الحاجة الاستراتيجية للتحرك الفلسطيني في الفضاء الدولي
ماجد الزير
حاز المشروع الصهيوني على أرض فلسطين درجةَ النجاح الفعلي بإصدار قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1947، ذلك القرار الذي نصَّ على تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية، وأعطى شرعية دولية للكيان الغاصب “دولة إسرائيل” التي حازت مقعدًا رسميًا في مصاف دول العالم، وذلك بإصدار القرار رقْم 273 للجمعية العامة أيضًا، وقبول عضوية الدولة الناشئة الغاصبة في 14 مايو/ أيار 1949.
وسبق ذلك التاريخ عقود من التحرك الدولي الغربي الذي مهّد لذلك، وأبرزه مصادقة عصبة الأمم في 24 يوليو/ تموز من عام 1922 على صكّ انتداب بريطانيا على أرض فلسطين، وجاء في مضمونه أنه تأسّس على وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور الصادر في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917 بتسهيل إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
وأفضت الخطوات الدولية والتدخل السافر وما يمكن تسميته مؤامرة مكتملة الأركان على غير حق ولا عدل، إلى وقوع نكبة فلسطين عام 1948، وتشريد حوالي 900 ألف فلسطيني في أصقاع الأرض وتحولهم للاجئين، وما زالت معاناتهم مستمرة وبأشكال مختلفة، حيث كانوا داخل فلسطين وخارجها، وأوضح مثال مشاهد المذابح الجماعية والتطهير العرقي التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة طوال 14 شهرًا الماضية، ووقوع نحو 4000 مجزرة، راح ضحيتها ما يزيد على 54 ألف شهيد ومفقود، وأكثر من 104 آلاف جريح (حتى كتابة هذه السطور) .
وحتى مع هذه الجرائم المستمرة ومن دون توقف أو انخفاض وتيرتها وفداحتها وبشاعتها، والتي نقلها الإعلام بأصنافها وأشكالها للعالم أجمع لحظة وقوعها، ولم يشهد التاريخ مثيلًا لدقّة توثيقها فيما يصعب إنكاره أو دحضه، إلا أن الدعم الغربي بكافة أشكاله السياسية والعسكرية والقانونية والدبلوماسية ظل موجودًا، وإن بدرجات متفاوتة بين الدول، ولعل الأكثر وضوحًا منه ما يصدر من صنّاع القرار في واشنطن، فقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو حوالي 50 مرة، لحماية دولة الاحتلال ومنع إدانتها 4 مرات خلال سنة من العدوان الجاري على غزة، وآخرها في 20 نوفمبر / تشرين الثاني، حيث أجمعت 14 دولة في مجلس الأمن على المطالبة الفورية بوقف العدوان على غزة دون شروط، ووقفت واشنطن وحدها ضده.
وإذا ما حسبنا الفيتو الذي استُخدم لمنع إنصاف الشعب الفلسطيني، يصل العدد إلى أكثر من 80 استخدامًا لحق النقض الفيتو. وبالمناسبة، فحق النقض الجدلي في ذاته، هو الذي يمنح حفنة من الدول أفضلية التفوق بالتحكم بمصير العالم، وهذا يتطلب حملة عالمية لتعديل نظام الأمم المتحدة، والعمل على إلغاء بند حق النقض.
إن الحقيقة المجردة، هي أن دولة الاحتلال ما كان لها أن تقوم ويشتدّ عودُها، وأن تستمر في قوتها وتتنامى لولا عدة عوامل تضافرت وتهيأت لها، ومن أبرز هذه العوامل مِداد الدعم العالمي، وخصوصًا من الدول الغربية على الجانب الأوروبي، أو في الغرب البعيد الولايات المتحدة الأميركية.
وهنا تكمن الأهمية الإستراتيجية في البُعد الدولي للقضية، وعدم إغفاله من قبل الشعب الفلسطيني ومناصريه في الطريق لاسترداد الحقوق المسلوبة، وفي معركة التحرير المشروعة. فالتحرك في هذا الفضاء المفتوح والمتاح فيه مجالات حيوية على المستوى الرسمي والشعبي، يُفقد دولة الاحتلال ميزةَ تفوُّقٍ طالما استخدمتها على باطلٍ؛ إمعانًا في اضطهاد الشعب الفلسطيني، والاعتداء على حقوقه، خاصةً أنها متجذرة في العالم الغربي، واندماجها فيه اندماجٌ عضويٌ متين.
