الشرق الأوسط المُمزق والدولة اليهودية.. راعية التقسيم
بقلم: اياد الحسن كاتب وباحث
لم تعد التحولات الجارية في الشرق الأوسط مجرد أزمات داخلية معزولة، ولا صراعات عفوية نتجت عن اختلافات سياسية أو اجتماعية، بل بات من الواضح أن المنطقة تعيش ضمن سياق مشروع استراتيجي طويل الأمد، يهدف إلى إعادة تشكيلها على أسس عرقية وطائفية، بما يضمن تفوق الكيان الصهيوني وبقاءه الدولة الأكثر تماسكا وقوة في محيط مفكك ومنهك.
الجذور الفكرية للمشروع
يستند إلى ما يسمى بمشروع «الشرق الأوسط الجديد» إلى منظومة فكرية واستراتيجية موثقة، تعود جذورها إلى عقود سابقة، أبرزها:
- خطة أوديد ينون (1982) التي دعت صراحة إلى تفكيك الدول العربية الكبرى إلى كيانات طائفية وعرقية متناحرة.
- أطروحات المفكر برنارد لويس، التي رأت أن بقاء إسرائيل مرهون بإعادة تشكيل المنطقة على أسس هوياتية.
- تصريحات متكررة لقادة إسرائيليين، في مقدمتهم بنيامين نتنياهو، حول "شرق أوسط من دول صغيرة وضعيفة".
هذه الأفكار لم تبق حبيسة التنظير، بل تحولت تدريجيا إلى سياسات عملية تدار بأدوات عسكرية، استخباراتية، إعلامية، واقتصادية، وغالبا عبر وسطاء إقليميين ودوليين.
واعتماد منطق التفكيك بدل الاحتلال حيث تدرك إسرائيل حقيقة استراتيجية ثابتة مفادها أن دولة معرفة دينيا وقوميا كـ«دولة يهودية» لا يمكن أن تعيش بأمان في محيط عربي موحد وقوي. ومن هنا، لم يعد الهدف احتلال العواصم أو إدارة الأراضي مباشرة، بل إضعاف الدول من الداخل عبر:
- تفجير التناقضات الطائفية والعرقية
- ضرب فكرة الهوية الوطنية الجامعة
- تحويل الدول إلى كيانات فاشلة أو مشلولة القرار
فالدولة المفككة لا تشكّل تهديدا حقيقيا، حتى وإن بقيت قائمة اسميا على الخرائط.
وما نماذج التطبيق في الإقليم
توضح ملامح هذا المشروع بوضوح في عدد من الدول العربية:
- العراق: انقسام طائفي وعرقي بنيوي.
- سوريا: تفكك فعلي إلى مناطق نفوذ وطوائف متصارعة.
- ليبيا: انهيار المركز السياسي وتحول البلاد إلى أقاليم متناحرة.
- اليمن: صراع سلطات وهويات.
- السودان: تقسيم رسمي ثم نزاعات داخلية دامية.
- لبنان: شلل دائم بفعل نظام طائفي يمنع قيام دولة فاعلة.
ولا يشترط لنجاح المشروع إعلان التقسيم رسميا، إذ يكفي إفراغ الدولة من مضمونها السيادي ووظيفتها الوطنية.
ومع استثمار الأقليات كأداة سياسية ضمن هذا السياق، تعتمد إسرائيل خطاب "حماية الأقليات" كغطاء سياسي وأخلاقي للتدخل، سواء عبر دعم انفصالات قائمة كما حدث في جنوب السودان، أو عبر تشجيع نزعات انفصالية كامنة في دول أخرى، باستخدام وسائل ناعمة تشمل الإعلام، والدعم غير المباشر، والتواصل السياسي.
غير أن التجربة التاريخية تظهر أن إسرائيل لا تصنع دولا قابلة للحياة، بل كيانات وظيفية مؤقتة تستخدم كورقة ضغط ثم تترك لمصيرها.
ولا يمكن فصل الاعترافات الإسرائيلية بدول أو كيانات انفصالية، مثل جنوب السودان أو صومال لاند، عن هذا المشروع الأشمل. فهذه الاعترافات لا تنبع من احترام مبدأ تقرير المصير، بقدر ما تهدف إلى:
كسر الدول المركزية
خلق سوابق سياسية وقانونية
إعادة رسم الخرائط بما يخدم المصالح الإسرائيلية
وفي المقابل، ترفض إسرائيل الاعتراف بأي حق مماثل للفلسطينيين، لأن قيام دولة فلسطينية حقيقية يتناقض جوهريا مع فكرة "الدولة اليهودية الخالصة".
