بين الثقافة العضوية والثقافة المهرمنة
د. صالح نصيرات
في عالم الغذاء نجد أنواعا من المواد الغذائية يطلق عليها عبارة "طعام عضوي" له قيمته وأخرى "الطعام المهرمن". وهو طعام يسر الناظرين ولكنه يفاجئهم بالخواء و بلا قيمة غذائية حقيقية.
ويبدو أن الثقافة اصبحت كذلك، فهناك ثقافة تبدو للناظر أنها ذات قيمة عالية لا يستطيعها سوى فئة قليلة من الناس الذين يحاولون الخروج من سأم الحياة الرتيبة التي يعيشونها. فهم من يذهب إلى معارض الفن بأنواعه، ويحضرون إلى دور الأوبرا ومسارح النخبة الاجتماعية، بلا أثر يُذكرلهذه الثقافة على تلك النخب. إذ أن تلك المناسبات ليست سوى "فشخرة" وتباه وقتل للوقت. فهي وإن بدت ثقافة عضوية، إلا أنها كالطعام المهرمن تبدو جميلة وبرّاقة من الخارج، ولكنها خاوية بلا قيمة في الواقع.
فالابتذال وتسميم الذائقة وإعلاء شأن من يقوم عليها فقد أصبحت الوسائل المفضلة لإلهاء الشعوب وتكريس التفاهة و"صناعة" النماذج الأمينة على تكريس هذه الحالة في المجتمعات. فيصبح التافهون هم -وللأسف- من يشكل قيما جديدة تخرج المجتمع من الرقي في التعامل، وتذوق الجمال في الكلمة والصورة والعبارة، إلى اعتبار الجسد وعبادة الشهوة هي القيمة الأعلى لدى الناس.
أما الثقافة الحقيقية التي تستخدام أدوات التعبير المختلفة وتحمل التزاما وفكرا تغييريا فإنها لاتجد صدى لدى العامة و الخاصة على السواء. لذلك لاترى حضورا لافتا في تلك القاعات البسيطة التي يلتقي فيها روائي أو شاعر، بثلة من المستمعين الذين يتستقطعون من وقتهم الثمين جزءا ليستمتعوا بما يقدم لهم. وهذا النوع من الثقافة الشعبية العامة أصبح قليل الحضور، ويبدو أنه أقرب إلى الاضمحلال.
وهذا الواقع المؤلم ثقافيا نتاج طبيعي لأنظمة أصبحت ترى في الثقافة و التثقيف خطرا عليها. فهي تخاف من القلم والريشة والكلمة أكثر من خوفها من الرصاصة. ولهذا فهي مشغولة بمحاصرة كل نشاط فكري أو ثقافي "أصيل" يقدم للناس ما يعطيهم الأمل بالتغيير والخروج من حالة اليأس والقنوط التي تعيشها المجتمعات التي ابتليت بالاستبداد والكراهية والبغضاء.
فلا عجب أن يمنع شاعر أو أديب من لقاء جماهيره بجحة "إثارة الفتن" أو التحريض على التغيير، أو غير ذلك من التبريرات الفجة والمسيسة. فالمجتعمات صحراء قاحلة ماديا ومعنويا، ماديا بالإفقار والتجويع والإنهاك المنظم، ومعنويا بقتل الروح وإيصالها إلى اليأس والقنوط.
عبر القرون كانت الكلمة أكثر أشكال التعبير قوة وأثرا، ولذلك فقد اغتيل وأعدم وسجن الكثير من المفكرين والمثقفين والأدباء، فهم وإن رحلت أجسادهم إلا أن كلماتهم بقيت حية خالدة.
" إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح و كتبت لها الحياة" سيد قطب.