وتتعاظم الحاجة للعمل في الفضاءات العالمية لكسب مزيدٍ من التأييد مع ضعف الإسناد العربي في البُعدين: الرسمي والشعبي للشعب الفلسطيني وقضيته، بل وانعدامه أحيانًا. ما كان لمسلسل القتل الجماعي أن يستمر طوال أكثر من 400 يوم بشراسة ودون توقف، لو كان الموقف العربي بشقيه: الرسمي والشعبي، حاضرًا بقوة، وكيف لنا أن نفسر صمود خمسة اتفاقات صلح عربية مع دولة الاحتلال بما فيها اتفاق أوسلو في وقت تُمعن ألة القتل والتدمير الإسرائيلية إثخانًا في الشعب الفلسطيني في غزة.
ونستطرد في أهمية أن يبحث الفلسطينيون وداعموهم عن مساحات العمل المتاحة عالميًا، وقوتها على المستوى الرسمي والشعبي على حد سواء، والأدوات المتاحة، وسهولة التطبيق، ومدى الاستدامة في استخدامها، وكل ذلك تحت سقوف القوانين المحلية والدولية.
وهنا يأتي العالم الغربي وخصوصًا أوروبا من ضمن ما يمكن أن يكون أولويةً في انتظام حراك التضامن للضغط على دولة الاحتلال، وذلك لأسباب موضوعية عديدة تجعل من الحراك ضدها في الدول الأوروبية، وضمن ما يسمح به القانون، مؤثرًا تأثيرًا حقيقيًا وجوهريًا في مسار الانتصار للحقوق الفلسطينية.
وهذا يشكلُ رافعة من ناحية أخرى للشعوب العربية والإسلامية عندما ترى شعوب الأرض تنتفض لأجل الحق الفلسطيني، ويحرجُ الأنظمة الرسميّة العربية للتصدي لمسؤولياتها القومية والدينية والإنسانية تجاه فلسطين وشعبها.
وتزداد أهمية النجاعة الدولية مع قوة تأثيرها في أحيان كثيرة لو تم تفعيلها بشكل صحيح، وما عايشناه من مظاهر حضور عالمي ممتدّ على أطراف الكرة الأرضية داعم للقضية على المستويَين: الرسمي والشعبي خلال الاعتداء على غزة وحرب الإبادة الجماعية بين خريفي 2023 و2024 يثبت شيئًا من هذه الحقيقة.
ولعل الخطوة القانونية الدولية غير المسبوقة في استصدار مذكرة اعتقال وملاحقة من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي الهولندية بحق رئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو، ووزير دفاعه السابق غالانت، يُعد ذلك مثالًا واضحًا على آفاق اكتساب أوراق قوة وضغط ضد دولة الاحتلال وصنّاع القرار فيها.
إن دراسة معمقة، وبالأرقام في حجم الارتباط بين دولة الاحتلال ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في عموم مناحي الحياة بما تعني الكلمة، ندرك مغزى تحقيق مساحات اختراق داخل المجتمعات الأوروبية على المستويين: الرسمي والشعبي لصالح حقوق الشعب الفلسطيني ومظلمته، ويفسر هذا الجنون الذي ينتاب صناع القرار في الدولة العبرية لحضور الرواية والسردية الفلسطينية في العقل الجمعي الأوروبيّ.
فالاتحاد الأوروبي كمثال يُعد الشريك التجاري الأول مع دولة الاحتلال بما قيمته 46.8 مليار يورو في العام 2022 حسب مركز المتوسط للدراسات الإستراتيجية، حيث استحوذ على 28.8% من تجارتها في السلع في نفس العام. وقد بلغت نسبة واردات دولة الاحتلال من الاتحاد الأوروبي 31.9%، بينما بلغت نسبة صادراتها للاتحاد الأوروبي 25.6%.
