ما أهداف إسرائيل الحقيقية في سوريا؟
د. عبدالله معروف
لم تضيّع إسرائيل الفرصة التي رآها محللوها تاريخية بسقوط نظام بشار الأسد في سوريا لتحاول استباق أي ترتيبات جديدة في البلاد، فانقض الجيش الإسرائيلي في نفس يوم فرار بشار الأسد من دمشق على المنطقة العازلة في هضبة الجولان وسيطر عليها، ثم توغلت الدبابات الإسرائيلية على مدى يومين في داخل القرى السورية المحاذية للمنطقة العازلة، وتمركزت في نقاط إستراتيجية مهمة، فيما بدأ سلاح الجو الإسرائيلي طلعات جوية كثيرة على العاصمة دمشق دمر فيها مرابض الطائرات الحربية السورية وعددًا من مخازن الأسلحة الثقيلة ومراكز الأبحاث وغيرها من المراكز الحساسة.
للحق، لم يكن التحرك الإسرائيلي مستغربًا بحد ذاته؛ لأن إسرائيل بصفتها قوة استعمارية إحلالية تسعى دائمًا لاستغلال أي ظرف محيط بها لتثبيت وقائع جديدة تحاول من خلالها تأمين مشروعها ومدّه بالحياة ما استطاعت، فهذا هو السبيل الوحيد لمشروع الاحتلال الإسرائيلي للبقاء في المنطقة بعد أن فقد أحد أهم مقوماته في السنوات الأخيرة، وهو الأفق السياسي والإستراتيجي، الأمر الذي بات يهدد المشروع برمته بانفراط عقده والتآكل داخليًا.
الخطوة التي لم تكن مستغربة هنا هي سعي إسرائيل لتقليم أظفار سوريا الجديدة عبر تجريد سلطتها الجديدة القادمة أيًا كانت من الأسلحة الثقيلة وخاصة سلاح الطيران. وهذا الأمر يمكن فهمه في سياق سعي إسرائيل الدائم لضمان التفوق العسكري على المحيط العربي والإسلامي حولها.
وبالرغم من أن نظام البعث بقيادة الأسد الأب والابن لم يشكل يومًا تهديدًا جديًا لإسرائيل منذ رسم خطوط وقف إطلاق النار في اتفاقية فض الاشتباك عام 1974، فإن التغيير الهائل الذي يحدث في سوريا الآن حتّم على إسرائيل أن تبادر لضمان أمنها أولًا، فإسرائيل اعتادت ألا تنتظر المستقبل، وإنما تساهم في صياغة ما يهمها منه، ولذلك فإن المسارعة لتجريد النظام الجديد في سوريا قبل أن يتشكل من سلاحه، تعد خطوة متقدمة من إسرائيل، حيث تسعى من خلالها إلى خلق حالة تكون فيها سوريا الجديدة مجردة من السلاح، وبالتالي تشعر بالتهديد الدائم من إسرائيل.
وهذا ما تأمل إسرائيل أن يرغم النظام القادم في سوريا على تسوية أوضاعه مع إسرائيل بإجراء عملية سلام وتطبيع شاملة معها، أو على الأقل تحييده بحيث لا يجرؤ على مواجهة إسرائيل دون سلاح، وهذا ما سيضعه – من وجهة النظر الإسرائيلية – تحت الضغط والتهديد الدائمين.
لعل السياق الذي استغربه كثير من المراقبين في هذه المرحلة هو إقدام الجيش الإسرائيلي على التوسع في الجولان السوري المحتل، وإعلان إلغاء اتفاقية فضّ الاشتباك لعام 1974 التي اعتبرتها إسرائيل قد سقطت مع سقوط النظام السوري السابق، حسب ما أعلن نتنياهو.
