هل الغرب اليوم مصدر التمدن ومعيار التحضر؟ د. صالح نصيرات

الدكتور صالح نصيرات

  • الخميس 30, ديسمبر 2021 06:12 ص
  • هل الغرب اليوم مصدر التمدن ومعيار التحضر؟      د. صالح نصيرات
مفاهيم ينبغي تصحيحها كثيرة هي التعريفات التي تناولت مفهوم الحضارة، من ابن خلدون إلى وول ديورانت وكذلك تايلور. واختلط مفهوم الحضارة بمفهومين مهمين هما المدنية والثقافة. فجعل بعضهم الحضارة جامعا للمدنية والثقافة، وميز آخرون بين المفاهيم الثلاثة، وجعلوا لكل من المفاهيم الثلاثة خصائص ومزايا تختلف عن الآخر. والتعريفات لغوية أو اصطلاحية هي اجتهادات لذوي الباع في اللغة وعلوم الإنسان خاصة علم الأنثروبولوجيا الثقافية. والتعريفات أيضا تدل على تأثر المعرّف بخلفيته العقدية أو الفكرية أي الأيديلوجيا التي هي تعبير عن نموذج فكري يتبناه الفرد. ولذلك يمكن القول بأن التعريفات في معظمها ليست معيارية مطلقة، بل اجتهادات علماء الاجتماع و التاريخ العام و الإنسان بشكل خاص.
هل الغرب اليوم مصدر التمدن ومعيار التحضر؟ 

مفاهيم ينبغي تصحيحها
كثيرة هي التعريفات التي تناولت مفهوم الحضارة، من ابن خلدون إلى وول ديورانت وكذلك تايلور. واختلط مفهوم الحضارة بمفهومين مهمين هما المدنية والثقافة. فجعل بعضهم الحضارة جامعا للمدنية والثقافة، وميز آخرون بين المفاهيم الثلاثة، وجعلوا لكل من المفاهيم الثلاثة خصائص ومزايا تختلف عن الآخر. والتعريفات لغوية أو اصطلاحية هي اجتهادات لذوي الباع في اللغة وعلوم الإنسان خاصة علم الأنثروبولوجيا الثقافية. والتعريفات أيضا تدل على تأثر المعرّف بخلفيته العقدية أو الفكرية أي الأيديلوجيا التي هي تعبير عن نموذج فكري يتبناه الفرد. ولذلك يمكن القول بأن التعريفات في معظمها ليست معيارية مطلقة، بل اجتهادات علماء الاجتماع و التاريخ العام و الإنسان بشكل خاص.
هذه المقدمة ضرورية لتبني مفهوم ما، وإعطائه قدرا من الأهمية وجعله مرجعا للحديث في هذا الموضوع.  ولاشك بأن التحضر والتمدن له شروطه ومظاهره. ويبدو أن قيمة المفهوم تعكس قناعات شخصية بمرجعية ما. فالغربيون يصرون على أن ما حدث خلال القرون الثلاثة الماضية تحضر ومدنية وتجاوز للماضي بقصد الوصول إلى التمدن، وجعلوا العقل و الخبرة البشرية مرجعيتهم. بل وصل ببعضهم إلى الإنكار على الآخر، ورفض ما لديه من قيم أخلاقية واستيعاب للحياة في مظهرها المادي والصناعي البحت. وجعل فوكوياما الحضارة الغربية هي المعيار الأوحد، وبشر بنهاية التاريخ.
ويبدو لي أن الغربيين جعلوا من التقدم المادي و ما أنتجه العقل الأوروربي خلال القرون الثلاثة من إنجازات على الصعيد المادي وكذلك ما قدموه من رؤى حول حقوق الإنسان بشكل خاص هي عينها الحضارة، متجاوزين عن الكثير من الجرائم  التي ارتكبها "الرجل الابيض" بحق الإنسانية في قارات أمريكا واستراليا وآسيا وأفريقيا. ولذلك فإنني لا أجد مبررا أخلاقيا لاعتبار ما قدمه الغرب من مفاهيم حول الإنسان مقبولا بشكل مطلق. إذ أن التاريخ القريب والبعيد لامبرطورياتهم التي امتدت عبر الزمن من روما إلى واشنطن ومن لندن وباريس إلى موسكو يخبرنا عن مستوى من الهمجية  واحتقار الإنسان واستعباده بشكل لا يماري فيه سوى جاهل أو مغرور. اليس الرجل الابيض هو من برر  من خلال نظريات عنصرية قدمها مفكروه القتل و التدمير الجماعي و المنظم مستخدما "تقدمه" العلمي والمادي. فكانط ونيتشه وهيدجر وهيوم و ديوي وحتى الداروينية تمثل في مجموعها رؤية غربية للآخر بررت للغرب ما فعله بالآخر، حتى وصل الأمر إلى اعتبار الجنس الابيض هو الأحق بالحياة، وما زلنا نسمع هذا الصوت المنكر يتردد في شوارع أمريكا والغرب من خلال النازيين الجدد والعنصريين البيض وما دعوات المرشحين الفرنسيين اليمينيين وترامب من قبلهم وغيرهم إلا صدى لتلك النظريات. وهذا يدعونا إلى التفكير بمصير البشرية "غير البيضاء" لو أمسك هؤلاء بزمام الأمور في الغرب، ونجحوا في القبض على الزناد وحصلوا على "الارقام السريّة" لحقيبة الأسلحة النووية. 
هل بما تقدم يوحي بأننا  نخرج الغرب من الحضارة والتحضر؟ أم أن المفاهيم التي يصوغها الغرب ويصدرها للعالم  في شكل مصطلحات "علمية" يروّج لها تابعون له هي المتحكمة في ثقافة الإنسان اليوم فتجعل الغرب هو الأسوة و المثل الأعلى للتمدن والتحضر؟  
هذا ما سنجيب عليه في المقالة التالية.

