سعة الخلق مع أمّة الدّعوة والمسلمين، وفي الصّفح عن جَفاء المشركين، وإقالة العثرات".
إنّ محاولة تسويغ الجلافة في معارك وسائل التّواصل الاجتماعيّ بأنّها دفاعٌ عن الدّين يردّ عليها موقفٌ بديع من مصعب بن عمير رضي الله عنه، وهو أوّل سفير للإسلام أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة ليمهّد البيئة الاجتماعيّة قبل الهجرة؛ وكان يجلس في بستان أسعد بن زرارة فسمع به كلّ من أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكانا على الشّرك، فجاء إليه أولًا أسيد بن حضير، وينقل لنا ابن إسحاق المشهد فيقول: "قال: فوقف عليهما متشتِّمًا فقال: ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلتَه، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهّله".
وبعد ذلك جاء سعد بن معاذ يحملُ حربته غاضبًا يريد الفتك بمصعب بن عمير؛ فكان المشهد قريبًا من هذا، فيقول ابن إسحاق: "فوقف عليهما متشتّمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره؟ فقال له مصعب: أوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم؛ لإشراقه وتسهّله".
كلا الرّجلين وقف متشتّمًا -أي يمارس الشتم والإساءة اللّفظيّة- بحقّ مصعب بن عمير رضي الله عنه، فكيف واجه مصعب ذلك؛ بالاستيعاب والخطاب العاقل المنطقي وتبيين أنّه سيعرض عليهم كلامًا فإن كرهوه سيكفّ عنهم ولن يلحّ عليهم أو يفرضه عليهم، هذا الذّوق الرّفيع في التخاطب والتّعامل كانت نتيجته دخول أسيد بن حضير ودخول سعد بن معاذ ودخول قبيلة سعد بن معاذ كاملةً في الإسلام يومها.
بالله، لو فعل مصعب كما يفعل اليوم من يحسبون أنّهم سفراء الإسلام ووكلاؤه بالرّد الجلف الغليظ الجافي بحجة الانتصار للإسلام؛ كيف ستكون النّتيجة؟!
أصحاب العقليّة المعاركيّة الذين يمارسون الجلافة بحجّة الدّعوة؛ يستنزفون أنفسهم ويهدرون طاقاتهم وطاقات من يتخذونهم خصومًا، وتراهم دائمًا منتشين بظنّهم أنّهم يحاربون لأجل الحقّ ودفاعًا عن الإسلام، ولكنّ نظرةً يسيرةً تجعلك ترى بعد انجلاء غبار أيّ معركةٍ من معاركهم أنّهم تركوا الميدان قاعًا صفصفًا، فلم يبنوا فيه، بل إنّهم خرّبوا من حيث ظنّوا أنّهم يُصلحون، وهدموا وهم يحسبون أنّهم يبنون.