وبالرغم من إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي وحكومة نتنياهو في بيانَين منفصلين، أن هذه الإجراءات مؤقتة، فإن هذا ليس أمرًا مسلمًا به، إذ طالما أعلنت إسرائيل عن إجراءات “مؤقتة” استمرت عقودًا ولم تنته إلى اليوم! حتى إن قانون الطوارئ الذي أعلنته إسرائيل مؤقتًا مع إعلان قيامها عام 1948 لا يزال قائمًا ومعمولًا به حتى اليوم، ما دام مفيدًا لتنفيذ أية إجراءات ترغب أي حكومة إسرائيلية بتنفيذها على الأرض، فكيف إذا كان هذا الإجراء “المؤقت” يتعلق بضم المزيد من الأراضي، وتأمين هضبة الجولان بالمزيد من المواقع الحساسة والإستراتيجية المحيطة بها، ولا سيما جبل الشيخ الذي أصبح بالكامل بيد إسرائيل؟
إن هذا التحرك على الأرض يشير في الحقيقة إلى أن إسرائيل تسعى لاستباق الأحداث باكتساب أوراق جديدة تصلح للتفاوض مع النظام الجديد الذي يتشكل حاليًا في سوريا. حيث يمكّن ذلك إسرائيل من أن تفرض رؤيتها لمستقبل العلاقة مع النظام الجديد، خاصة في ظل تجريده من السلاح الثقيل والنوعي وسلاح الطيران.
وينبغي هنا التنبيه إلى أن النظام القادم في سوريا لا يمكن أن يتجاهل الواقع الذي يعيش فيه، والذي يُعتبَرُ وجودُ إسرائيل فيه أحدَ أهم العوامل التي ينبغي أن يتعامل معها شاء أم أبى. فلا يمكن لأحد إنكار أنه لولا وجود إسرائيل إلى جانب الحدود السورية لما كان للعالم كله أن يقف من الثورة السورية تلك المواقف على مدى أربعة عشر عامًا، ولما كانت سوريا ساحة للصراع الدولي الذي كان الكثير من أقطابه يرى في أمن إسرائيل عنوانَ ضرورة الحفاظ على نظام الأسد.
ولذلك، فإنه لا يمكن لأي نظام سوري قادم أن يغفل هذه الحقيقة، ولا أن يتجاهل وجود إسرائيل وترقب العالم كله منه أن يبين كيفية تعامله مع هذه الدولة، وهذا لا ينطبق على المستوى الدولي فقط، بل حتى على المستوى المحلي السوري الذي يعتبر أن له أرضًا تحتلها إسرائيل ويجب أن يستعيدها، وهي هضبة الجولان التي كان أحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام نفسه يتخذها شعارًا في اسمه الذي عرف به سابقًا “أبو محمد الجولاني”.
هناك عدة سيناريوهات يمكن أن تسير إليها الأوضاع في هذه المنطقة المحيطة بالجولان لاحقًا، وهذا يعتمد على كيفية تعامل النظام الجديد في سوريا مع تحدي وجود إسرائيل على حدوده:
أول هذه السيناريوهات هو أن تتمكن إسرائيل من فرض رؤيتها الكاملة على النظام الجديد القادم في سوريا الذي يسعى لكسب موافقة المجتمع الدولي على وجوده، وذلك في ظل انشغال النظام الجديد في السيطرة على الأوضاع الأمنية في سوريا، وضمان عدم انفلاتها في هذه المرحلة الحساسة.
وهذا الاتجاه هو الذي يدفع إليه المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، حيث تأتي تلميحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول إمكانية رفع هيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد الشرع من قوائم الإرهاب في سياق سياسة العصا والجزرة.
ففي مقابل التلويح برفع هذه الهيئة من قوائم الإرهاب، فإنها تلوح كذلك بمقاطعة هذا النظام الجديد، الأمر الذي قد يصل إلى حد فرض الحصار عليه. وهذا السيناريو هو الذي تعمل عليه إسرائيل وحلفاؤها بكل قوتها في هذه المرحلة، بل لعلها تحاول بذلك استباق تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقاليد الحكم الشهر القادم.
