خطة بن غفير لإعدام الأسرى

مقالات وأبحاث

  • الأحد 21, ديسمبر 2025 10:12 ص
  • خطة بن غفير لإعدام الأسرى
مشهد لافت ذلك الذي ظهر فيه وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير بصحبة بعض أعضاء حزبه في الكنيست وهم يضعون دبوسا على شكل مشنقة أثناء مناقشة مشروع قانون إقرار عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين المدانين بقتل إسرائيليين.
خطة بن غفير لإعدام الأسرى
عبدالله معروف
مشهد لافت ذلك الذي ظهر فيه وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير بصحبة بعض أعضاء حزبه في الكنيست وهم يضعون دبوسا على شكل مشنقة أثناء مناقشة مشروع قانون إقرار عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين المدانين بقتل إسرائيليين.
فـ”بن غفير” هو عراب هذا القانون، حيث كانت النائبة ليمون سون هار ميليخ من حزب “القوة اليهودية”، الذي يرأسه بن غفير، هي التي قدمت مشروع القانون للكنيست، ونجح بن غفير بالفعل في إقرار القانون بالقراءة الأولى في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مما يعطي انطباعا بإمكانية نجاح تمرير المشروع بالقراءتين: الثانية والثالثة وإقراره نهائيا.
فهذا القانون يحظى بدعم من غالبية أعضاء الكنيست من اليمين على اختلاف توجهاتهم، ولا يلقى معارضة أميركية باعتبار أن الولايات المتحدة نفسها تقر عقوبة الإعدام في قوانينها. ولذلك فإن تمرير القانون، نسبيا، سهل ولن يواجه عقبات كبيرة على الأرجح.
وللمفارقة، فإن فكرة إعدام المقاومين الفلسطينيين المدانين بقتل إسرائيليين مسألة تحظى بأغلبية لافتة لدى الجمهور الإسرائيلي، حيث أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة هآرتس غداة تشكيل حكومة الاحتلال عام 2022- أي قبل أكثر من عام على أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول- أن 70٪ من الجمهور الإسرائيلي في ذلك الوقت كان يؤيد تطبيق عقوبة الإعدام بحق المقاومين الفلسطينيين المدانين بقضايا تدرج تحت بند “الإرهاب”.
ولك أن تتخيل مدى انزياح الشارع الإسرائيلي اليوم باتجاه تأييد خطوات بن غفير في ظل حرب الإبادة ضد قطاع غزة. ولعل هذا الأمر هو ما دعا أحزاب المعارضة وعلى رأسها “هناك مستقبل” برئاسة يائير لبيد إلى الانسحاب من جلسة التصويت على مشروع القانون بالقراءة الأولى بدلا من معارضته علنا، بالرغم من اعتبارهم أن هذا القانون بشكله الحالي قد يضر بالدولة وصورتها العالمية، وذلك خوفا من أن يؤثر رفضهم هذا القانون على حظوظهم الانتخابية.
ما قصة القانون؟
قصة هذا القانون في السياسة الإسرائيلية ليست جديدة في الحقيقة، فإسرائيل- وعلى عكس ما يظن الكثيرون- لم تقر أي قوانين تلغي عقوبة الإعدام نهائيا، كما هو الحال لدى الدول الأوروبية وغيرها من دول العالم، ولكن الكنيست الإسرائيلي ألغى عام 1954 عقوبة الإعدام في حالات القتل الجنائي فقط، وأبقى على العقوبة في قوانينه بما يتعلق بتهم “الإرهاب” و”الإبادة” وغيرها مما يتعلق بالنواحي الأمنية.
لكن إسرائيل عمليا لم تنفذ هذه العقوبة منذ إنشائها إلا مرتين فقط، كانت الأخيرة منهما عام 1962 بحق الألماني النازي أدولف إيخمان الذي أدين بجرائم ضد الإنسانية تتعلق بدوره المركزي في الهولوكوست بصفته رئيسا لجهاز الغستابو (الشرطة السرية) خلال الحرب العالمية الثانية.
وعلى مدار سنوات الاحتلال، كانت المحاكم الإسرائيلية قد حكمت أكثر من مرة بالإعدام على مقاومين فلسطينيين مدانين بعمليات ضد الإسرائيليين، لكن محاكم الاستئناف كانت تلغي تلك الأحكام في كل مرة وتستبدل بها عقوبة السجن مدى الحياة، وذلك لاعتبارات كثيرة تتعلق بالدرجة الأولى بالأمن القومي الإسرائيلي وصورة إسرائيل في العالم الغربي باعتبارها دولة عقلانية متحضرة.