الحضارة روحها قيم الدين الحق وجسدها العمران البشري
في  المقالة السابقة تحدثنا عن مفهوم الحضارة ومحاولة الغرب حصرها في قيمه التي بشّر بها في قرون التنوير كما يسميها. ولا نقول ذلك جزافا، إذ أن غالبية المثقفين و فلاسفة التنوير اعتبروا الغرب مصدر الحضارة وأن من يعيش خارج تلك الدائرة ليسوا أكثر من همج وبرابرة. وذكرنا أسماء مهمة في عالم الفكر والفلسفة ممن تحدثوا ونظّروا لتلك الفكرة. ولذلك من المهم جدا أن نفهم ماذا يقصدون عندما يلقون علينا مواعظهم اليومية ويطالبوننا باحترام الآخر والحوار مع الآخر وغيرها من مفاهيم مابعد الحداثة. 
ولسنا هنا في مقام غمط القوم حقهم، فهناك أيضا فلاسفة ومثقفون ليسوا على شاكلة "العنصريين" الأوربيين. ولكن التطبيق العملي للمارسات العنصرية واحتقار الجنوب والشرق الإسلامي تحديدا يتم من خلال سياسات الوصاية والأبوية، واحتكار الحقيقة، والوقوف إلى جانب المغتصب والمحتل والمستبدين الظلمة ومحاربة كل نهضوي في عالم العرب والمسلمين وغير المسلمين.
للتمثيل على العنوان يمكن أن نأخذ الكثير ولكن بعضها يفي بالغرض. لنأخذ بيتا جميلا مليئا بكل وسائل الراحة و التنظيم والجمال و الأبهة التي ينشدها كثيرون ولكن هذا البناء تمارس فيه كل أشكال الظلم والفساد وغياب الإنسانية، فهل يمكن  القول بأن هذا البيت يحقق بما فيه من أثاث ووسائل راحة سعادة لمن يسكنه؟ 
اليوم هناك مدن بنيت لتحقيق متعة للقادرين على شرائها، فهي جميلة المباني والحدائق الغنّاء وتوفيروسائل الترفيه، ولكن من بناها؟ من أين جاءت الأموال؟ وهل الخدم والملونون من المستضعفين الباحثين عن لقمة العيش والذين يعاملون فيها معاملة العبيد من خلال القوانين والأعراف و الممارسات ينالون من تلك المدينة من الرفاهية والسعادة ما يناله أصحاب العمارات الشاهقة والسادة؟  أين الروح وأين الرحمة وأين العدالة وأين وأين الكثير؟ 
هذان المثالان نراهما رأي العين، ونعرفهما حق المعرفة، فهل يمكن القول بأن ذلك البيت يمثل الحضارة أو أن تلك المدينة وغيرها من المدن المماثلة عناوين للحضارة؟ 
الحضارة بمعناها الحقيقي هي قيمة الإنسان وليس كثرة الأشياء. فما قيمة الأشياء إزاء أفعال وسلوكيات وممارسات متحيزة ضد لون الإنسان أو لغته أو دينه أو مهنته أو عرقه؟ ما قيمة الحضارة إذا كانت قيم الدين الحق ومن ينافح عنها لايرون الشمس ولايتمتعون بأدنى الحقوق؟ ماقيمة الحضارة عندما يصبح بيع الإنسان والاتجار به وبجسده مصدر الدخل لبناء المزيد من العمارات والحدائق وأماكن اللهو؟
الحضارة والتحضر سلوك إنساني بقيم ربانية لا خلل ولا اعوجاج فيها.

د.صالح نصيرات