من فصائل السلام إلى مليشيات العملاء في غزة: التاريخ لا يغير وجوه الخونة
أشرف القصاص
من يقرأ التاريخ الفلسطيني بتأمل يدرك أن أدوات الاحتلال تتغير، لكن جوهر استراتيجيته يبقى واحدا: تفكيك الجبهة الداخلية، وإشعال الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، وتحويل البندقية من صدر العدو إلى صدر الأخ.
هكذا فعل الاحتلال البريطاني إبان الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وهكذا يفعل الاحتلال الإسرائيلي اليوم في غزة بعد فشله في القضاء على المقاومة عسكريا، عبر صناعة مليشيات محلية متعاونة تخدم أجندة الاحتلال تحت غطاء واه من الخداع السياسي.
يتبع الاستعمار الغربي عموما، والاحتلال الإسرائيلي خصوصا، سياسة استعمارية ثابتة تقوم على إشاعة الفرقة وبث السموم وزرع الشقاق بين أبناء شعبنا، بهدف إنهاك الجبهة الداخلية وإشغال الشعوب بنفسها عن مقاومة عدوها.
وهذا ما تجلى بوضوح خلال حرب الإبادة على غزة، فبعد عجز جيش الاحتلال الإسرائيلي عن تحقيق أهدافه العسكرية، بدأ الحديث عن تشكيل مليشيات موالية له يقودها أشخاص سقطوا في براثن الجاسوسية، بدعم وتنسيق شبه خفي من أجهزة أمن ومخابرات في دول عدة.
مشهد يعيد للأذهان صورة الماضي القريب، وكأن التاريخ الفلسطيني يعيد نفسه، بما يعرف في الذاكرة الوطنية بـ «فصائل السلام» التي أنشأها البريطانيون خلال الثورة الكبرى عام 1936.
كانت “فصائل السلام” نتاج اتفاق بين سلطات الانتداب البريطاني وكلّ من فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي.
نصّ الاتفاق على أن يتولى عبد الهادي قيادة مجموعات مسلحة لمحاربة الثوار بقيادة الشيخ فرحان السعدي نائب الشهيد عز الدين القسام، بينما يقوم النشاشيبي بتعبئة شعبية تبرر هذه الفصائل تحت شعار “التهدئة والسلام”.
انضمّ إلى هذه الفصائل بعض أبناء العائلات التي فقدت أفرادا في سياق الصراع الداخلي أو اختلفت مع الثوار، وسرعان ما تحولت الثورة الفلسطينية، التي انطلقت ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، إلى حربٍ أهلية دفع ثمنها الأبرياء والعزل.
كانت تلك المرحلة جرحا غائرا في الجسد الفلسطيني ما زال أثره ممتدا حتى اليوم، إذ أضعفت النسيج الوطني وأثرت على الموقف الفلسطيني في لحظة الحسم عام 1948.
وقد وصفت المعلمة البريطانية في كلية بيرزيت، مس ويلسون، تلك المرحلة بقولها: “الثورة الفلسطينية آخذة بالتآكل خطوة بعد خطوة… لقد تحولت من حركة وطنية إلى سلسلة من الخصومات، وأصبحت القرى أعشاش دبابير تثيرها الخصومات العائلية القديمة.”
لم يكن وصفها مبالغا فيه. فالروايات الشفوية تروي كيف قاد بعض القادة السابقين للثورة القوات البريطانية في مداهمات ضد قراهم، وأشاروا إلى المقاومين بأكياس خيش على رؤوسهم لا تظهر سوى أعينهم، ليتم اعتقال أو إعدام من أُشير إليهم.
تحولت فصائل السلام إلى أدوات قمع وسلب ونهب، مارست ضد أبناء شعبها أبشع الانتهاكات.
بلغت هذه الفصائل ذروتها عندما ساعد أحد أفرادها البريطانيين على اغتيال القائد العام للثورة، عبد الرحيم الحاج محمد، في آذار/مارس 1939.