وتكفي الإشارة لتصريح المفوض السامي للشؤون الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بأن هناك بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي دولًا مستعدة لدعم إسرائيل في كل تصرفاتها، والذي أدلى به لتلفزيون (تي في آي)، فيما يشير لحجم الغطاء السياسي الذي تتلقاه دولة الاحتلال من الجانب الأوروبي.
وعليه تحرص دولة الاحتلال على أن تبقى مساحة أوروبا، كأحد إحداثيات دعمها في العالم، خالية من أي تشويش على علاقاتها، وأن تبقى امتدادًا طبيعيًا لها لناحية قوتها وتفوقها على خصومها، ولهذا فهي شرسة ضد أي تنامٍ للقوة الفلسطينية أو الداعمة لفلسطين التي من شأنها إحداث توازن على الصعيد الأوروبي.
فحسب الموقع الرسمي لتلفزيون (تي آر تي) باللغة العربية بتاريخ 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 نقلًا عن بروفيسور علم الاجتماع في المعهد العالي للدراسات الدولية في جنيف حول لوبيات إسرائيل وأدواتها الرقابية في القارة الأوروبية، بأنها تنفق ملايين الدولارات لملاحقة النشطاء والمدافعين عن الحق الفلسطيني لتشويه صورتهم في الإعلام والتضييق عليهم.
ورغم هذا اللوبي الإسرائيلي وغيره من التحديات أمام حراك التضامن، فإنّ تكشُّف الحقائق وتجليتها خلال العدوان على غزة ونقل الجرائم للعالم ومعه بدأت تعي الشعوب ماهية الصراع وتمييز الظالم من المظلوم والجاني من الضحية، وحجم فداحة الجريمة وفظاعتها، كل ذلك وتأثيره بشكل متقدم على متانة العلاقة بين أوروبا ودولة الاحتلال في مناحٍ عديدة، وأبرزها المزاج العام الشعبي وانتقاله لمرحلة الفعل والتأثير والضغط على صنّاع القرار لثنيهم عن تقديم الدعم لدولة الاحتلال.
وبدأت ثمار ذلك تُجنى سريعًا في المجالات السياسية والقانونية والإعلامية والشعبية والاقتصادية، وفي قطاعات النقابات والأكاديميين والطلاب، فأخذ يتبلور زمن فلسطيني جديد بقوة في الدول والمدن الأوروبية.
لعلنا نعطي أمثلة قريبة الحدوث لدلالة ذلك في حجم التغيير، فالمظاهرات والفعاليات الشعبية أسبوعية بل أصبحت شبه يومية في العواصم والمدن الأوروبية، حتى إن حجم هذه الفعاليات، وحسب المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام، يقترب من 30 ألف مظاهرة في 620 مدينة ممتدة على 20 دولة أوروبية.
وفي الجانب السياسي، ذروة التطور كانت في خوض المتضامنين النمساويين الانتخابات المحلية النمساوية في 29 سبتمبر / أيلول الماضي بقائمة تحمل اسم غزة، حيث عُرض اسم غزة على ورقة الترشيح ضمن 11 قائمة وطنية مرت على ستة ملايين ناخب يسمح لهم بالانتخاب، ورغم أن هدف الناشطين توعية الجمهور بمظلمة غزة، فقد حصدوا على أكثر من عشرين ألف صوت ناخب ربطوا أنفسهم بمظلمة غزة، فيما عدّه السياسيون (زلزال غزة)، واللافت أن قائمة غزة فيها 21 مرشحًا تنوعوا بين نمساويين من أهل البلاد الأصليين وأتراك وبوسنيين وعرب من جنسيات مختلفة، وهم مختلفو الديانات بين يهود ومسيحيين ومسلمين وملحدين، وفيهم من اليسار واليمين.
