عندما يبكي الرجال.. قهرٌ لا ينتهي

مقالات وأبحاث

  • الخميس 25, ديسمبر 2025 10:03 ص
  • عندما يبكي الرجال.. قهرٌ لا ينتهي
في غزة، لا يُسمح للرجل أن يبكي. ليس لأن الألم أقل، بل لأن منظومة القهر أكبر من أن تحتمل دموعه.
عندما يبكي الرجال.. قهرٌ لا ينتهي
د. بلسم الجديلي
في غزة، لا يُسمح للرجل أن يبكي.
ليس لأن الألم أقل، بل لأن منظومة القهر أكبر من أن تحتمل دموعه.
فهنا، لا تُقاس الحرب بعدد الغارات فقط، بل بما تخلّفه من صدمات نفسية مزمنة في داخل الرجال الذين يُطلب منهم أن يكونوا "جدار الصدّ الأخير"، حتى وهم يتهاوون من الداخل.
من منظور إرشادي، نحن لا نتحدث عن حزن عابر، بل عن ضغط نفسي حاد ومتراكم، يُجبر الرجل على تعطيل مشاعره، وتأجيل ألمه، وكبت خوفه، كي يستمر الآخرون في الاحتماء به.
وبينما تتجه العدسات غالبًا إلى صور النساء والأطفال – وهي معاناة حقيقية لا جدال فيها – يعيش الرجال مأساة مركّبة، قوامها التوقع الدائم بالبطولة، مع الحرمان من حق الانكسار.
مدنيون يُعاملون كأهداف
خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، كان الرجال في دائرة الاستهداف المباشر.
استُهدفوا أثناء التنقّل، وفي محاولات إنقاذ الجرحى، وأثناء البحث عن الماء أو رغيف الخبز.
من الناحية النفسية، هذا النمط من الاستهداف يولّد ما يُعرف بـ الإحساس الدائم بالتهديد الوجودي، حيث يعيش الرجل في حالة استنفار مستمر، حتى في اللحظات التي يُفترض أن تكون "مدنية" أو آمنة.
كثيرون قُتلوا وهم يؤدّون أدوارًا حياتية بحتة، في واقعٍ يُجرَّد فيه الرجل الفلسطيني من صفته المدنية، ويُعاد تعريفه قسرًا كخطر محتمل، لا كإنسان له حق الحياة.
حين يفقد الرجل كل شيء
لا يبدأ القهر عند القصف، بل يستمر بعده.
فالرجل الذي فقد مصدر رزقه، وخسر بيته، أو أُحرقت تجارته، أو توقفت وظيفته، لا يخسر المال فقط، بل يتعرّض لما نُسميه إرشاديًا "انهيار الدور".
الدور هنا ليس اجتماعيًا فقط، بل نفسيًا:
من أكون إذا لم أعد قادرًا على الإعالة؟
ما قيمتي إذا عجزت عن حماية أسرتي؟
في مجتمع يربط الرجولة بالقدرة على الإنفاق والحماية، يتحوّل هذا العجز القسري إلى جرح نفسي عميق، غالبًا ما يُترجم لاحقًا إلى اكتئاب صامت، أو غضب مكبوت، أو انسحاب عاطفي من الأسرة.
بطولة مفروضة وخوفٌ مكتوم
يُطلب من الرجل في غزة أن يظهر شجاعًا في كل الأحوال.
أن يقف ثابتًا حتى وهو يرتعد.
أن يطمئن الآخرين، وهو فاقد لأي شعور داخلي بالأمان.
من زاوية نفسية، هذا ما نسمّيه "إنكار المشاعر تحت الضغط"، وهو آلية دفاعية قد تحمي مؤقتًا، لكنها على المدى البعيد تُفاقم الصدمة بدل معالجتها.
في لحظات القصف، كان الآباء يخفون ارتجاف أيديهم عن أطفالهم، ويقدّمون طمأنينة لفظية، يعرفون في أعماقهم أنها لا توقف الموت، لكنها محاولة يائسة لحماية أطفالهم نفسيًا، حتى لو كان الثمن هو تفككهم الداخلي.
عندما يتساوى الجميع.. بلا استثناء
الحرب لم تفرّق بين "علية القوم" وغيرهم.
رجال اعتادوا المكانة، والقرار، والاستقلال، وجدوا أنفسهم يصطفون أمام شاحنات المياه، أو التكايا، يحملون أواني فارغة.
هذا المشهد، إرشاديًا، ليس مشهد فقر فقط، بل "انكسار صورة الذات".
حين يسقط الامتياز فجأة، دون تمهيد أو معنى، يتعرّض الرجل لصدمة كرامة، لا تقل قسوة عن الجوع نفسه.
الاعتقال.. إذلال يتجاوز الجسد
الاعتقال خلال الحرب شكّل أحد أقسى مصادر الصدمة النفسية للرجال.
التجريد من الملابس، والضرب، والشبح، والحرمان من النوم والطعام، والاعتداءات الجنسية – سواء عبر الكلاب أو أعقاب البنادق – ليست مجرد انتهاكات جسدية.
نحن نتحدث هنا عن صدمة مركّبة (Complex Trauma)، تستهدف الجسد والكرامة والهوية في آن واحد، وتهدف إلى كسر الإنسان من الداخل، لا فقط إيلامه.
المساومة على الكرامة
تحت التحقيق، لم يكن التعذيب وحده هو الأداة.
بل المساومة النفسية:
التعاون مقابل النجاة،
الاعتراف مقابل التخفيف،
الصمت مقابل الأذى للأسرة.
هذه اللحظات تترك ما يُعرف بـ "الذنب الصدمي"، حتى لو لم يتعاون الرجل، إذ يبقى السؤال يطارده:
"ماذا لو؟"
وهو سؤال ثقيل، قد يلازم الناجي سنوات طويلة.
غياب قسري.. وأثر لا يزول
الاعتقال لا يدمّر الفرد فقط، بل يخلخل النظام النفسي للأسرة بأكملها.
زوجات يعشن قلقًا مزمنًا، وأطفال يكبرون في ظل غياب غير مفهوم.
من منظور تربوي، هذا الغياب المعلّق يُربك شعور الأمان لدى الأطفال، ويعيد تشكيل علاقتهم بالسلطة، وبالعالم، وبالثقة نفسها.
صمت الرجال.. جرح غير مرئي
رغم كل ما سبق، لا يجد الرجال مساحة آمنة للتعبير عن أوجاعهم.
الثقافة المجتمعية، والحرب، وخطاب "الصمود"، تفرض عليهم الصمت، وكأن الألم ضعف، لا استجابة إنسانية طبيعية لظروف غير طبيعية.
وهكذا، تتحوّل الصدمة إلى حملٍ داخلي مزمن، غير معالج، وغير معترف به.
إنسان.. قبل أن يكون مطلوبًا منه كل شيء
الحديث عن معاناة الرجال لا ينتقص من معاناة النساء والأطفال، بل يُكمل الصورة النفسية الكاملة للحرب.
فالرجال في غزة ليسوا أدوارًا وظيفية، ولا رموز بطولة دائمة، بل بشرًا لهم حدود، ومشاعر، واحتياجات نفسية حقيقية في غزة، الحرب لا تنتهي بانتهاء الغارات، بل تستمر حين يُمنع الرجل من البكاء، وحين يُطلب منه الوقوف.. وهو منهك، وحين تُترك صدمته بلا احتواء، ولا اعتراف إلا بالحقيقة.