وعلى مدى العقدين الماضيين، فإن مناقشات تطبيق وتنفيذ عقوبة الإعدام بحق المقاومين الفلسطينيين كانت مثار نقاش حاد داخل المجتمع الإسرائيلي، وذلك لاعتبارات كثيرة تتعلق بصورة إسرائيل في العالم، إضافة إلى تخوف الجهات الأمنية الإسرائيلية من أن تبعات مثل هذا الأمر لن تكون إيجابية على المجتمع الإسرائيلي من ناحية الردع.
ولكن اليمين الإسرائيلي كان دائما ينادي بضرورة تعديل قوانين العقوبات في إسرائيل؛ لضمان تطبيق هذه العقوبة على من تسميهم إسرائيل المدانين بالإرهاب، أي المتهمين بتنفيذ عمليات مقاومة ضد الإسرائيليين.
ولذلك فإن هذه القضية تصاعدت في إسرائيل عدة مرات كان آخرها عام 2018 عندما تم فتح القانون للنقاش في لجنة الأمن بالكنيست مرة أخرى، ولكنه تأجل بناء على ما اعتبر آنذاك مصلحة عليا للدولة.
إضافة إلى ذلك وفي نفس السياق، فإن مناطق الضفة الغربية بالذات تخضع للقوانين العسكرية في إسرائيل منذ عام 1967 باعتبارها مناطق تحت الاحتلال ولم يتم ضمها لإسرائيل بشكل رسمي، وبالتالي فإن المحاكم العسكرية هي المسؤولة عن هذه المناطق حسب القانون الإسرائيلي، وهذه المحاكم تعتبر خارج سلطة تشريعات الكنيست الإسرائيلي التي لا تتدخل في المحاكم أو القوانين العسكرية وتتركها لتقديرات الجيش الإسرائيلي.
وكان القانون العسكري فيما يتعلق بعقوبة الإعدام في المحاكم العسكرية الإسرائيلية قد وضع قيودا لا بأس بها على عقوبة الإعدام، منها على سبيل المثال اشتراط إجماع هيئة المحكمة العسكرية على عقوبة الإعدام، وإمكانية التخفيف من العقوبة لاعتبارات أمنية معينة، وهو ما كان معمولا به طوال سنوات الاحتلال للضفة الغربية.
وهنا يأتي هذا القانون الذي قدمه حزب إيتمار بن غفير الذي كان قد بنى جزءا لا بأس به من حملته الانتخابية عام 2022 على التدخل في القضاء العسكري بإقرار عقوبة الإعدام بحق المدانين الفلسطينيين بقتل إسرائيليين وتشريعها لتصبح إلزامية للقضاة ولا تخضع لتقدير القاضي، ومنع قضاة المحاكم العسكرية الإسرائيلية من تخفيف عقوبة الإعدام، بل وعدم اشتراط إجماع القضاة على الحكم والاكتفاء في الحكم بالأغلبية.
وكان بحْث هذا القانون في الكنيست إحدى نقاط الاتفاق بين بن غفير ونتنياهو، حيث انضم على إثره بن غفير لحكومة نتنياهو في ذلك العام. ولذلك، فإن السعي الحثيث لـ”بن غفير” في هذه المرحلة من أجل إقرار هذا القانون في الكنيست يعتبر جزءا لا يتجزأ من عقيدته السياسية وبرنامجه الانتخابي الذي سيقدمه بين يدي أنصاره خلال الانتخابات القادمة. ولهذا رأينا بن غفير يوزع الحلوى في الكنيست غداة إقرار مشروع هذا القانون بالقراءة الأولى.