ومثال آخر على التقدم الداعم في المجال القانوني، ففي اليوم الذي صدرت فيه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت، حققت ثلاث محطات قانونية في ثلاث دول أوروبية، نصرًا، ففي روما الإيطالية كسب داعمو الحق الفلسطيني قضية في محكمة الاستئناف العليا ضد تلفزيون “راي” الرسمي الإيطالي، الذي كان قد اعتبر في نشرة أخبار أن القدس عاصمة إسرائيل، وقد أجبر القاضي في قراره التلفزيون أن يعلن خطأه في نشرة مثيلة وأن يقول إن القدس ليست عاصمة إسرائيل.
وكسبت في باريس الفرنسية، النائبة في البرلمان الأوروبي عن فرنسا، البرلمانية من أصل فلسطيني ريما حسن قضية ضد منعها من أن تحاضر في الجامعات. وفي ذات التوقيت رفع نشطاء هولنديون قضية على الدولة الهولندية لإيقاف تصدير الأسلحة لدولة الاحتلال، وقام التلفزيون الرسمي ببث وقائع المحكمة، وهذا له أثر في نشر الوعي لدى الجمهور الهولندي بماهية الأحداث.
ونقل موقع (هلا) للأخبار في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 عن تحليل أجرته وكالة رويترز أن انخفاضًا ملحوظًا في حجم الاستثمار المالي الأوروبي في دولة الاحتلال ضمن ما نسبته 29% رصدته الوكالة من حجم الاستثمار العالمي في الدولة العبرية لعام 2023، نتيجة للضغوط الدولية عليها لعدوانها على غزة.
إن الحقيقة المجردة، هي أن أحداث غزة ساهمت بشكل انقلابي ودراماتيكي في إحداث اختراق في معادلة الصراع على الصعيد الدولي بالمستويين: الرسمي والشعبي، وأصبح العامل الدولي بالعموم غير منذور بالضرورة لصالح دولة الاحتلال، وساهم في ذلك عوامل عديدة تعاضدت لتعطي مشهدًا للحق الفلسطيني بدأت صورته تكتمل بكل جزئياته، مما يتطلّب تنبهًا إستراتيجيًا على الصعيد الفلسطيني وداعمي الحق الفلسطيني؛ ليتم تعزيزه وتطويره ودخوله حيز الاستدامة في طريق استعادة كامل الحقوق الفلسطينية.
ماجد الزير
حاز المشروع الصهيوني على أرض فلسطين درجةَ النجاح الفعلي بإصدار قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1947، ذلك القرار الذي نصَّ على تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية، وأعطى شرعية دولية للكيان الغاصب “دولة إسرائيل” التي حازت مقعدًا رسميًا في مصاف دول العالم، وذلك بإصدار القرار رقْم 273 للجمعية العامة أيضًا، وقبول عضوية الدولة الناشئة الغاصبة في 14 مايو/ أيار 1949.
وسبق ذلك التاريخ عقود من التحرك الدولي الغربي الذي مهّد لذلك، وأبرزه مصادقة عصبة الأمم في 24 يوليو/ تموز من عام 1922 على صكّ انتداب بريطانيا على أرض فلسطين، وجاء في مضمونه أنه تأسّس على وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور الصادر في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917 بتسهيل إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
وأفضت الخطوات الدولية والتدخل السافر وما يمكن تسميته مؤامرة مكتملة الأركان على غير حق ولا عدل، إلى وقوع نكبة فلسطين عام 1948، وتشريد حوالي 900 ألف فلسطيني في أصقاع الأرض وتحولهم للاجئين، وما زالت معاناتهم مستمرة وبأشكال مختلفة، حيث كانوا داخل فلسطين وخارجها، وأوضح مثال مشاهد المذابح الجماعية والتطهير العرقي التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة طوال 14 شهرًا الماضية، ووقوع نحو 4000 مجزرة، راح ضحيتها ما يزيد على 54 ألف شهيد ومفقود، وأكثر من 104 آلاف جريح (حتى كتابة هذه السطور) .
