مُفَاصَلـةٌ | «إِنَّـهُ لَيـسَ مِـن أَهـلِكَ».
•••
أربَعَ عشرَةَ آيَةً قُرآنيَّةً مِنْ سُورةِ هُودٍ -عَليهِ السَّلامُ- تَروِي لَنا أَعظَمَ قِصَّةٍ في تاريخِ البَشرِيَّة، قِصَّةٍ تَحمِلُ في طيَّاتهَا مشاهِدَ اختَلطَتْ فيهَا المَشاعِرُ الإنسَانيَّةُ، رَغمَ صُدُورِ القَراراتِ الإلَهيَّةِ.
قـراراتٌ إِلهيـّة:
حَسَمَ الإلَهُ -سُبحَانَهُ- الأَمرَ، وأَسدَلَ القُرآنُ السِّتارَ عنْ مَشهَدٍ استُنفِدَتْ فيهِ كلُّ وسائِلِ التَّرغيبِ للدُّخولِ في دِينِ اللَّهِ -سُبحَانهُ-، وَصدَرَ القَرارُ الإلَهِيُّ الأوَّلُ الَّذي لَا رَجعَةَ فيهِ ﴿وَأوحِيَ إِلى نوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤمِنَ مِن قَومِكَ إِلّا مَن قَد آمَنَ فَلا تَبتَئِس بِما كانوا يَفعَلونَ﴾ [هود:٣٦]، يَتلُوهُ قَرَارٌ إلَهِيٌّ ثَانٍ يَحمِلُ تَوجِيهًا للاستعدَادِ لِمَرحَلةِ المُفَاصَلةِ، والهِجرَةِ بِالدِّينِ مَهما كلَّفَ الثَّمَنُ ﴿وَاصنَعِ الفُلكَ بِأَعيُنِنا وَوَحيِنا وَلا تُخاطِبني فِي الَّذينَ ظَلَموا إِنَّهُم مُغرَقونَ﴾ [هود:٣٧].
استِهـزاءٌ وسُخريـةٌ:
وَإنَّ عَادَةَ المُعَانِدينَ في كُلِّ زمَانٍ ومكَانٍ لَمْ، ولَنْ تَتغَيَّرَ، بَلْ؛ إنَّ هُناكَ قَاسِمًا مُشتَركًا بَينهُم، يَتمَثَّلُ فِي: الاستِهزَاءِ، والسُّخرِيَة، وهِي الوَسِيلَةُ الأكثَرُ قَذَارَةً للتَّثبيطِ، وبَثِّ رُوحِ الهزِيمَةِ، وَالشُّعُورِ بِالعَجزِ فِي نُفُوسِ المُصلِحِينَ، وقَد كانَ ذلكَ جَلِيًّا وواضِحًا مَعَ نُوحٍ -عَليهِ السَّلامُ- ﴿وَيَصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيهِ مَلَأٌ مِن قَومِهِ سَخِروا مِنهُ﴾ [هود:٣٨]، لكِنَّ جَوَابَ الوَاثِقِينَ بِوَعدِ اللَّهِ يَجبُ أنْ يكُونَ حَاضرًا حتَّى لَو كانَ الأُفُقُ مَلِيئًا بالأَسرَارِ، وعَدَمِ الوُضُوحِ مِنْ مَنظُورٍ بَشَرِيٍّ قاصِر ﴿قالَ إِن تَسخَروا مِنّا فَإِنّا نَسخَرُ مِنكُم كَما تَسخَرونَ﴾ [هود:٣٨].
قَـرَارٌ حَيِّـزِ التَّنفِيـذ:
ويبدَأُ جُنودُ اللهِ بتَنفيذِ القَرارِ الإلَهِيِّ دُونَ تَردَّدٍ أَو اعتِراضٍ، لِنُصرةِ الفِئةِ المُؤمِنةِ القَليلةِ، في مَشهدٍ تَتجَلَّى فيهِ عَظَمَةُ الخَالِقِ -سُبحَانهُ- الَّذِي هوَ أكثَرُ غيْرَةً عَلى دِينِهِ مِنْ دُعَاتِهِ، وأولِيائِهِ، وحتَّى أنبِيَائِهِ -عليهِمُ السَّلامُ-.
تَحرَّكَ جُنودُ اللَّهِ الَّتي لَا يَعلمُهَا إلَّا هوَ -سُبْحَانَهُ- فِي مَشهَدٍ غَيَّرَ مَعالِمَ الكَونِ، وخَالَفَ فيهِ الصُّورةَ الذِّهْنِيَّةَ التِي اعتَادَ عَليهَا البَشَرُ، بِهدَفِ نُصْرَةِ مَنْ قَالَ: إنِّي مَغلُوبٌ فَانْتَصِر، فالسَّمَاءُ فَتَحتْ أبْوابهَا بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، والأرضُ فجَّرَتْ عُيُونَها، حتَّى التَقَى المَاءُ عَلى أَمرٍ قَدْ قُدِرَ، وإنَّ الأعظَمَ مِنْ ذَلك كُلِّهِ أنَّ وَسِيلةَ النَّجَاةِ كانَتْ عَلى ذَاتِ أَلْواحٍ ودُسِرٍ، وذلِكَ تأكِيدًا عَلى أنَّهُ إذَا صَدَرَ قَرارُ النُّصْرَةِ، فَلنْ تُعْجِزَهُ وسَائِلُ الانْتِصَارِ.
