“حرب الأذان”: جزء من محاولات تغيير ملامح هوية هذه الأرض
ساهر غزاوي
من المهم التأكيد في البداية على أن قرار وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، بمصادرة مكبرات الصوت في مساجد بلدات الداخل الفلسطيني، وخصوصًا في المدن المختلطة التي يسكنها عرب ويهود، بزعم أنها “تسبب إزعاجًا للسكان المحليين”، يُعد جزءًا من التصعيد الإسرائيلي المستمر ضد الفلسطينيين في الداخل. هذا القرار يتزامن مع حرب الإبادة على قطاع غزة، والعمليات العسكرية في الضفة الغربية المحتلة، والانتهاكات المتواصلة بحق المسجد الأقصى ومدينة القدس، ويأتي في إطار أوسع من الإجراءات القمعية التي تصاعدت منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وزير الأمن القومي، المعروف بتطرفه وتوجهاته اليمينية المتشددة، استغل هذه الفرصة لتوجيه دعوات لاتخاذ إجراءات قاسية ضد الفلسطينيين، محاولًا رفع سقف المطالب السياسية التي تهدف إلى سلخهم عن انتمائهم الديني والثقافي والحضاري، ومسعى محو ثوابتهم في أبعادها الإسلامية والعروبية والفلسطينية، ضمن سياسة تهدف إلى تهويد الأرض والإنسان الفلسطيني واستئصال الهوية الفلسطينية من جذورها.
ومن بين الأمور التي يتباهى بها بن غفير، الذي يُعتبر من أبرز أشقياء الحكومة الإسرائيلية الحالية، محاولاته لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، أو ما يُعرف بـ “ستاتوس كفو”. فقد تباهى بالتغيير الفعلي الذي شهدته باحات المسجد الأقصى في الأشهر الأخيرة. ففي آب الماضي، بمناسبة ما يُسمى بـ “ذكرى خراب الهيكل”، شارك بن غفير مع مجموعة من المستوطنين في استباحة حرمة المسجد الأقصى، حيث قاموا بأداء طقس “السجود الملحمي” (الانبطاح أرضًا) بشكل جماعي، إضافة إلى الغناء والرقص والصلاة في باحات المسجد، تحت حماية شرطة الاحتلال، في مشهد أصبح يتكرر بشكل مستمر. وفي تصريح له، قال بن غفير: “نحن نُعزّز السيادة في القدس، بما في ذلك المسجد الأقصى (“جبل الهيكل”)، بعد أن كانت السياسة السابقة تقضي بإبعاد أي يهودي يصلي في المكان. لقد غيّرتُ هذه السياسة، وأنا فخور جدًا بذلك”.
أما في ما يتعلق بمحاولات حظر رفع الأذان عبر مكبرات الصوت، يُعتبر الوزير بن غفير، بتطرفه وتوجهاته اليمينية المتشددة (العلنية)، جزءًا من سلسلة طويلة من السياسات الإسرائيلية التي تهدف إلى تقليص أو حتى منع الأذان في بعض المناطق، خاصة في المدن المختلطة. ففي العقد الأخير، بدأت السلطات الإسرائيلية بمناقشة مشاريع قوانين تستهدف تحديد أو منع استخدام مكبرات الصوت في الأذان، في خطوة تعكس التوجهات المتزايدة لتقليص مظاهر الهوية الدينية والعربية والفلسطينية.
في عام 2014، قدّم حزب “إسرائيل بيتنا” مشروع قانون يهدف إلى إلغاء الأذان في كل مكان يُعتبر “بيتًا للصلاة”، إلا أن القانون جُمّد بسبب حل الكنيست. وفي 2015، خلال تصاعد الأحداث في القدس، سعى حزب “البيت اليهودي” إلى سن مشروع قانون يهدف إلى “إسكات أي مكان يصدر منه تحريض”، وحصل على توقيعات أعضاء من حزبي “الليكود” و”كلنا إسرائيل”. أما في 2016، فقد سنت السلطات الإسرائيلية “قانون الأذان” الذي يقضي بحظر رفع الأذان عبر مكبرات الصوت في نحو 500 مسجد في القدس والداخل الفلسطيني. رغم موافقة لجنة التشريعات على المشروع، إلا أن “الكنيست” لم يصادق عليه.
وفي عام 2017، قدمت الحكومة الإسرائيلية مشروع قانون يسمح بتقليص وقت الأذان باستخدام مكبرات الصوت، وهو مشروع أثار جدلًا واسعًا محليًا ودوليًا. ركزت القوانين المقترحة على تقليل حجم الصوت وتحديد أوقات معينة يمكن خلالها رفع الأذان. وكان من اللافت أن هذا القانون جاء بعد انتقاد يائير نتنياهو، نجل رئيس الحكومة الحالي، لصوت الأذان الصادر من قرية جسر الزرقاء القريبة من مقر إقامته في قيساريا. وقد اشتهر يائير بدعمه لمشروع “قانون المؤذن”، وضغط على والده من أجل ضمان نجاحه، ما جعله موضوعًا دائمًا على جدول الأعمال السياسي الإسرائيلي.