ومن السيناريوهات المحتملة في هذا السياق أيضًا هو جر النظام السوري القادم إلى مربع العداء مع العالم عبر إلجائه إلى الرد على الاستفزازات الإسرائيلية في هذه المرحلة المبكرة، بما يمنح إسرائيل الفرصة لاستعداء حلفائها في الدول الغربية عليه؛ باعتبار أن هيئة تحرير الشام مدرجة أصلًا على قوائم الإرهاب. وهو ما تتمنى إسرائيل أن يصل إلى درجة فرض الحصار والعزلة الدولية على سوريا الجديدة، وإشغالها بالتعامل مع تبعات هكذا حصار، كما حصل سابقًا مع العراق، بما يضمن لإسرائيل إبقاء تفوقها الإستراتيجي في المنطقة سنوات أخرى.
كما أن هناك سيناريو آخر محتملًا معاكسًا لما سبق، حيث يمكن أن يساهم الوضع الجديد الهش في سوريا واستفزازات إسرائيل المتوالية إلى تنشيط مجموعات مسلحة محلية من داخل الأراضي المحتلة وما حولها، سواء في الجولان السوري أو القرى والمناطق المحاذية له والقريبة منه، لتقوم بعمليات عسكرية محلية ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة في الأراضي السورية دون تنسيق مع حكومة المعارضة السورية الجديدة، أو هيئة تحرير الشام أو أية جهات أخرى تتبع لها.
وهو ما سيدخل إسرائيل في دوامة جديدة من حرب العصابات التي يكرهها الجيش الإسرائيلي بعد أن ثبت فشله الذريع فيها سواء في غزة وجنوب لبنان، وهذا السيناريو بالذات قد يقلب الطاولة على نتنياهو ويضعه في مواجهة معارضيه في الداخل الإسرائيلي مرة أخرى، كما حدث عندما ثبت فشله في إيقاف الهجمات البرية على قواته في قرى جنوب لبنان، وكما يجري حاليًا منذ أكثر من أربعة عشر شهرًا في غزة، وخاصة في الشمال.
وهذا السيناريو ينبغي عدم استبعاده ببساطة؛ لأن تركيبة المقاتلين المنضمين لألوية الثورة السورية تتناسب مع إمكانية التفكير في هكذا مواجهة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، باعتباره المعتدي على الأراضي السورية والمبادرَ لإلغاء اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974. وخاصة أن عدم تنسيق مثل هذه المجموعات مع الحكومة الانتقالية السورية الجديدة، يجعل الحكومة الانتقالية السورية بكافة مكوناتها في حلّ من أي التزامات تجاه إسرائيل وغيرَ مضطرة للتعامل مع هذه المجموعات باعتبارها تستهدف الجيش الإسرائيلي المعتدي على الأراضي السورية، خاصة أن الحكومة السورية الجديدة لم تتمكن بعد من ضبط سيطرتها على البلاد بالكامل، وبذلك يكون نتنياهو قد أوقع إسرائيل في شر أعمالها.
لا يمكن الجزم بأي هذه السيناريوهات مرشحًا للتحقق، أو بوجود سيناريوهات أخرى غير منظورة تبعًا للتغيرات السريعة على الأرض، فما حدث في غضون أسبوعين في سوريا أذهل العالم بأسره، وبالرغم من محاولات نتنياهو الحثيثة في مؤتمره الصحفي الأول حول سوريا بالتبجح بأن سقوط نظام بشار الأسد يعد أحد إنجازاته الشخصية، فإن أحدًا لم يصدقه ولن يصدقه؛ لأن المفاجأة أخذت الجميع بما فيها إسرائيل، التي تمكنت من التحرك السريع واقتناص الفرصة، كما ذكرنا في بداية هذا المقال.
وبالرغم من ذلك، فإنه لا يمكن الجزم بأن تحرك إسرائيل السريع هذا سيكون بالضرورة في صالحها، وذلك لأن رد الفعل على ما قامت به القوات الإسرائيلية لم يتضح بعد، وإن كان لا بد من أن تفهم سوريا الجديدة أن تجاهل إجراءات إسرائيل الحالية والمستقبلية لن يجعلها في مأمن، فإسرائيل مشروعٌ استعماري توسعي، وفهم طبيعته هذه يجعل التعامل مع التحديات التي يفرضها على سوريا الجديدة أكثر واقعية وأثرًا.