وحتى مع هذه الجرائم المستمرة ومن دون توقف أو انخفاض وتيرتها وفداحتها وبشاعتها، والتي نقلها الإعلام بأصنافها وأشكالها للعالم أجمع لحظة وقوعها، ولم يشهد التاريخ مثيلًا لدقّة توثيقها فيما يصعب إنكاره أو دحضه، إلا أن الدعم الغربي بكافة أشكاله السياسية والعسكرية والقانونية والدبلوماسية ظل موجودًا، وإن بدرجات متفاوتة بين الدول، ولعل الأكثر وضوحًا منه ما يصدر من صنّاع القرار في واشنطن، فقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو حوالي 50 مرة، لحماية دولة الاحتلال ومنع إدانتها 4 مرات خلال سنة من العدوان الجاري على غزة، وآخرها في 20 نوفمبر / تشرين الثاني، حيث أجمعت 14 دولة في مجلس الأمن على المطالبة الفورية بوقف العدوان على غزة دون شروط، ووقفت واشنطن وحدها ضده.
وإذا ما حسبنا الفيتو الذي استُخدم لمنع إنصاف الشعب الفلسطيني، يصل العدد إلى أكثر من 80 استخدامًا لحق النقض الفيتو. وبالمناسبة، فحق النقض الجدلي في ذاته، هو الذي يمنح حفنة من الدول أفضلية التفوق بالتحكم بمصير العالم، وهذا يتطلب حملة عالمية لتعديل نظام الأمم المتحدة، والعمل على إلغاء بند حق النقض.
إن الحقيقة المجردة، هي أن دولة الاحتلال ما كان لها أن تقوم ويشتدّ عودُها، وأن تستمر في قوتها وتتنامى لولا عدة عوامل تضافرت وتهيأت لها، ومن أبرز هذه العوامل مِداد الدعم العالمي، وخصوصًا من الدول الغربية على الجانب الأوروبي، أو في الغرب البعيد الولايات المتحدة الأميركية.
وهنا تكمن الأهمية الإستراتيجية في البُعد الدولي للقضية، وعدم إغفاله من قبل الشعب الفلسطيني ومناصريه في الطريق لاسترداد الحقوق المسلوبة، وفي معركة التحرير المشروعة. فالتحرك في هذا الفضاء المفتوح والمتاح فيه مجالات حيوية على المستوى الرسمي والشعبي، يُفقد دولة الاحتلال ميزةَ تفوُّقٍ طالما استخدمتها على باطلٍ؛ إمعانًا في اضطهاد الشعب الفلسطيني، والاعتداء على حقوقه، خاصةً أنها متجذرة في العالم الغربي، واندماجها فيه اندماجٌ عضويٌ متين.
وتتعاظم الحاجة للعمل في الفضاءات العالمية لكسب مزيدٍ من التأييد مع ضعف الإسناد العربي في البُعدين: الرسمي والشعبي للشعب الفلسطيني وقضيته، بل وانعدامه أحيانًا. ما كان لمسلسل القتل الجماعي أن يستمر طوال أكثر من 400 يوم بشراسة ودون توقف، لو كان الموقف العربي بشقيه: الرسمي والشعبي، حاضرًا بقوة، وكيف لنا أن نفسر صمود خمسة اتفاقات صلح عربية مع دولة الاحتلال بما فيها اتفاق أوسلو في وقت تُمعن ألة القتل والتدمير الإسرائيلية إثخانًا في الشعب الفلسطيني في غزة.
ونستطرد في أهمية أن يبحث الفلسطينيون وداعموهم عن مساحات العمل المتاحة عالميًا، وقوتها على المستوى الرسمي والشعبي على حد سواء، والأدوات المتاحة، وسهولة التطبيق، ومدى الاستدامة في استخدامها، وكل ذلك تحت سقوف القوانين المحلية والدولية.
وهنا يأتي العالم الغربي وخصوصًا أوروبا من ضمن ما يمكن أن يكون أولويةً في انتظام حراك التضامن للضغط على دولة الاحتلال، وذلك لأسباب موضوعية عديدة تجعل من الحراك ضدها في الدول الأوروبية، وضمن ما يسمح به القانون، مؤثرًا تأثيرًا حقيقيًا وجوهريًا في مسار الانتصار للحقوق الفلسطينية.