وفي السياق ذاته، لا يمكن تجاهل سياسة الاحتلال في المسجد الإبراهيمي في الخليل، حيث يُغلق المسجد سنويًا لمدة عشرة أيام على الأقل، بحجة الأعياد اليهودية، ما يحرم الفلسطينيين من أداء الصلاة فيه. وفي عام 2023، مُنع رفع الأذان في المسجد الإبراهيمي 704 مرات، بحسب وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية، بما في ذلك منع رفع أذان الفجر في أوقات عديدة، ما يضيف فصلًا آخر في مسلسل التضييق على حقوق الفلسطينيين في ممارسة شعائرهم الدينية.
القرار بمنع رفع الأذان يثير تساؤلات عميقة حول السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الداخل، خاصة في ظل تزايد محاولات الحكومة الإسرائيلية في الآونة الأخيرة لتشديد السيطرة على مظاهر الهوية العربية والإسلامية في فلسطين. وتأتي محاولات منع الأذان كجزء من سياسة أوسع تستهدف تقييد الجوانب التعبدية والدينية في هذه البلاد، وهي تعد تدخلًا صارخًا في الشؤون الدينية وانتهاكًا لحرية العبادة التي تكفلها الشرائع السماوية والقوانين الدولية. وهي، في جوهرها، جزء من مساعي الحكومة الإسرائيلية لتحجيم وإلغاء الهوية الفلسطينية داخل حدودها. فالأذان، باعتباره رمزًا دينيًا وثقافيًا مميزًا، يشكل تحديًا لهذه السياسات، ويعكس تمسك الفلسطينيين بهويتهم في وجه محاولات الطمس والتهويد. فالمسألة تتجاوز بكثير مجرد “تقليص الضوضاء”، لتصبح قضية مصيرية تتعلق بمستقبل الهوية الفلسطينية في الفضاء العام. ومن هنا، فإن هذه المحاولات لا تقتصر على مجرد فرض قيود قانونية، بل هي جزء من حرب ثقافية تهدف إلى تغيير ملامح الهوية الفلسطينية في هذه الأرض.
وقد لخص فضيلة الشيخ عكرمة صبري هذه الحقيقة في قوله: “الأذان مرتبط بالصلوات الخمس، ولا يمكن منعه أو التنازل عنه، ولو مُنع من المآذن، فسيرتفع من أسطح المنازل”. هذه الكلمات تؤكد أن المحاولات الإسرائيلية لن تنجح في محو هوية الفلسطينيين، وأن صوت الأذان سيظل يصدح، شامخًا، في وجه محاولات الطمس والتهويد.
ساهر غزاوي
من المهم التأكيد في البداية على أن قرار وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، بمصادرة مكبرات الصوت في مساجد بلدات الداخل الفلسطيني، وخصوصًا في المدن المختلطة التي يسكنها عرب ويهود، بزعم أنها “تسبب إزعاجًا للسكان المحليين”، يُعد جزءًا من التصعيد الإسرائيلي المستمر ضد الفلسطينيين في الداخل. هذا القرار يتزامن مع حرب الإبادة على قطاع غزة، والعمليات العسكرية في الضفة الغربية المحتلة، والانتهاكات المتواصلة بحق المسجد الأقصى ومدينة القدس، ويأتي في إطار أوسع من الإجراءات القمعية التي تصاعدت منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وزير الأمن القومي، المعروف بتطرفه وتوجهاته اليمينية المتشددة، استغل هذه الفرصة لتوجيه دعوات لاتخاذ إجراءات قاسية ضد الفلسطينيين، محاولًا رفع سقف المطالب السياسية التي تهدف إلى سلخهم عن انتمائهم الديني والثقافي والحضاري، ومسعى محو ثوابتهم في أبعادها الإسلامية والعروبية والفلسطينية، ضمن سياسة تهدف إلى تهويد الأرض والإنسان الفلسطيني واستئصال الهوية الفلسطينية من جذورها.
ومن بين الأمور التي يتباهى بها بن غفير، الذي يُعتبر من أبرز أشقياء الحكومة الإسرائيلية الحالية، محاولاته لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، أو ما يُعرف بـ “ستاتوس كفو”. فقد تباهى بالتغيير الفعلي الذي شهدته باحات المسجد الأقصى في الأشهر الأخيرة. ففي آب الماضي، بمناسبة ما يُسمى بـ “ذكرى خراب الهيكل”، شارك بن غفير مع مجموعة من المستوطنين في استباحة حرمة المسجد الأقصى، حيث قاموا بأداء طقس “السجود الملحمي” (الانبطاح أرضًا) بشكل جماعي، إضافة إلى الغناء والرقص والصلاة في باحات المسجد، تحت حماية شرطة الاحتلال، في مشهد أصبح يتكرر بشكل مستمر. وفي تصريح له، قال بن غفير: “نحن نُعزّز السيادة في القدس، بما في ذلك المسجد الأقصى (“جبل الهيكل”)، بعد أن كانت السياسة السابقة تقضي بإبعاد أي يهودي يصلي في المكان. لقد غيّرتُ هذه السياسة، وأنا فخور جدًا بذلك”.
