إشكالية النموذج ....
إنَّ الأفكار العظيمة لا تنجح بين الناس إلا إذا تمثَّـلَت في عالم الناس من خلال رمز (أو رموز)، يتحرك بين الناس مُطبقاً هذه الأفكار. ولا بـدَّ أن يكون هذا الرمز صالحاً للاقتداء بـه، فهو وإنْ كان لا بدَّ أن يكون مثالاً عالياً في القمّةِ من الكمال البشري، إلا أنَّه ليس خارقاً، ولا خارجاً عن إطار البشرية.
لقد شكَّـلت هذه المعـادلةُ أصلاً من أصول ظاهرة النبوة. فالنـبـوة وإن كانت ربّـانيـةَ المصدر، ربَّـانية المنهج، إلا أنَّها كانت تؤكّـد على أنَّ حركة النبيِّ في الحياة حركةٌ خاضعةُ لقوانيـن البشر.
إنَّ هذه المعادلة من أهمِّ عوامل منطقيةِ ظاهرةِ النبوة، فالنَّبيُّ من حيثُ هو نموذجٌ لابُدَّ أن يستوفيَ الشرطين اللذين أشرنا إليهما آنفا، وإلا لما صلُحَ أن يكون قدوةً، وإذن لانْهدمَ أصلُ النبوة، ولفقدتْ مُسوِّغَ وجودها في عالم النّاس! ومساحة النصوص التي عالجت هذه القضية، ووضعتها في نقطة الوسط، وعند حـدِّ التوازن، كثيرة، خاصةً في حوار الأنبياء مع أقوامهم. وقد عالجت هذه النصوص القضية من زاويتين:
الأولى: تأكيدُ بشريةِ الرسول أمام من رفضوا أن يكون مَن يقوم بهذه المهمة العظيمة بشراً! إنَّهم يستكثرون على بشر أن يحمل أعباءَ هذه الوظيفة العظيمة: "أكان للناس عجباً أنْ أوحينا إلى رجلٍ منهم أن أنذر النَّاس" (يونس: 2).
وقد مـنعتهم هذه الشُبهة من الإيمان: "وما منع النَّاس أن يُـؤمنوا إذ جـاءهمُ الهدى إلا أنْ قـالوا أبعـثَ الله بشـراً رسولاً" (الإسراء: 94). إنَّهم يروْن، بحسَب تفكيرهم المحدود، أنَّ مصدر الرسالة يقتضي أن يُبلِّغها ويتمثَّـلها جنسٌ راقٍ من المخلوقات لا يَحملُ ضعـفَ البشر. وقد ردَّ اللهُُ عـليهم:" وما قـَدَروا اللهَ حـقَّ قـدْرِهِ إذ قـالوا ما أنـزلَ اللهُ على بشـرٍ من شـيءٍ.." (الأنعام: 91).
إنَّ من يُــبْعِـدُ أن يكون الرسولُ من البشر لم يُعظِّم اللهَ حقَّ عظمته، إذ قدح في حكمته، وزعم أنَّ البشر لا يصلحون لتبليغ رسالته، والله يعلم أنهم الأصلح لتبليغها ليتحقَّـق النموذج القدوة، ولِـتـتـمَّ غايةُ بِعثـة الرسل. وكلمَّـا كان الأقوام يُنـكـِرون بـشـريّـة الرّسـل، كـان الـرّسـل يـردّون عـليهـم بـتأكيـد بشريتهم: "... قالوا إن أنتم إلا بشرٌ مثـلُنا تريدون أن تصدونا عمَّا كان يعـبدُ آباؤنـا فأتـونا بسلطان مُبين. قالت لهم رسُلُهُم إنْ نحن إلا بشرٌ مثـلُكم..." (إبراهيم: 10، 11).
لقد ردَّ القرآن على طلبهم قائلاً: "قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنيـن لنزلنا عليهم ملكا رسولاً" (الإسراء: 95)، هم يريدون تـَوْعِيـر "النموذج القدوة "، ليضربوا بذلك أصلَ الرسالة، فلو أرسله مَلَكاً لقالوا هو مَلـَكٌ ولا قدرةَ لنا على الإقتداء به! وإذ كان بشراً قالوا: إنَّه بشرٌ وكيف يُرسِل اللهُ لحمل رسالته وتحقيقها في الأرض من تَكـدَّر بنقص البشر؟! والآياتُ كثيرةٌ ولا مجال لسردها جميعاً، لكنَّها كلَّها تؤكد على وجوب بشريةِ الرسول لأنَّها من حكمة الله عز وجل، لتحـقيق غاية الرسالة، من خلال "الرمز الإنسان"، الذي يستطيع كلُّ من أراد أن يـُقـلِّـده، ويهتدي بهداه.