د. عبدالله معروف
لم تضيّع إسرائيل الفرصة التي رآها محللوها تاريخية بسقوط نظام بشار الأسد في سوريا لتحاول استباق أي ترتيبات جديدة في البلاد، فانقض الجيش الإسرائيلي في نفس يوم فرار بشار الأسد من دمشق على المنطقة العازلة في هضبة الجولان وسيطر عليها، ثم توغلت الدبابات الإسرائيلية على مدى يومين في داخل القرى السورية المحاذية للمنطقة العازلة، وتمركزت في نقاط إستراتيجية مهمة، فيما بدأ سلاح الجو الإسرائيلي طلعات جوية كثيرة على العاصمة دمشق دمر فيها مرابض الطائرات الحربية السورية وعددًا من مخازن الأسلحة الثقيلة ومراكز الأبحاث وغيرها من المراكز الحساسة.
للحق، لم يكن التحرك الإسرائيلي مستغربًا بحد ذاته؛ لأن إسرائيل بصفتها قوة استعمارية إحلالية تسعى دائمًا لاستغلال أي ظرف محيط بها لتثبيت وقائع جديدة تحاول من خلالها تأمين مشروعها ومدّه بالحياة ما استطاعت، فهذا هو السبيل الوحيد لمشروع الاحتلال الإسرائيلي للبقاء في المنطقة بعد أن فقد أحد أهم مقوماته في السنوات الأخيرة، وهو الأفق السياسي والإستراتيجي، الأمر الذي بات يهدد المشروع برمته بانفراط عقده والتآكل داخليًا.
الخطوة التي لم تكن مستغربة هنا هي سعي إسرائيل لتقليم أظفار سوريا الجديدة عبر تجريد سلطتها الجديدة القادمة أيًا كانت من الأسلحة الثقيلة وخاصة سلاح الطيران. وهذا الأمر يمكن فهمه في سياق سعي إسرائيل الدائم لضمان التفوق العسكري على المحيط العربي والإسلامي حولها.
وبالرغم من أن نظام البعث بقيادة الأسد الأب والابن لم يشكل يومًا تهديدًا جديًا لإسرائيل منذ رسم خطوط وقف إطلاق النار في اتفاقية فض الاشتباك عام 1974، فإن التغيير الهائل الذي يحدث في سوريا الآن حتّم على إسرائيل أن تبادر لضمان أمنها أولًا، فإسرائيل اعتادت ألا تنتظر المستقبل، وإنما تساهم في صياغة ما يهمها منه، ولذلك فإن المسارعة لتجريد النظام الجديد في سوريا قبل أن يتشكل من سلاحه، تعد خطوة متقدمة من إسرائيل، حيث تسعى من خلالها إلى خلق حالة تكون فيها سوريا الجديدة مجردة من السلاح، وبالتالي تشعر بالتهديد الدائم من إسرائيل.
وهذا ما تأمل إسرائيل أن يرغم النظام القادم في سوريا على تسوية أوضاعه مع إسرائيل بإجراء عملية سلام وتطبيع شاملة معها، أو على الأقل تحييده بحيث لا يجرؤ على مواجهة إسرائيل دون سلاح، وهذا ما سيضعه – من وجهة النظر الإسرائيلية – تحت الضغط والتهديد الدائمين.
لعل السياق الذي استغربه كثير من المراقبين في هذه المرحلة هو إقدام الجيش الإسرائيلي على التوسع في الجولان السوري المحتل، وإعلان إلغاء اتفاقية فضّ الاشتباك لعام 1974 التي اعتبرتها إسرائيل قد سقطت مع سقوط النظام السوري السابق، حسب ما أعلن نتنياهو.
