لقد تنبه الاحتلال مُبكرا الى نشاطات الحركة الإسلامية التي قام بحظرها أواخر عام 2015 في المسجد الأقصى المُبارك تلكم الحركة التي وقف على رأسها فضيلة الشيخ رائد صلاح فرجَّ الله كربه، وكيف نجحت في خلق حالة من التماهي التعبدي والعقدي بين المسلمين من الداخل الفلسطيني والمسجد الأقصى ونسجت عبر ثقافة خاصة أرتأتها تتجلى مطالعها بمنظومات من قيم الدين المتحصلة من العلاقة التعبدية بين المسلم وثالث المساجد ونقلته رويدا رويدا من الحلقة التعبدية الى الحلقة العقدية باعتباره جزءاً من معتقد إسلامي يرى به ثالث الحرمين ومحط شد الرحال ومنطلق المعراج والتقاء الأرض بالسماء لتكون القدس والمسجد الأقصى ليس مجرد مسجد بل نقطة تجمع عقدي-تعبدي ونجحت هذه الحركة بجعله ثقافة سائدة بين "الكل" في الداخل الفلسطيني فتعاطى معه المسلم المتدين على انه قضية عقدية تعبدية وتعامل معه غير المتدين ممن يدينون بايديولوجيات مختلفة على أنه قضية وطنية وقومية وتعامل معه الانسانيون على انه قضية حقوق دينية ومن ثم فقد تنبه الاحتلال الى ان العامل الثقافي الذي هو في جوهره سياسة تدخل الى معترك المواجهات السياسية والاجتماعية مع الاحتلال ليس في مدينة القدس بل في عموم الداخل الفلسطيني، وكانت مسيرات البيارق الفكرة التي قضت مضجع الاحتلال بعد أن استحال الأقصى الى حالة ثقافية نامية في مجتعنا في الداخل الفلسطيني، وأحسب ان الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيلياً يكفيها ان تلاقي الله رب العالمين بهذا المنجز الذي بات حالة ثابتة كشفت مدياته هبة الكرامة .
الاحتلال بدوره أوعز الى التنظيمات الدينية المتطرفة للقيام باقتحامات للمسجد تحت حماية المؤسسة ساعية لمحاكة ما كانت تقوم به الحركة الإسلامية من تسيير القوافل الى المسجد الأقصى حيث تولى كِبَرَ هذه المهمة طوائف متفرقة من اليمين الديني الصهيوني والحاريدية المتصهينة لاقتحامه ولأول مرة في تاريخ الصراع الديني-الديني اليهودي تدخل فتاوى اقتحامات المسجد على خطوط المساجلات البين دينية والتي باتت حاضرة وبقوة في النقاشات الحكومية ومن نافلة القول الإشارة الى تصريحات وزير الامن الداخلي العمالي عومير بار ليف يوم الاحد 17\10\2021 من ان الحكومة الحالية التي فيها شريك القائمة العربية الموحدة الذراع السياسي للحركة الإسلامية الجنوبية ستستمر في سياسات سابقاتها من الحكومات في اقتحام المسجد الأقصى والتواصل مع الأردن ودائرة الاوقاف.
الاحتلال اليوم يعمل جاهدا بعد ان أصدر العديد من الحاخامات الوازنين الفتاوى بجواز الدخول الى ساحات المسجد لتحصيل منجز ثقافي ديني يتلخص بالعمل على مكوث المتدينين اليهود في المسجد الأقصى في مناطق بعينها( من باب الاسباط الى مصلى الرحمة وأسفل قبة الصخرة ) يعينه على ذلك صمت عربي مؤلم ومخزي واختفاء شبه متعمد لما يُسمى منظمة التعاون، وتصريحات سلطوية تصدر من رام الله جدُّ خجولة وموافقات صامتة عربية مُطبعة وحتى غير مُطبعة ونقاشات باتت تطرح علنا في أروقة حكومة الاحتلال وجهاز الشاباك المتخوف من مثل هذه الإجراءات التصعيدية ..
البُعد الثقافي بمكوناته الدينية والسياسية بات حاضراً وبقوة في المشهد الاحتلالي في المدينة المُقدسة والمسجد الأقصى المُبارك وما هذه الاقتحامات التي ارتفعت وتيرتها بشكل لافت في الأشهر الأخيرة الى مرحلة أخرى من مراحل تطبيع العين الفلسطينية على الوجود اليهودي داخل المسجد الأقصى بعد أن قطعت مرحلة تطبيع العين الباصرة على الوجود اليهودي بمشهديته العمرانية داخل البلدة القديمة حيث بنيت الكُنس والمدارس الدينية الضخمة داخل البلدة القديمة وبمحاذاة المسجد كما هو حال يشيفت هكوتيل القائمة في الحي الغربي وما أعلام الاحتلال التي ترفرف عالية فوق هذه المدرسة العملاقة والتي تراها على مدار الساعة كل عين في ساحات الأقصى المُبارك إلا جزءا من المشهدية الرامية لتحقيق التطبيع البصري مع الوجود الديني اليهودي وهذه القضية ليست عابرة بل متعمدة هدفها كما ذكرت تحقيق التطبيع البصري هذا فضلا عن اليهود الذين يسكنون البلدة القديمة داخل الحي الإسلامي ويمارسون اعمالا استفزازية يومية، ومن يجوب ازقة البلدة القدية بات يُلاحِظ الوجود اليهودي من أصول هندية وصينية ممن تمَّ جلبهم بصمت ليسكنوا البلدة القديمة .