أما الثانية: فهي تخصُّ من آمن بالرسول، ولم يستـكـثـر أن يكون بشراً من حيثُ المبدأ، كما كان منطقُ خصومِ الرسالة، لكنَّ المشكلة هنا في أنَّ هذا المؤمن قد تختـلُّ لديه موازين الاقتداء، مما يُـشـوِّش لديه "النموذج"، فيحتار كيف يتعامل معه، ولتحصين هؤلاء من الوقوع في هذا الخطأ، جاءت الـنُّصوص الكـثيرة التي تـُؤكد على بَشريَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتحذير من وضعه فوق مكانةِ البشر، أولاً، وثانياً: التأكيد على أنَّ الأصل في كـلِّ ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم، وفي كلِّ خِطاب وُجِّه إليه العموم، هو تشريع لكلِّ المسلمين، ولذلك فإنَّ كلَّ ما صدر عنه صلى لله عليه وسلم لا يخرج عن وُسْع الجميع من حيثُ القدرةُ الأصلية، نعم قد يكون صعباً، لكـنَّـه ليس مستحيلاً.
والأحاديثُ التي تـنهى عن المبالغة في إطراء الحبـيب صلى الله عليه وسلم، وعـن كلِّ ما يدور في هذا الإطار، عـديدة، ولست أرى أنَّ سببَ هذه الكثرة، والتشديد في النهي، الحذرُ من الوقوع في الشرك وحسب، مع أهميته وخطورته، ودخوله في النهي من باب الأولية، ولكنني أرى عِلَّةً أخرى لا تـقلُّ عن ذاك أهمية، قلَّ من نبَّه إليها، وهي المحافظة على النموذج من أن يدخل عليه ما يقدح في صلاحيته للإقتداء.
وسأكتفي بمثال واحد يوضح المقصود، ويدلل عليه: ما الذي أغـضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لعل أغـلبَ القُراء يعرف حديثَ النـَّـفـر الثلاثة الذين تقالُّـوا عبادةَ رسول الله صلى الله عـليه وسلم، بعد أن أُخبِـروا عنها! وكيف أنَّ كلَّ واحـدٍ منهم قرَّر أن يقـوم بما يظنُّه قُربـةً إلى الله ! وكيف أنَّـه صلى الله عليه وسلم غـضب عندما سمع ما قالوا ، وجـمع الناسَ وأخبـرهم الخبر، وصوَّب لهم الـتصور، وختم قائلاً عليه الصلاة والسلام: "فمن رغِـب عن سُـنَّـتي فـليس مني" (البخاري: ح 5063).
كنتُ أقـفُ كثيراً عند هذا الحديث، وأعجب من ردة فـعـل النبي صلى الله عـليه وسلم الغاضبة، ودعوته إلى اجتماع عام، وإلقائه بياناً هاماً، غاضباً، حاسماً! فلماذا هذا الغضب؟! وحتى لا أطيـل في إيـراد ومناقشة الإجابات فإنني سأكـتـفي بما أراه السببَ الرئيس في غضبه صلى الله عليه وسلم. إنَّ الذي أغضبه صلى الله عليه وسلم هو تعديهم على فكرة النموذج، فقد قالوا: "وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غُـفِـر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
قد يُقرِّر أحدُ الناس ألا يتـزوج، وقد يُقرِّر آخرُ بأن يكثر من الصوم، وقـد يقرِّر ثالث أن يقوم كلَّ ليلة، وقـد يسمع عنهم صلى الله عليه وسلم، فيدعوهم إليه، ويُـنبههم إلى أنَّ ما قـرَّروه مُخالفٌ لهديه، وأنهم بهذا يَشقُّون على أنفسهم،... قد يفعل كلَّ هذا، وينهى بحزم، وينتهي الأمر.
لكن هنا يوجد تصريحٌ خطيرٌ، أعتقد بأنَّه هو الذي أغضبه صلى الله عليه وسلم، لقد قالوا بأنَّه صلى الله عليه وسلم يختلفُ عن الناس، فهو قد غُفر له ذنبُه، كلمةٌ صحيحة، لكنَّها تهدم ـ في رأيي ـ كلَّ ما بناهُ صلوات ربي وسلامُه عليه، فإذا كان قد غُـفـر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمعنى هذا عدم صلاحيته ليكون نموذجاً لنا، وهي قضيةٌ حرص صلى الله عليه وسلم على تأكيدها طوال نبوته، فهل يرضى أن يأتيَ بعد كـلِّ هذا الجهد من ينـقضها له!
ولـذلك لاحِظوا ما قـاله صلى الله عليه وسلم: "والله إني لأخشاكم لله وأتـقاكم له ..."، لقد ردَّهم إلى القاعدة، وهي أنَّ حركتَه صلى الله عليه وسلم داخل إطار البشرية، فسلوكه منبثـق من الخشية والتقوى، يعني أنَّه في الدائرة وليس بخارج منها! وقد نبَّه مـرةً من قال لـه: أليس غـُفـر لـك ما تقدم من ذنـبك وما تأخر.. "فقال: أفلا أكونُ عبداً شكوراً؟!! (البخاري: 4837)"، يعني أنه إن لم يكن في دائـرة الواجب، فهو في دائرة الشكر، وكلاهما مرتبتان لا تخرجان عـن صلاحية "النموذج".
إنَّها قضيةٌ خطيرة، وأيُّ خطأ فيها يؤدي إلى انحراف هائل في حمل الدين، والدعوة إليه، والسلوك به.