وبالرغم من إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي وحكومة نتنياهو في بيانَين منفصلين، أن هذه الإجراءات مؤقتة، فإن هذا ليس أمرًا مسلمًا به، إذ طالما أعلنت إسرائيل عن إجراءات “مؤقتة” استمرت عقودًا ولم تنته إلى اليوم! حتى إن قانون الطوارئ الذي أعلنته إسرائيل مؤقتًا مع إعلان قيامها عام 1948 لا يزال قائمًا ومعمولًا به حتى اليوم، ما دام مفيدًا لتنفيذ أية إجراءات ترغب أي حكومة إسرائيلية بتنفيذها على الأرض، فكيف إذا كان هذا الإجراء “المؤقت” يتعلق بضم المزيد من الأراضي، وتأمين هضبة الجولان بالمزيد من المواقع الحساسة والإستراتيجية المحيطة بها، ولا سيما جبل الشيخ الذي أصبح بالكامل بيد إسرائيل؟
إن هذا التحرك على الأرض يشير في الحقيقة إلى أن إسرائيل تسعى لاستباق الأحداث باكتساب أوراق جديدة تصلح للتفاوض مع النظام الجديد الذي يتشكل حاليًا في سوريا. حيث يمكّن ذلك إسرائيل من أن تفرض رؤيتها لمستقبل العلاقة مع النظام الجديد، خاصة في ظل تجريده من السلاح الثقيل والنوعي وسلاح الطيران.
وينبغي هنا التنبيه إلى أن النظام القادم في سوريا لا يمكن أن يتجاهل الواقع الذي يعيش فيه، والذي يُعتبَرُ وجودُ إسرائيل فيه أحدَ أهم العوامل التي ينبغي أن يتعامل معها شاء أم أبى. فلا يمكن لأحد إنكار أنه لولا وجود إسرائيل إلى جانب الحدود السورية لما كان للعالم كله أن يقف من الثورة السورية تلك المواقف على مدى أربعة عشر عامًا، ولما كانت سوريا ساحة للصراع الدولي الذي كان الكثير من أقطابه يرى في أمن إسرائيل عنوانَ ضرورة الحفاظ على نظام الأسد.
ولذلك، فإنه لا يمكن لأي نظام سوري قادم أن يغفل هذه الحقيقة، ولا أن يتجاهل وجود إسرائيل وترقب العالم كله منه أن يبين كيفية تعامله مع هذه الدولة، وهذا لا ينطبق على المستوى الدولي فقط، بل حتى على المستوى المحلي السوري الذي يعتبر أن له أرضًا تحتلها إسرائيل ويجب أن يستعيدها، وهي هضبة الجولان التي كان أحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام نفسه يتخذها شعارًا في اسمه الذي عرف به سابقًا “أبو محمد الجولاني”.
هناك عدة سيناريوهات يمكن أن تسير إليها الأوضاع في هذه المنطقة المحيطة بالجولان لاحقًا، وهذا يعتمد على كيفية تعامل النظام الجديد في سوريا مع تحدي وجود إسرائيل على حدوده:
أول هذه السيناريوهات هو أن تتمكن إسرائيل من فرض رؤيتها الكاملة على النظام الجديد القادم في سوريا الذي يسعى لكسب موافقة المجتمع الدولي على وجوده، وذلك في ظل انشغال النظام الجديد في السيطرة على الأوضاع الأمنية في سوريا، وضمان عدم انفلاتها في هذه المرحلة الحساسة.
وهذا الاتجاه هو الذي يدفع إليه المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، حيث تأتي تلميحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول إمكانية رفع هيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد الشرع من قوائم الإرهاب في سياق سياسة العصا والجزرة.
ففي مقابل التلويح برفع هذه الهيئة من قوائم الإرهاب، فإنها تلوح كذلك بمقاطعة هذا النظام الجديد، الأمر الذي قد يصل إلى حد فرض الحصار عليه. وهذا السيناريو هو الذي تعمل عليه إسرائيل وحلفاؤها بكل قوتها في هذه المرحلة، بل لعلها تحاول بذلك استباق تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقاليد الحكم الشهر القادم.
