وبين الفينة والأخرى قد تثرثر مع الجارات في حديث جوهره ولبه الأبناء ومشاكلهم ودراستهم ،وأحيانا علاقتها بالأهل والأقارب ،أو ما تحتاجه من السوق لتفي بمتطلبات أسرتها ،هذه حياتها وهذه دائرة رحاها ،لا تنفلت قدمها عنها قيد أنملة ،لا علاقة لها بأحداث العالم وحروبه وصراعاته ،وآخر ما تفكر فيه مشاهدة الأخبار ،فالأفلام والمسلسلات أكثر متعة وتسلية لامرأة جعلت كليتها لأسرتها ،تعيش معها بعض الخيال الذي حرمت منه وتنتشي هنيهة من بقايا الوقت إن بقي....
غاب زوجها مدة من الزمن وقد اعتادت غيابه بسبب عمله ،يكفي أنه يرسل حوالة مالية كل شهر تسد بها حاجيات الأبناء ،قد تكتم امتعاظها من غيابه الطويل ولا تبوح بذلك ،لأنها تدرك جيدا صعوبة عمله ومشقته ... زوجها مجند في جيش تحت إمرة من يسوسون ويحكمون الشعب بسلطة الحديد والنار ... لا مجال للديمقراطية.. والمطالبة بها جريمة .. أما الحاكم في شرعة هذا الوطن إلاه يأمر فيجاب ... ومن غير العبيد يخضعون لأوامره ...
وإن أوغل فيهم ظلما وتقتيلا؟؟؟
استبشر العالم بربيع عربي يخلص الشعوب من القهر والضيم ،فاشرأبت أعناق شعب هذه المرأة إلى الحرية ... وأعلنوها مذوية في مساجدهم وشوارعهم وقراهم ومدنهم ... لم يكن الحاكم الصنم ليقبل ثورة شعبه عليه ،فأسرع يخمد الثورة بأوامره قتلا وسفكا للدماء ،إبادة لا تعرف صغيرا أو كبيرا رجلا أو امرأة ....
ما كان زوج بطلتنا يستصيغ توجيه رصاص قاتل نحو صدور عارية وشعب أعزل ،فاختار الانشقاق عن جيش حاكمه مجرم ... ليس من السهل أن تنشق عن جيش اعتاد القتل بأبشع الصور ،فلا بد من التخطيط للفرار والهرب من قبضة هذا النظام المجرم وفضحه أمام العالم .. هكذا كان يفكر الرجل خشية أن تلطخ يده بدماء الأبرياء.
هل يسهل الفرار من عصابة تستبيح كل شيء لتبتز معارضيها وتخضعهم لطغيانها ؟؟؟ عصابة تلعب بجميع الأوراق الضاغطة دون قانون يحكم اللعبة ،والورقة اليوم بطلتنا زوجة الجندي المنشق، نحو وجهة هي الجحيم وطريق اللا عودة ،لم تستفق المرأة من صدمتها إلا وهي داخل سجن" صدنايا " أسوء المعتقلات سمعة ... فيه يتم تصفية المعارضين السياسيين أو إعادة برمجتهم أو ابتزازهم بتعذيب ذويهم أمام أعينهم
ما كانت تعرف بطلتنا سبب قدومها إلى هذا المكان وما جريمتها ،بدأ التحقيق بسؤالها
عن زوجها الذي لم تره منذ مدة ، وتدرجت الأسئلة عن قضايا الثورة والمظاهرات والتجنيد وغير ذلك مما لا تفقهه المرأة أصلا ،بدأت حفلة التعذيب كما يحلو للجلادين تسميتها بالضرب حينا... والكهربة حينا... والسحل ... وما تنوء به الجبال مما لا يذكر ..... وفي كل مرة يتجدد السؤال عن مكان زوجها ووجهته التي لا تعرفها ،أو اعتبارها أنها العقل المدبر للمظاهرات وصانعة أسلحة فتاكة وأنها من يهدد أمن الدولة .... شدة التعذيب الذي جعل رقبتها تكسر ثم قدمها أرغمها على قول ما يريدون دون تردد .... ليتم إنزالها بعد ذلك
إلى قبو حالك الظلمة لا يسمع فيه سوى حركة الصراصير والجرذان ورائحة منتنة وديدان تعلو جسدها المنهك قادمة من حيث مصدر الرائحة ،لتكتشف بعد لحظات أن القبو تملؤه الجثث المتعفنة ومنها ما بدا هيكله .... أيام داخل القبو لم تذق الطعام أو تشم رائحته، تكتفي بجرعات ماء من الصنبور المتواجد بمرحاض داخل محبسها .... وبعد أيام من الجوع يفتح باب القبو ويتسلل معه ضوء خافت يظهر الجثث المترامية في كل مكان ،ويقذف الحارس بكسرة خبز يابس في الهواء، لتسقط على الأرض يلتهمها الظلام بعد إغلاق الباب وإحكامه بأقفال عدة ،وهنا تبدأ رحلة البحث بين الجثث عن كسرة الخبز التي التحفت بسواد العتمة
تتسابق هي والجرذان أيهما يفوز بالقطعة التي لوثها الجيش بقاذوراته قبل أن يرسلها للسجينة إمعانا في إذلالها وتعذيبها .
مضت سنوات في هذا الحال تنتظر موتها أما الخلاص فقد يئست منه ،وكالعادة فتح السجان زنزانتها وهي تنتظر فتات الخبز اليابس تواسي به جسمها النحيف وجلدا غطته التقرحات والقيح والجرب وباتت رائحته لا تطاق عند السجان ،أما هي فقد ألفت واعتادت الرائحة وباتت جزءا من سنوات اعتقالها ،أطل الجندي يناديها كما هو حال كل المعتقلين برقم تسلسلي ،فالمعتقل داخل سجون الاستبداد مجرد رقم ليس إلا ،اهتز قلبها وحسبت أنه موعد إعدامها ،فالموت أصبح حلما لكل من دخل هذا السرداب وعاش متاهاته ،قامت وقدمها لا تسعفها من شدة الضعف .... ينهرها السجان بالإسراع متضجرا من رائحتها وبطئها .. يتجه بها نحو قاعة فحص يشرف عليها طبيب باع ذمته و أخلف قسمه حين أصبح سوطا من سياط النظام الجائر ضد الشعب المقهور ... كتب وصفة علاجية للمرأة بعد إخبارها أنها ستخرج من المعتقل إثر صفقة تبادل بين الأسرى ... لم تصدق المرأة الخبر حتى خرجت إلى حيث أهلها وأقاربها ،لكن صدمتها بعد التحرر من الاعتقال وبعد سنوات التعذيب تلك النظرات التي تحمل اللوم والعتاب من الأهل والجيران ،فالعائدة من ردهات سجون النظام المستبد تصبح بضاعة مزجاة في عرف مجتمع يبحث عن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكن بكبش فداء يلقي به إلى المفترس ويعاتبه لما افترسه ....