اختِـلاطُ المَشاعـر:
وَرَغْمَ وُضُوحِ القَرارَاتِ الإلَهِيَّةِ، إلَّا أنَّ العَاطِفَةَ الأبَويَّةَ ظَلَّتْ حاضِرَةً، طَمعًا في نَجَاةٍ مَنْ هُمُ الأقرَبُ، والأحَبُّ إلى القَلبِ لَدَى دَاعِي اَللَّهِ ﴿وَنادى نوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِن أَهلي وَإِنَّ وَعدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحكَمُ الحاكِمينَ﴾ [هود:٤٥].
تصحيـحُ المَسَـار:
وَهُنَا كانَ التَّوجِيهُ الإلَهِيُّ لِتَصحِيحِ المَسَارِ، وَتِبْيَانِ طَبِيعَةِ العَلَاقَةِ الحَقيقِيَّةِ الَّتي تَرْبِطُ بعْضَ البَشَرِ ببَعضِهِمْ، فَلَا الدَّمُ، ولَا الرَّحِمُ، ولَا الإنْسَانِيَّةُ، ولَا حتَّى العَلَاقَةُ الأبَويَّةُ كَفِيلَةٌ أَنْ تَشفَعَ لنَا أمَامَ رَبِّ البَرِّيَّةِ إذَا كانَ هُنَاكَ مُخَالفَةٌ لِمُرَادِ اللَّهِ، فَقَالَ -سُبحَانَهُ- لِنَبيِّهِ ﴿قالَ يا نوحُ إِنَّهُ لَيسَ مِن أَهلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صالِحٍ فَلا تَسأَلنِ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَن تَكونَ مِنَ الجاهِلينَ﴾ [هود:٤٦].
تَسليـمٌ وانقِيـادٌ:
وهذَا مَا يَجِبُ علَى الدُّعَاةِ أنْ يَفهَمُوهُ، ويَتعلَّمُوهُ، ويَسِيرُوا وَفْقَ مَنهَجِهِ، وَنَهْجِه.
فَأنتُم أيُّهَا الدُّعَاةُ: علَيكُم البَذْلُ، والعَطَاءُ، والجُهْدُ، والاجْتِهَادُ فِي الدَّعْوَةِ، وَتَرغِيبُ النَّاسِ علَى اختلَافِ أَشكَالِهِم، وأَلوَانِهم، وأَجنَاسِهم، وحَتَّى مَن يَربطُكُمْ بِهمْ عَلَاقَةُ دَمٍ، وَرَحِمٍ، أَوْ إِنسَانِيَّةٍ؛ وَفي الوَقتِ ذاتِهِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ لَدَيكُم فَصلٌ بينَ المِزَاجِ الذَّاتِيِّ، والحُكْمِ الإلَهِيِّ، والانقِيَادُ والتَّسلِيمُ لَهُ ﴿قالَ رَبِّ إِنّي أَعوذُ بِكَ أَن أَسأَلَكَ ما لَيسَ لي بِهِ عِلمٌ وَإِلّا تَغفِر لي وَتَرحَمني أَكُن مِنَ الخاسِرينَ﴾ [هود:٤٧].
ختامـًا:
صَحِيحٌ أنَّ مِظَلَّةَ الإنسَانِيَّةِ تَجمَعُنَا، وهُنَاكَ عَلَاقَةُ دَمٍ، وَرَحِمٍ تَرْبُطنَا، ولكِنَّ عَلَاقَةَ الدِّينِ هِيَ الأقوَى، وهِيَ العَلَامَةُ الفَارِقَةُ بَيْنَ الثَّقلَينِ الإنْسِ، والجِنِّ عَلى حَدٍّ سَوَاءٍ.
ويَجِبُ عَلى الدَّاعِيَةِ أَنْ يَكُونَ مِفْصَلِيًّا، وواضِحًا، ومُتوَازِنًا، فِي جمِيعِ مَرَاحِلِ دَعوَتِهِ لِمِنْ هُمْ مِنْ غَيْرِ اَلْمُسْلِمِينَ.
فَإِنَّ مِسَاحَةَ التَّعَامُلِ بِمَبْدَأ الإنسَانِيَّةِ، وعَلَاقَةِ الدَّمِ، والرَّحِمِ لَهَا حُدُودٌ، تَنْتَهِي مَعَ انتِهَاءِ استِنفَادِ جَمِيعِ وَسائِلِ التَّرغِيبِ الخَالِيَةِ مِنْ المُدَاهَنَةِ، كَمَا يَجِبُ التَّفرِيقَ بَيْنَ المُفَاصَلَةِ الاعتِقَادِيَّةِ، وَالاجتِمَاعِيَّة.
وللحَدِيث بَقيَّةٌ إنْ شَاءَ الله.
كتبه: د. وفا محمود عيّاد
الخميس، 5. جمادى الآخرة 1444هـ.