ولن تكون الدول المركزية خارج دائرة الاستهداف، وإن أخطر ما في مشروع التفكيك لا يكمن فيما تحقق منه حتى الآن، بل فيما يحضر له مستقبلا. فبعد استهداف دول الأطراف ومناطق الهشاشة، بدأت ملامح الضغط تظهر على دول مركزية كبرى، وفي مقدمتها مصر والمملكة العربية السعودية.
في الحالة المصرية، يعاد إحياء خطاب الأقليات والهويات الدينية تحت عناوين حقوقية وإنسانية، مع التلويح بمسألة "الخصوصية القبطية" في سياق قد يتحول، إذا ما توافرت الظروف، إلى أداة تفكيك ناعم يضرب وحدة الدولة التاريخية. أما في السعودية، فتطرح سيناريوهات التفتيت على أسس مناطقية أو مذهبية أو قبلية، في ظل التحولات الإقليمية والسعي لإعادة تشكيل مركز الثقل في العالم العربي والإسلامي.
إن ما يجري في الشرق الأوسط ليس فوضى عشوائية ولا نتاج أزمات داخلية فقط، بل مسار مخطط تستثمر فيه الانقسامات، ويضخم فيه الاختلاف، ويدار بعناية لضمان بقاء إسرائيل الدولة الأكثر تماسكا واستقرارا في إقليم ممزق.
غير أن التعويل على «وعي الجماهير» لم يعد توصيفا دقيقا للواقع. فالجمهور العربي، في غالبيته، يعيش حالة سبات سياسي عميق، أنهكته الأزمات المعيشية، والإعلام الموجَّه، وصراعات الهوية، حتى بات عاجزا عن الربط بين الأحداث أو إدراك مساراتها الكبرى. والخطر الحقيقي لا يكمن في المؤامرة بحد ذاتها، بل في غياب إدراكها ومواجهتها بوعي جمعي منظم.
إن إفشال هذا المشروع لا يكون بالإنكار ولا بالمجاملات الخطابية، بل بالاعتراف الصريح بحجم الخلل، وبأن التفكيك لن يتوقف عند حدود الدول المنهكة، ما لم تستعاد فكرة الدولة الوطنية الجامعة، ويعاد تعريف الصراع بوصفه صراعا على السيادة والوجود، لا على الطوائف والهويات. فإما دول قوية موحدة قادرة على حماية نفسها، أو كيانات متجاورة متناحرة، تضمن لإسرائيل أن تبقى — وحدها — الدولة المستقرة والمتفوقة في المنطقة.
بقلم: اياد الحسن كاتب وباحث
لم تعد التحولات الجارية في الشرق الأوسط مجرد أزمات داخلية معزولة، ولا صراعات عفوية نتجت عن اختلافات سياسية أو اجتماعية، بل بات من الواضح أن المنطقة تعيش ضمن سياق مشروع استراتيجي طويل الأمد، يهدف إلى إعادة تشكيلها على أسس عرقية وطائفية، بما يضمن تفوق الكيان الصهيوني وبقاءه الدولة الأكثر تماسكا وقوة في محيط مفكك ومنهك.
الجذور الفكرية للمشروع
يستند إلى ما يسمى بمشروع «الشرق الأوسط الجديد» إلى منظومة فكرية واستراتيجية موثقة، تعود جذورها إلى عقود سابقة، أبرزها:
- خطة أوديد ينون (1982) التي دعت صراحة إلى تفكيك الدول العربية الكبرى إلى كيانات طائفية وعرقية متناحرة.
- أطروحات المفكر برنارد لويس، التي رأت أن بقاء إسرائيل مرهون بإعادة تشكيل المنطقة على أسس هوياتية.
- تصريحات متكررة لقادة إسرائيليين، في مقدمتهم بنيامين نتنياهو، حول "شرق أوسط من دول صغيرة وضعيفة".
هذه الأفكار لم تبق حبيسة التنظير، بل تحولت تدريجيا إلى سياسات عملية تدار بأدوات عسكرية، استخباراتية، إعلامية، واقتصادية، وغالبا عبر وسطاء إقليميين ودوليين.
واعتماد منطق التفكيك بدل الاحتلال حيث تدرك إسرائيل حقيقة استراتيجية ثابتة مفادها أن دولة معرفة دينيا وقوميا كـ«دولة يهودية» لا يمكن أن تعيش بأمان في محيط عربي موحد وقوي. ومن هنا، لم يعد الهدف احتلال العواصم أو إدارة الأراضي مباشرة، بل إضعاف الدول من الداخل عبر:
- تفجير التناقضات الطائفية والعرقية
- ضرب فكرة الهوية الوطنية الجامعة
- تحويل الدول إلى كيانات فاشلة أو مشلولة القرار
فالدولة المفككة لا تشكّل تهديدا حقيقيا، حتى وإن بقيت قائمة اسميا على الخرائط.