وبعد أن أدت هذه المليشيات دورها القذر، تخلت عنها بريطانيا بلا تردد، فجمدت أموال قادتها وطالبتهم بتسليم السلاح ووقف النشاط.
قال المندوب السامي البريطاني مكمايكل في رسالة لوزير المستعمرات: “لقد ساعدنا النشاشيبيون في مرحلة معينة، لكنهم استغلوا وضعهم لخدمة مصالحهم الشخصية، مما أساء إلى سمعتهم وسمعة حكومتنا معهم.”
وهكذا كانت نهاية “فصائل السلام” نهاية ذل وخزي، وبقي التاريخ يلعنها كما يلعن كل خائن ومتعاون باع وطنه للغزاة.
اليوم، وبعد ما يقارب تسعين عاما، يحاول الاحتلال الإسرائيلي إعادة إنتاج التجربة ذاتها في غزة، عبر عصابات عميلة تتستر بشعارات كاذبة عن “السلام” و”الواقعية السياسية”، بينما جوهرها هو خدمة المحتل وتمزيق الصف الفلسطيني.
لكن التاريخ يقول كلمته: لا مجد لخائن، ولا بقاء لعميل. فكلّ من ركب مركب الاحتلال انتهى إلى مزابل التاريخ، بينما بقيت الأسماء الوطنية خالدة: عز الدين القسام، عبد القادر الحسيني، حسن سلامة، يحيى عياش، إبراهيم المقادمة، أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي، محمد الضيف، ويحيى السنوار… ومن سار على دربهم.
إنها عبرة من الماضي القريب، تذكرنا أن الاحتلال لا يبدل وسائله إلا بما يخدم هدفا ثابتا: كسر إرادة الفلسطيني وتشويه وعيه الوطني.
لكن إرادة الشعوب لا تشترى، وذاكرة التاريخ لا تزور، والمصير واحد لكل من باع وطنه: “الخيانة تنسى، أما العار فيبقى ما بقي التاريخ”.
أشرف القصاص
من يقرأ التاريخ الفلسطيني بتأمل يدرك أن أدوات الاحتلال تتغير، لكن جوهر استراتيجيته يبقى واحدا: تفكيك الجبهة الداخلية، وإشعال الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، وتحويل البندقية من صدر العدو إلى صدر الأخ.
هكذا فعل الاحتلال البريطاني إبان الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وهكذا يفعل الاحتلال الإسرائيلي اليوم في غزة بعد فشله في القضاء على المقاومة عسكريا، عبر صناعة مليشيات محلية متعاونة تخدم أجندة الاحتلال تحت غطاء واه من الخداع السياسي.
يتبع الاستعمار الغربي عموما، والاحتلال الإسرائيلي خصوصا، سياسة استعمارية ثابتة تقوم على إشاعة الفرقة وبث السموم وزرع الشقاق بين أبناء شعبنا، بهدف إنهاك الجبهة الداخلية وإشغال الشعوب بنفسها عن مقاومة عدوها.
وهذا ما تجلى بوضوح خلال حرب الإبادة على غزة، فبعد عجز جيش الاحتلال الإسرائيلي عن تحقيق أهدافه العسكرية، بدأ الحديث عن تشكيل مليشيات موالية له يقودها أشخاص سقطوا في براثن الجاسوسية، بدعم وتنسيق شبه خفي من أجهزة أمن ومخابرات في دول عدة.
مشهد يعيد للأذهان صورة الماضي القريب، وكأن التاريخ الفلسطيني يعيد نفسه، بما يعرف في الذاكرة الوطنية بـ «فصائل السلام» التي أنشأها البريطانيون خلال الثورة الكبرى عام 1936.
كانت “فصائل السلام” نتاج اتفاق بين سلطات الانتداب البريطاني وكلّ من فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي.