ومن السيناريوهات المحتملة في هذا السياق أيضًا هو جر النظام السوري القادم إلى مربع العداء مع العالم عبر إلجائه إلى الرد على الاستفزازات الإسرائيلية في هذه المرحلة المبكرة، بما يمنح إسرائيل الفرصة لاستعداء حلفائها في الدول الغربية عليه؛ باعتبار أن هيئة تحرير الشام مدرجة أصلًا على قوائم الإرهاب. وهو ما تتمنى إسرائيل أن يصل إلى درجة فرض الحصار والعزلة الدولية على سوريا الجديدة، وإشغالها بالتعامل مع تبعات هكذا حصار، كما حصل سابقًا مع العراق، بما يضمن لإسرائيل إبقاء تفوقها الإستراتيجي في المنطقة سنوات أخرى.
كما أن هناك سيناريو آخر محتملًا معاكسًا لما سبق، حيث يمكن أن يساهم الوضع الجديد الهش في سوريا واستفزازات إسرائيل المتوالية إلى تنشيط مجموعات مسلحة محلية من داخل الأراضي المحتلة وما حولها، سواء في الجولان السوري أو القرى والمناطق المحاذية له والقريبة منه، لتقوم بعمليات عسكرية محلية ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة في الأراضي السورية دون تنسيق مع حكومة المعارضة السورية الجديدة، أو هيئة تحرير الشام أو أية جهات أخرى تتبع لها.
وهو ما سيدخل إسرائيل في دوامة جديدة من حرب العصابات التي يكرهها الجيش الإسرائيلي بعد أن ثبت فشله الذريع فيها سواء في غزة وجنوب لبنان، وهذا السيناريو بالذات قد يقلب الطاولة على نتنياهو ويضعه في مواجهة معارضيه في الداخل الإسرائيلي مرة أخرى، كما حدث عندما ثبت فشله في إيقاف الهجمات البرية على قواته في قرى جنوب لبنان، وكما يجري حاليًا منذ أكثر من أربعة عشر شهرًا في غزة، وخاصة في الشمال.
وهذا السيناريو ينبغي عدم استبعاده ببساطة؛ لأن تركيبة المقاتلين المنضمين لألوية الثورة السورية تتناسب مع إمكانية التفكير في هكذا مواجهة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، باعتباره المعتدي على الأراضي السورية والمبادرَ لإلغاء اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974. وخاصة أن عدم تنسيق مثل هذه المجموعات مع الحكومة الانتقالية السورية الجديدة، يجعل الحكومة الانتقالية السورية بكافة مكوناتها في حلّ من أي التزامات تجاه إسرائيل وغيرَ مضطرة للتعامل مع هذه المجموعات باعتبارها تستهدف الجيش الإسرائيلي المعتدي على الأراضي السورية، خاصة أن الحكومة السورية الجديدة لم تتمكن بعد من ضبط سيطرتها على البلاد بالكامل، وبذلك يكون نتنياهو قد أوقع إسرائيل في شر أعمالها.
لا يمكن الجزم بأي هذه السيناريوهات مرشحًا للتحقق، أو بوجود سيناريوهات أخرى غير منظورة تبعًا للتغيرات السريعة على الأرض، فما حدث في غضون أسبوعين في سوريا أذهل العالم بأسره، وبالرغم من محاولات نتنياهو الحثيثة في مؤتمره الصحفي الأول حول سوريا بالتبجح بأن سقوط نظام بشار الأسد يعد أحد إنجازاته الشخصية، فإن أحدًا لم يصدقه ولن يصدقه؛ لأن المفاجأة أخذت الجميع بما فيها إسرائيل، التي تمكنت من التحرك السريع واقتناص الفرصة، كما ذكرنا في بداية هذا المقال.
وبالرغم من ذلك، فإنه لا يمكن الجزم بأن تحرك إسرائيل السريع هذا سيكون بالضرورة في صالحها، وذلك لأن رد الفعل على ما قامت به القوات الإسرائيلية لم يتضح بعد، وإن كان لا بد من أن تفهم سوريا الجديدة أن تجاهل إجراءات إسرائيل الحالية والمستقبلية لن يجعلها في مأمن، فإسرائيل مشروعٌ استعماري توسعي، وفهم طبيعته هذه يجعل التعامل مع التحديات التي يفرضها على سوريا الجديدة أكثر واقعية وأثرًا.