هنا ينبغي الإشارة إلى أن إحدى أخطر النقاط في هذا القانون، هي أنه يشرع عقوبة الإعدام بحق المقاومين الفلسطينيين بأثر رجعي، بمعنى أنه بمجرد إقرار القانون بالقراءة الثالثة ونفاذه يمكن لـ”بن غفير” ارتكاب مجزرة إعدامات جماعية في السجون الإسرائيلية بحق جميع الأسرى الفلسطينيين المدانين أو المتهمين بقتل إسرائيليين في السجون، وأعدادهم تصل إلى حوالي 1500 أسير تقريبا، من بينهم حوالي 200 أسير مدان بالمسؤولية المباشرة عن قتل إسرائيليين، وأكثر من 1200 أسير من غزة تتهمهم إسرائيل بالمسؤولية المباشرة أو غير المباشرة عن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولم يخضعوا لمحاكمات ولا يعرف عنهم أحد شيئا، وتصنفهم بأنهم “مقاتلون غير شرعيين”، حسب تقرير لمركز هاموكيد.
السؤال المطروح هنا: إلى أي مدى يمكن أن ينجح هذا القانون في ردع عمليات المقاومة الفلسطينية؟
بن غفير وأعضاء حزبه والداعمون بشكل عام لهذا القانون يعلنون ليل نهار أنه سيحد من عمليات المقاومة في الأراضي الفلسطينية، وأن الهدف منه الحفاظ على حياة الإسرائيليين.
وهذه الحجة يرى أصحابها أنها ستجعل المقاومين الفلسطينيين يفكرون مرتين قبل الإقدام على عمليات عسكرية ضد أهداف إسرائيلية، فمن يقتل إسرائيليا مصيره الموت، كما يصرح بن غفير في دعايته لصالح هذا القانون، بل إنه يعتبر قانونه هذا أهم قانون في تاريخ التشريعات في إسرائيل لأنه- حسب زعمه- سيردع المقاومين الفلسطينيين عندما يعلمون أن مصير الواحد منهم هو الموت المحتم.
لكن هذا الادعاء في الحقيقة يدل على أن بن غفير- ومن ورائه اليمين الإسرائيلي- لا يستطيع فهم عقلية الفلسطينيين بعد، ولا يمكنه أن يفهم طبيعة تفكير المقاوم الفلسطيني. فنظرة واحدة في تاريخ الصراع تبين أن الموت لم يكن يوما رادعا للمقاومين الفلسطينيين على اختلاف توجهاتهم!
فالعمليات الفدائية التي اشتهرت في تسعينيات القرن الماضي كانت واحدة من أكبر الأدلة على فشل فكرة “التخويف بالموت”، وأذكر في ذلك تصريحا نقله الإعلام عن رئيس الوزراء بالإنابة في ذلك الوقت شمعون بيريز خلال موجة عمليات التفجيرات التي عمت الأراضي الفلسطينية عقب اغتيال المهندس يحيى عياش: “كيف أمنع رجلا يريد أن يموت؟”. بل إن الشعار الذي ترفعه كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس “إنه لجهاد؛ نصر أو استشهاد” يعتبر أكبر دليل على عدم نجاح فكرة ردع المقاومين بالتخويف بالموت.
الأسر- خاصة في هذه الظروف- يعتبر حكما بطيئا بالموت بعد تعذيب شديد كما رأينا خلال العامين الماضيين في جحيم سجن “سدي تيمان” أو “مجدو” أو “النقب” أو غيرها من السجون الإسرائيلية التي حولها بن غفير إلى مسالخ بشرية تشبه أهوالها أهوال سجن “صيدنايا” في سوريا أو سجن “أبو غريب” في العراق.
ولذلك، فإن الفشل الذي ينتظر إسرائيل في حال إقرار هذا القانون ليس أمرا محتملا بل حتميا. ولعل هذا الذي دعا الحاخام لانداو المرجعية الدينية لحزب “ديغيل هتوراه” الحريدي إلى رفض هذا القانون، حيث أوضح أنه سيأتي لإسرائيل بنتائج عكسية، لا على مستوى تضرر صورتها التي دمرت أصلا في العالم بسبب حرب الإبادة البشعة على غزة، وإنما لأنه سيتسبب بموجة عاتية من الانتقام لدى عموم الشعب الفلسطيني في حال الإقدام على تنفيذ مجزرة كهذه التي ينوي بن غفير القيام بها بحق الأسرى الفلسطينيين في السجون، وهذا الأمر في الحقيقة هو ما يتوقعه كل عاقل؛ لأن الشعب الفلسطيني لم يعد لديه ما يخسره. فصب الزيت على النار لا يمكن أن يطفئها، ولن يزيد بن غفير على أن يزيد النار استعارا في المنطقة، وأول من يحترق بالنار هو من يشعلها.