وهذا يشكلُ رافعة من ناحية أخرى للشعوب العربية والإسلامية عندما ترى شعوب الأرض تنتفض لأجل الحق الفلسطيني، ويحرجُ الأنظمة الرسميّة العربية للتصدي لمسؤولياتها القومية والدينية والإنسانية تجاه فلسطين وشعبها.
وتزداد أهمية النجاعة الدولية مع قوة تأثيرها في أحيان كثيرة لو تم تفعيلها بشكل صحيح، وما عايشناه من مظاهر حضور عالمي ممتدّ على أطراف الكرة الأرضية داعم للقضية على المستويَين: الرسمي والشعبي خلال الاعتداء على غزة وحرب الإبادة الجماعية بين خريفي 2023 و2024 يثبت شيئًا من هذه الحقيقة.
ولعل الخطوة القانونية الدولية غير المسبوقة في استصدار مذكرة اعتقال وملاحقة من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي الهولندية بحق رئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو، ووزير دفاعه السابق غالانت، يُعد ذلك مثالًا واضحًا على آفاق اكتساب أوراق قوة وضغط ضد دولة الاحتلال وصنّاع القرار فيها.
إن دراسة معمقة، وبالأرقام في حجم الارتباط بين دولة الاحتلال ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في عموم مناحي الحياة بما تعني الكلمة، ندرك مغزى تحقيق مساحات اختراق داخل المجتمعات الأوروبية على المستويين: الرسمي والشعبي لصالح حقوق الشعب الفلسطيني ومظلمته، ويفسر هذا الجنون الذي ينتاب صناع القرار في الدولة العبرية لحضور الرواية والسردية الفلسطينية في العقل الجمعي الأوروبيّ.
فالاتحاد الأوروبي كمثال يُعد الشريك التجاري الأول مع دولة الاحتلال بما قيمته 46.8 مليار يورو في العام 2022 حسب مركز المتوسط للدراسات الإستراتيجية، حيث استحوذ على 28.8% من تجارتها في السلع في نفس العام. وقد بلغت نسبة واردات دولة الاحتلال من الاتحاد الأوروبي 31.9%، بينما بلغت نسبة صادراتها للاتحاد الأوروبي 25.6%.
وتكفي الإشارة لتصريح المفوض السامي للشؤون الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بأن هناك بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي دولًا مستعدة لدعم إسرائيل في كل تصرفاتها، والذي أدلى به لتلفزيون (تي في آي)، فيما يشير لحجم الغطاء السياسي الذي تتلقاه دولة الاحتلال من الجانب الأوروبي.
وعليه تحرص دولة الاحتلال على أن تبقى مساحة أوروبا، كأحد إحداثيات دعمها في العالم، خالية من أي تشويش على علاقاتها، وأن تبقى امتدادًا طبيعيًا لها لناحية قوتها وتفوقها على خصومها، ولهذا فهي شرسة ضد أي تنامٍ للقوة الفلسطينية أو الداعمة لفلسطين التي من شأنها إحداث توازن على الصعيد الأوروبي.
فحسب الموقع الرسمي لتلفزيون (تي آر تي) باللغة العربية بتاريخ 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 نقلًا عن بروفيسور علم الاجتماع في المعهد العالي للدراسات الدولية في جنيف حول لوبيات إسرائيل وأدواتها الرقابية في القارة الأوروبية، بأنها تنفق ملايين الدولارات لملاحقة النشطاء والمدافعين عن الحق الفلسطيني لتشويه صورتهم في الإعلام والتضييق عليهم.
ورغم هذا اللوبي الإسرائيلي وغيره من التحديات أمام حراك التضامن، فإنّ تكشُّف الحقائق وتجليتها خلال العدوان على غزة ونقل الجرائم للعالم ومعه بدأت تعي الشعوب ماهية الصراع وتمييز الظالم من المظلوم والجاني من الضحية، وحجم فداحة الجريمة وفظاعتها، كل ذلك وتأثيره بشكل متقدم على متانة العلاقة بين أوروبا ودولة الاحتلال في مناحٍ عديدة، وأبرزها المزاج العام الشعبي وانتقاله لمرحلة الفعل والتأثير والضغط على صنّاع القرار لثنيهم عن تقديم الدعم لدولة الاحتلال.
