مسيرة الاعلام الصهيونية .. ما لها وما علينا
أسامة الغول / صحفي وأكاديمي
انتهت مسيرة الاعلام الصهيونية الى حائط البراق، حيث اجتمعت حشود الصهاينة المحتلين فيه ترقص وتهلل، في حسرة بدت ظاهرة على كثير منا، وتوقعات وآمال لم تتحقق، بعد مجموعة من التصريحات التي تواترت وخلقت صورة ذهنية بان اليوم يوم مشهود في الصراع مع المحتل، حيث ساقنا البعض في تصريحات هنا وهناك بأسقف مرفوعة تشي بأن رد المقاومة الفلسطينية حتمي في هذا اليوم، وان هناك من يده على الزناد ينتظر الإشارة، موحياً ان الطلقات تحسم المعارك دوماً، حتى ان البعض قال عندما تأخر الرد .. انتظروا فلم ينتهي اليوم، في ايغال لمعادلة الإحباط المركب، واستمرار لفوضى التصريحات دون الأخذ بسيناريوهات أخرى تقتضيها المصلحة، ما ارتد على جمهور المقاومة بشكل عكسي اخذين في الحسبان حسن النوايا، وللأسف فان الامر ملخصه وكاننا نخوض حرباً نفسية على جمهورنا دون ان ندري، نتاج هذه التصريحات اللامسؤولة وغياب خطاب إعلامي موحد وموجه ومدروس.
نعم، كانت النتيجة صادمة لكثير ممن افترض ان المقاومة ملزمة بالرد في يوم مسيرة الاعلام الصهيونية التي حدثت في ٢٩ مايو في القدس، وكان رد المقاومة المتوقع في هذا اليوم قد رفعه البعض الى درجة الحتمي، فرفع من سقف توقعات الجماهير المقدسية خصوصا والفلسطينية عموما، فالتصريحات التي تساوي قوة ردع المقاومة بقوة الاحتلال في غير مكانها، ولا بد من الاعتراف بأننا نحمل المقاومة في غزة اكثر مما تستطيع، حيث وضعت المقاومة في عملية مقارنة مع قدرات العدو المذهلة وتم رفع نبرة التحدي في غير قدرة، وخلق الإيهام بأن المقاومة قادرة على الرد في كل وقت وفي كل ظرف وأن مقدراتها توازي قوة العدو وقدراته اللوجستية، رغم أن المقاومة ليست جيشا ولا دوله، ورغم ان لا احد منا يجرؤ ان يلوم المقاومة في غزة بشيء حيث ندرك صعوبة ظروفها هناك وصعوبة وضع حاضنتها أيضا التي لم تشف بعد من جراحاتها في حرب سيف القدس السابقة.. ان ثقتنا لكبيرة في حسن ادارة المقاومة للمعركة مع المحتل الإسرائيلي وهي التي وفق ظروفها وتكتيكاتها تقوم بتحديد الزمان والمكان الذي تراه مناسباً وليس الانجرار الى مربع يرسمه لها الاحتلال فيأتيها في مقتل لا قدر الله..
ان فوضى التصريحات سواء من قياديين او مؤسسات إعلامية فلسطينية، اوحت وكأن الرد قادم لا محالة في نفس يوم المسيرة، ما جعل جمهور المقاومة في حالة ترقب وانتظار لتوجيه ضربة تعلو بعدها التكبيرات في ارجاء الأرض المحتلة وخارجها، فقد طال انتظار هذه اللحظة التاريخية والعاطفية في آن واحد، فالتصريح "ان غرفة العمليات المشتركة في حالة انعقاد دائم"، جعل جمهور المقاومة يراهن بالثواني على رد منتظر، وكان الأجدر في هذا المقام ترك المجال للفعل الشعبي النضالي على الأرض ان يأخذ حقه من التفعيل والمفاعلة في القدس والضفة الغربية، كذلك تصريح احد المسؤولين المرموقين في العمل السياسي في خارج الأرض المحتلة والذي افاد تعليقا على مسيرة اعلام الصهاينة، واقتبس قوله حرفيا هنا :" بأنه يجب ان نفعل فعلاً عظيماً يجعل الاحتلال وداعميه يدركون ان المساس بالأقصى سوف يتسبب بسقوط السماء على الأرض"، بحيث أعلى من سقف توقعات الجماهير التي تتوق لرد ساحق ماحق على الغطرسة الصهيونية، الا ان الامر اتى بعكسه وخلق حالة من الإحباط لدى عديد جماهير المقاومة بعد عدم الرد، وهذا يوضح فوضى تصريحات لا مسؤولة، ما يوجب صياغة خطاب إعلامي موحد ومنضبط في معاركنا مع المحتل، وان يكون هناك ناطقين رسميين في الازمات هم المخولون بالتصريح والتلميح فقط، وعدم اتاحة المجال لتصريحات عشوائية من هنا وهناك تربك الساحة والفواعل الحقيقية فيها.
معادلة غزة والقدس ام مراكمة القوة للمعركة الفاصلة؟!!!
فوفق مآلات الاحداث ما بعد مسيرة الاعلام الصهيونية، لم تعد معادلة غزة القدس موجودة، ولا يعني ذلك نهاية المعركة، فالمعركة قائمة، وهي جولات، وقد يكون تفكير المقاومة اليوم منصباً على معركة فاصلة ضمن محور المقاومة دون المعارك والمناوشات الجانبية، التي قد يستفرد بها العدو ويستنزفها، وهذا انضج واقوم لطبيعة عمل المقاومة وهو اكثر جدوى في مراكمتها للقوة، بدلا من خوض معارك جانبية تتطلب منها إعادة البناء كل فترة وأخرى، وقد يكون هذا فخاً إسرائيليا لاستنزاف المقاومة يجب الانتباه اليه.