نصّ الاتفاق على أن يتولى عبد الهادي قيادة مجموعات مسلحة لمحاربة الثوار بقيادة الشيخ فرحان السعدي نائب الشهيد عز الدين القسام، بينما يقوم النشاشيبي بتعبئة شعبية تبرر هذه الفصائل تحت شعار “التهدئة والسلام”.
انضمّ إلى هذه الفصائل بعض أبناء العائلات التي فقدت أفرادا في سياق الصراع الداخلي أو اختلفت مع الثوار، وسرعان ما تحولت الثورة الفلسطينية، التي انطلقت ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، إلى حربٍ أهلية دفع ثمنها الأبرياء والعزل.
كانت تلك المرحلة جرحا غائرا في الجسد الفلسطيني ما زال أثره ممتدا حتى اليوم، إذ أضعفت النسيج الوطني وأثرت على الموقف الفلسطيني في لحظة الحسم عام 1948.
وقد وصفت المعلمة البريطانية في كلية بيرزيت، مس ويلسون، تلك المرحلة بقولها: “الثورة الفلسطينية آخذة بالتآكل خطوة بعد خطوة… لقد تحولت من حركة وطنية إلى سلسلة من الخصومات، وأصبحت القرى أعشاش دبابير تثيرها الخصومات العائلية القديمة.”
لم يكن وصفها مبالغا فيه. فالروايات الشفوية تروي كيف قاد بعض القادة السابقين للثورة القوات البريطانية في مداهمات ضد قراهم، وأشاروا إلى المقاومين بأكياس خيش على رؤوسهم لا تظهر سوى أعينهم، ليتم اعتقال أو إعدام من أُشير إليهم.
تحولت فصائل السلام إلى أدوات قمع وسلب ونهب، مارست ضد أبناء شعبها أبشع الانتهاكات.
بلغت هذه الفصائل ذروتها عندما ساعد أحد أفرادها البريطانيين على اغتيال القائد العام للثورة، عبد الرحيم الحاج محمد، في آذار/مارس 1939.
وبعد أن أدت هذه المليشيات دورها القذر، تخلت عنها بريطانيا بلا تردد، فجمدت أموال قادتها وطالبتهم بتسليم السلاح ووقف النشاط.
قال المندوب السامي البريطاني مكمايكل في رسالة لوزير المستعمرات: “لقد ساعدنا النشاشيبيون في مرحلة معينة، لكنهم استغلوا وضعهم لخدمة مصالحهم الشخصية، مما أساء إلى سمعتهم وسمعة حكومتنا معهم.”
وهكذا كانت نهاية “فصائل السلام” نهاية ذل وخزي، وبقي التاريخ يلعنها كما يلعن كل خائن ومتعاون باع وطنه للغزاة.
اليوم، وبعد ما يقارب تسعين عاما، يحاول الاحتلال الإسرائيلي إعادة إنتاج التجربة ذاتها في غزة، عبر عصابات عميلة تتستر بشعارات كاذبة عن “السلام” و”الواقعية السياسية”، بينما جوهرها هو خدمة المحتل وتمزيق الصف الفلسطيني.
لكن التاريخ يقول كلمته: لا مجد لخائن، ولا بقاء لعميل. فكلّ من ركب مركب الاحتلال انتهى إلى مزابل التاريخ، بينما بقيت الأسماء الوطنية خالدة: عز الدين القسام، عبد القادر الحسيني، حسن سلامة، يحيى عياش، إبراهيم المقادمة، أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي، محمد الضيف، ويحيى السنوار… ومن سار على دربهم.
إنها عبرة من الماضي القريب، تذكرنا أن الاحتلال لا يبدل وسائله إلا بما يخدم هدفا ثابتا: كسر إرادة الفلسطيني وتشويه وعيه الوطني.
لكن إرادة الشعوب لا تشترى، وذاكرة التاريخ لا تزور، والمصير واحد لكل من باع وطنه: “الخيانة تنسى، أما العار فيبقى ما بقي التاريخ”.