وبدأت ثمار ذلك تُجنى سريعًا في المجالات السياسية والقانونية والإعلامية والشعبية والاقتصادية، وفي قطاعات النقابات والأكاديميين والطلاب، فأخذ يتبلور زمن فلسطيني جديد بقوة في الدول والمدن الأوروبية.
لعلنا نعطي أمثلة قريبة الحدوث لدلالة ذلك في حجم التغيير، فالمظاهرات والفعاليات الشعبية أسبوعية بل أصبحت شبه يومية في العواصم والمدن الأوروبية، حتى إن حجم هذه الفعاليات، وحسب المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام، يقترب من 30 ألف مظاهرة في 620 مدينة ممتدة على 20 دولة أوروبية.
وفي الجانب السياسي، ذروة التطور كانت في خوض المتضامنين النمساويين الانتخابات المحلية النمساوية في 29 سبتمبر / أيلول الماضي بقائمة تحمل اسم غزة، حيث عُرض اسم غزة على ورقة الترشيح ضمن 11 قائمة وطنية مرت على ستة ملايين ناخب يسمح لهم بالانتخاب، ورغم أن هدف الناشطين توعية الجمهور بمظلمة غزة، فقد حصدوا على أكثر من عشرين ألف صوت ناخب ربطوا أنفسهم بمظلمة غزة، فيما عدّه السياسيون (زلزال غزة)، واللافت أن قائمة غزة فيها 21 مرشحًا تنوعوا بين نمساويين من أهل البلاد الأصليين وأتراك وبوسنيين وعرب من جنسيات مختلفة، وهم مختلفو الديانات بين يهود ومسيحيين ومسلمين وملحدين، وفيهم من اليسار واليمين.
ومثال آخر على التقدم الداعم في المجال القانوني، ففي اليوم الذي صدرت فيه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت، حققت ثلاث محطات قانونية في ثلاث دول أوروبية، نصرًا، ففي روما الإيطالية كسب داعمو الحق الفلسطيني قضية في محكمة الاستئناف العليا ضد تلفزيون “راي” الرسمي الإيطالي، الذي كان قد اعتبر في نشرة أخبار أن القدس عاصمة إسرائيل، وقد أجبر القاضي في قراره التلفزيون أن يعلن خطأه في نشرة مثيلة وأن يقول إن القدس ليست عاصمة إسرائيل.
وكسبت في باريس الفرنسية، النائبة في البرلمان الأوروبي عن فرنسا، البرلمانية من أصل فلسطيني ريما حسن قضية ضد منعها من أن تحاضر في الجامعات. وفي ذات التوقيت رفع نشطاء هولنديون قضية على الدولة الهولندية لإيقاف تصدير الأسلحة لدولة الاحتلال، وقام التلفزيون الرسمي ببث وقائع المحكمة، وهذا له أثر في نشر الوعي لدى الجمهور الهولندي بماهية الأحداث.
ونقل موقع (هلا) للأخبار في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 عن تحليل أجرته وكالة رويترز أن انخفاضًا ملحوظًا في حجم الاستثمار المالي الأوروبي في دولة الاحتلال ضمن ما نسبته 29% رصدته الوكالة من حجم الاستثمار العالمي في الدولة العبرية لعام 2023، نتيجة للضغوط الدولية عليها لعدوانها على غزة.
إن الحقيقة المجردة، هي أن أحداث غزة ساهمت بشكل انقلابي ودراماتيكي في إحداث اختراق في معادلة الصراع على الصعيد الدولي بالمستويين: الرسمي والشعبي، وأصبح العامل الدولي بالعموم غير منذور بالضرورة لصالح دولة الاحتلال، وساهم في ذلك عوامل عديدة تعاضدت لتعطي مشهدًا للحق الفلسطيني بدأت صورته تكتمل بكل جزئياته، مما يتطلّب تنبهًا إستراتيجيًا على الصعيد الفلسطيني وداعمي الحق الفلسطيني؛ ليتم تعزيزه وتطويره ودخوله حيز الاستدامة في طريق استعادة كامل الحقوق الفلسطينية.