أما في ما يتعلق بمحاولات حظر رفع الأذان عبر مكبرات الصوت، يُعتبر الوزير بن غفير، بتطرفه وتوجهاته اليمينية المتشددة (العلنية)، جزءًا من سلسلة طويلة من السياسات الإسرائيلية التي تهدف إلى تقليص أو حتى منع الأذان في بعض المناطق، خاصة في المدن المختلطة. ففي العقد الأخير، بدأت السلطات الإسرائيلية بمناقشة مشاريع قوانين تستهدف تحديد أو منع استخدام مكبرات الصوت في الأذان، في خطوة تعكس التوجهات المتزايدة لتقليص مظاهر الهوية الدينية والعربية والفلسطينية.
في عام 2014، قدّم حزب “إسرائيل بيتنا” مشروع قانون يهدف إلى إلغاء الأذان في كل مكان يُعتبر “بيتًا للصلاة”، إلا أن القانون جُمّد بسبب حل الكنيست. وفي 2015، خلال تصاعد الأحداث في القدس، سعى حزب “البيت اليهودي” إلى سن مشروع قانون يهدف إلى “إسكات أي مكان يصدر منه تحريض”، وحصل على توقيعات أعضاء من حزبي “الليكود” و”كلنا إسرائيل”. أما في 2016، فقد سنت السلطات الإسرائيلية “قانون الأذان” الذي يقضي بحظر رفع الأذان عبر مكبرات الصوت في نحو 500 مسجد في القدس والداخل الفلسطيني. رغم موافقة لجنة التشريعات على المشروع، إلا أن “الكنيست” لم يصادق عليه.
وفي عام 2017، قدمت الحكومة الإسرائيلية مشروع قانون يسمح بتقليص وقت الأذان باستخدام مكبرات الصوت، وهو مشروع أثار جدلًا واسعًا محليًا ودوليًا. ركزت القوانين المقترحة على تقليل حجم الصوت وتحديد أوقات معينة يمكن خلالها رفع الأذان. وكان من اللافت أن هذا القانون جاء بعد انتقاد يائير نتنياهو، نجل رئيس الحكومة الحالي، لصوت الأذان الصادر من قرية جسر الزرقاء القريبة من مقر إقامته في قيساريا. وقد اشتهر يائير بدعمه لمشروع “قانون المؤذن”، وضغط على والده من أجل ضمان نجاحه، ما جعله موضوعًا دائمًا على جدول الأعمال السياسي الإسرائيلي.
وفي السياق ذاته، لا يمكن تجاهل سياسة الاحتلال في المسجد الإبراهيمي في الخليل، حيث يُغلق المسجد سنويًا لمدة عشرة أيام على الأقل، بحجة الأعياد اليهودية، ما يحرم الفلسطينيين من أداء الصلاة فيه. وفي عام 2023، مُنع رفع الأذان في المسجد الإبراهيمي 704 مرات، بحسب وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية، بما في ذلك منع رفع أذان الفجر في أوقات عديدة، ما يضيف فصلًا آخر في مسلسل التضييق على حقوق الفلسطينيين في ممارسة شعائرهم الدينية.
القرار بمنع رفع الأذان يثير تساؤلات عميقة حول السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الداخل، خاصة في ظل تزايد محاولات الحكومة الإسرائيلية في الآونة الأخيرة لتشديد السيطرة على مظاهر الهوية العربية والإسلامية في فلسطين. وتأتي محاولات منع الأذان كجزء من سياسة أوسع تستهدف تقييد الجوانب التعبدية والدينية في هذه البلاد، وهي تعد تدخلًا صارخًا في الشؤون الدينية وانتهاكًا لحرية العبادة التي تكفلها الشرائع السماوية والقوانين الدولية. وهي، في جوهرها، جزء من مساعي الحكومة الإسرائيلية لتحجيم وإلغاء الهوية الفلسطينية داخل حدودها. فالأذان، باعتباره رمزًا دينيًا وثقافيًا مميزًا، يشكل تحديًا لهذه السياسات، ويعكس تمسك الفلسطينيين بهويتهم في وجه محاولات الطمس والتهويد. فالمسألة تتجاوز بكثير مجرد “تقليص الضوضاء”، لتصبح قضية مصيرية تتعلق بمستقبل الهوية الفلسطينية في الفضاء العام. ومن هنا، فإن هذه المحاولات لا تقتصر على مجرد فرض قيود قانونية، بل هي جزء من حرب ثقافية تهدف إلى تغيير ملامح الهوية الفلسطينية في هذه الأرض.
وقد لخص فضيلة الشيخ عكرمة صبري هذه الحقيقة في قوله: “الأذان مرتبط بالصلوات الخمس، ولا يمكن منعه أو التنازل عنه، ولو مُنع من المآذن، فسيرتفع من أسطح المنازل”. هذه الكلمات تؤكد أن المحاولات الإسرائيلية لن تنجح في محو هوية الفلسطينيين، وأن صوت الأذان سيظل يصدح، شامخًا، في وجه محاولات الطمس والتهويد.