وما نماذج التطبيق في الإقليم
توضح ملامح هذا المشروع بوضوح في عدد من الدول العربية:
- العراق: انقسام طائفي وعرقي بنيوي.
- سوريا: تفكك فعلي إلى مناطق نفوذ وطوائف متصارعة.
- ليبيا: انهيار المركز السياسي وتحول البلاد إلى أقاليم متناحرة.
- اليمن: صراع سلطات وهويات.
- السودان: تقسيم رسمي ثم نزاعات داخلية دامية.
- لبنان: شلل دائم بفعل نظام طائفي يمنع قيام دولة فاعلة.
ولا يشترط لنجاح المشروع إعلان التقسيم رسميا، إذ يكفي إفراغ الدولة من مضمونها السيادي ووظيفتها الوطنية.
ومع استثمار الأقليات كأداة سياسية ضمن هذا السياق، تعتمد إسرائيل خطاب "حماية الأقليات" كغطاء سياسي وأخلاقي للتدخل، سواء عبر دعم انفصالات قائمة كما حدث في جنوب السودان، أو عبر تشجيع نزعات انفصالية كامنة في دول أخرى، باستخدام وسائل ناعمة تشمل الإعلام، والدعم غير المباشر، والتواصل السياسي.
غير أن التجربة التاريخية تظهر أن إسرائيل لا تصنع دولا قابلة للحياة، بل كيانات وظيفية مؤقتة تستخدم كورقة ضغط ثم تترك لمصيرها.
ولا يمكن فصل الاعترافات الإسرائيلية بدول أو كيانات انفصالية، مثل جنوب السودان أو صومال لاند، عن هذا المشروع الأشمل. فهذه الاعترافات لا تنبع من احترام مبدأ تقرير المصير، بقدر ما تهدف إلى:
كسر الدول المركزية
خلق سوابق سياسية وقانونية
إعادة رسم الخرائط بما يخدم المصالح الإسرائيلية
وفي المقابل، ترفض إسرائيل الاعتراف بأي حق مماثل للفلسطينيين، لأن قيام دولة فلسطينية حقيقية يتناقض جوهريا مع فكرة "الدولة اليهودية الخالصة".
ولن تكون الدول المركزية خارج دائرة الاستهداف، وإن أخطر ما في مشروع التفكيك لا يكمن فيما تحقق منه حتى الآن، بل فيما يحضر له مستقبلا. فبعد استهداف دول الأطراف ومناطق الهشاشة، بدأت ملامح الضغط تظهر على دول مركزية كبرى، وفي مقدمتها مصر والمملكة العربية السعودية.
في الحالة المصرية، يعاد إحياء خطاب الأقليات والهويات الدينية تحت عناوين حقوقية وإنسانية، مع التلويح بمسألة "الخصوصية القبطية" في سياق قد يتحول، إذا ما توافرت الظروف، إلى أداة تفكيك ناعم يضرب وحدة الدولة التاريخية. أما في السعودية، فتطرح سيناريوهات التفتيت على أسس مناطقية أو مذهبية أو قبلية، في ظل التحولات الإقليمية والسعي لإعادة تشكيل مركز الثقل في العالم العربي والإسلامي.
إن ما يجري في الشرق الأوسط ليس فوضى عشوائية ولا نتاج أزمات داخلية فقط، بل مسار مخطط تستثمر فيه الانقسامات، ويضخم فيه الاختلاف، ويدار بعناية لضمان بقاء إسرائيل الدولة الأكثر تماسكا واستقرارا في إقليم ممزق.
غير أن التعويل على «وعي الجماهير» لم يعد توصيفا دقيقا للواقع. فالجمهور العربي، في غالبيته، يعيش حالة سبات سياسي عميق، أنهكته الأزمات المعيشية، والإعلام الموجَّه، وصراعات الهوية، حتى بات عاجزا عن الربط بين الأحداث أو إدراك مساراتها الكبرى. والخطر الحقيقي لا يكمن في المؤامرة بحد ذاتها، بل في غياب إدراكها ومواجهتها بوعي جمعي منظم.
إن إفشال هذا المشروع لا يكون بالإنكار ولا بالمجاملات الخطابية، بل بالاعتراف الصريح بحجم الخلل، وبأن التفكيك لن يتوقف عند حدود الدول المنهكة، ما لم تستعاد فكرة الدولة الوطنية الجامعة، ويعاد تعريف الصراع بوصفه صراعا على السيادة والوجود، لا على الطوائف والهويات. فإما دول قوية موحدة قادرة على حماية نفسها، أو كيانات متجاورة متناحرة، تضمن لإسرائيل أن تبقى — وحدها — الدولة المستقرة والمتفوقة في المنطقة.