في الصورة .. يشيفت هكوتيل تطل وعلم الاحتلال على سطحها حيث يراه المصلون.. مشهد للتطبيع البصري
الصراع الثقافي الخفي..
الالاف من الطلاب اليهود والموظفين الرسميين وغير الرسميين وطواقم أمن وجيش وشرطة تدخل المسجد الأقصى المُبارك تحت لافتة التَعرُف على المسجد الأقصى " جبل الهيكل" والاستماع الى روايات كاذبة ما أنزل الله بها من سلطان بيدَ انَّ جوهر هذه العملية سياسي بامتياز وايديولوجي بامتياز أذ يسعى الاحتلال لتذويب قيم جامعة لهؤلاء ممن يسميهم حراس المعبد ولذلك ثمة ضرورات لحك العقل وسرد الرواية وتثبيت البُعد الأيديولوجي عبر اداتي التاريخ والاثار وذلك كله يتم برسم القوة الباسطة ذراعها وسلاحها في جنبات المسجد فهل سيحقق الاحتلال مبتغاه من وراء هذه العملية الثقافية الساعية لجعل المسجد هيكلا كمعتقد جامع للكل اليهودي بغض النظر عن الخلفيات الأيديولوجية والطروحات الاجتماعية والفكرية .
صراع خفي يدور على بوابات البلدة القديمة والمسجد الأقصى وعموم القدس له ظاهر يتجلى بعنف الاحتلال وبطشه وله باطن ثقافي له اخلاقياته وأدواته ومراميه يسعى الاحتلال من خلال الجمع بين ادواته الناعمة التي سنتعرض لها في مقالات قادمة والقوة الخشنة الممثلة بالاحتلال لجعل المقدسي والعربي والمسلم يقبل بوجود المحتل عبر تطبيع بصري وتذويب ثقافي يُعمل فيه على الأجيال الناشئة في المدينة المقدسة .
يعتقد كاتب هذه السطور ان الاحتلال سيبذل جهودا جبارة وسيصرف مئات الملايين من الدولارات لتحقيق هذه الغاية ولكن هذا لن ينجح أولا بسبب النفسية الإسرائيلية وخلفياتها الجيتوية وثانيا بسبب النزعة الشوفينية التي تعيشها الجماعات الدينية المتصهينة وغير المتصهينة كلُّ لاوليائه من الحاخامات وللمعتقد التوراتي الذي يُنَظِرُ له هؤلاء الحاخامات وعلاقة الموضوع بالمسجد الأقصى " الهيكل" والنظريات والرؤى التوراتية اتجاهه وموقفهم من تلكم الطروحات وقد باتت الهوة بين هذه المدارس جدّ سحيقة لا يمكن تجسيرها وأخيرا لأن ا لحالة الاحتلالية واضحة في كل مفصل من مفاصل الحياة في مدينة القدس والبلدة القديمة والمسجد الأقصى تُذَكِرُ المقادسة والمسلمين ان الاحتلال موجود وممارساته البلطجية تعزز عقل المواجهة كما تعزز عقل الخوف بل " الخواف" عند المحتل . وما العملية الاستفزازية التي قامت بها حركة الصهيونية الدينية ( الممثلة للتيار الديني الحارديلي والصهيوني الديني) بزعامة بن غفير ( من تلاميذ الحاخام كهانا) وبتسلئيل سمموطريتش( ابن الحركة الصهيونية-الدينية) يوم الأربعاء المنصرم من مسيرة استفزاز في ازقة البلدة القديمة تحت حماية مخابراتية وشرطية وحرس حدود الا بيان للحالة الاحتلالية .
في الوعي وفي اللاوعي العربي الفلسطيني القدس وإن تغيرت معالمها الجغرافية والعمرانية والبلدة القديمة وإن سعى الاحتلال لفرض سيطرته عليها علنا وبأدوات مدينية ( سنتعرض لهذا الموضوع في مقالات قادمة) وإن فرض وجودا شُرطيا وامنيا وعسكريا في المسجد الأقصى المُبارك ستبقى القدس والبلدة القديمة والمسجد الأقصى عربية إسلامية وهذا على الأقل ما تثبته الاحداث اليومية .
ما تحتاجه القدس اليوم وساكنة البلدة القديمة والمسجد الأقصى موقفا عربيا وإسلاميا علنيا يعمم ثقافة الإنتماء للمدينة القدس والتأكيد على انها والمسجد الاقصى ليست شأناً فلسطينيا خالصا..
مُعيب أن نرى بعض العرب ممن ارتهنوا للجهل وفقدان الوعي يصلون مع المحتل في ساحات البراق.