يجب على جمهور المقاومة وحاضنتها الشعبية ان تكون اكثر ثقة بأن محور المقاومة اليوم يعمل وفق استراتيجيات لا يفترض كشفها للجمهور، فالمعركة القادمة، معركة التحرير المنشود تتطلب تكتيكات واستراتيجيات امنية عميقة ومدروسة، وان غرفة العمليات المشتركة من الوعي بمكان لكيفية ووقت اطلاق رصاصة على المحتل، فما بالكم اعداد العدة لمعركة فاصلة نؤمن بها ونراها قريبة باذن الله.
ان المقاومة في غزة التي خاضت حرب سيف القدس، ودكت كافة المستعمرات الإسرائيلية في فلسطين التاريخية تحت سماء مكشوفة وتحد كبير لسلاح جو الاحتلال الاسرائيلي، لا ينبغي لنا تجاهها الا مزيدا من الثقة، ومزيداً من الدعم والمساندة، فهي تسير بخطى واثقة، وتنسيق كامل وواع مع مختلف الشركاء في محور المقاومة، وهذا ما صرح به قادة المقاومة في غزة مؤخراً.
رسائل مسيرة الاعلام الصهيونية!!
وقد وجهت مسيرة الاعلام الصهيونية عديد الرسائل المباشرة وغير المباشرة، فالمباشرة منها كانت واضحة بانهم يسعون لهدم الأقصى وبناء معبد لهم مكانه، وتعتبر هذه الرسالة الغير رسمية للمسيرة، اما الرسمية فهي تعزيز التقسيم المكاني والزماني، وعدم الاعتراف باية مسؤولية حقيقية عن المسجد الأقصى الا من قبل دولة الاحتلال باعتباره القدس عاصمة موحده له، وبالتالي لا دور للاوقاف او الأردن او المغرب، ولا امل للفلسطيني بعاصمة في القدس، فقط المحتلون هم أصحاب المكان.
اما الرسائل غير المباشرة التي وجهتها وكشفت عنها مسيرة الاعلام، فهي تتلخص بشقين اثنين، تخصان العرب والمسلمين، فهتافات المسيرة لم تكن موجهة للفلسطينيين فقط بل للعرب عبر هتافات المستوطنين الصهاينة "الموت للعرب" وليس "الموت للفلسطينيين" وكذلك شتم الرسول صلي الله عليه وسلم من قبلهم وهي مسبة لكل المسلمين في العالم.. وفي ذلك مغاز عميقة تدلل على ان حقيقة الصراع مع المحتل هي أكبر من حصرها في صراع فلسطيني إسرائيلي كما تصور السردية الإسرائيلية ويتبناها بعض العربان، بل ان حقيقة ذلك انه صراع صهيوني عربي إسلامي وهذا بحد ذاته يعد تأكيداً لطبيعة التحشيد الذي يجب ان تعمل عليه المقاومة وأذرعها الإعلامية لحشده في العالمين العربي والإسلامي، والتنبيه بأن الخطر الصهيوني لا يخص الفلسطينيين وحدهم وانما يصل لكل عربي ومسلم، فضلا عن كل حر يحترم حقوق الانسان والعدالة.
حسابات الربح والخسارة!!
وان كان لا بد لنا من جرد حسابات الربح والخسارة في هذه المعركة، فان المصلحة تقتضي مراجعة جدية لآليات المواجهة وأدواتها وخاصة الإعلامية منها، وعدم الاستماع الى الأصوات الفلسطينية التي تجمل الخسائر وتصفها بالانتصارات، او التي تبث الامل في غير مواضعه ولو بحسن نيه، ففي هذه المعركة بلا شك خسارة مؤلمة لما حل بالقدس وأهلها من انتهاك وتفرد .. الا ان الانصاف يقتضي منا ان نعلم ان المقدسيين قاموا بعمل بطولي يشهد لهم، فقد كانوا وحدهم في معركة غير متكافئة ورغم ذلك أبدوا صلابة في المواجهة وقدرة مبهرة بإمكانيات بسيطة ومبدعة لفرض الرواية الفلسطينية، في ظل ظروف أمنية بالغة التعقيد من دولة حشدت ٣ الاف جندي لتسيير "مسيرة الاعلام".
ان اعلام المقاومة اليوم مطالب بصياغة الخطاب الإعلامي والرسائل الإعلامية بشكل مدروس يراعي وصولها بمغازيها لحاضنتنا الشعبية فضلا عن الجبهة الداخلية للمحتلين، وبالتالي توجيه خطاب عقلاني لا عاطفي تجاه جمهور المقاومة وعدم رفع سقف التوقعات في إدارة المعركة على الأرض، وخاصة ان المقاومة اليوم هي جزء من حلف يعمل وفق رؤية شاملة وناضجة ولا تعمل بردات الفعل او الانجرار الى مربعات يريدها العدو فينال منها.
ان من اهم مكتسبات مسيرة الاعلام الصهيونية فلسطينيا، انها اثبتت وجود شعب فلسطيني في القدس، وهو شعب متجذر مقاوم مستعد للدفاع عن ارضه ومقدساته بكل قوة، فقد كان حجم التصدي للمسيرة في داخل البلدة القديمة مبهراً والمشاهد التي شاهدناها في استبسال الشباب المقدسيين في الدفاع عن المرابطات دليل شجاعة واستعداد عال للتضحية، فضلا عن مسيرة الاعلام الفلسطينية في شارع صلاح الدين في القدس التي فرضت رواية يصعب ازالتها من اذهان الإسرائيليين، فالقدس ليست موحدة كما يدعون، والقدس خارج السيطرة أيضا خلاف ما يدعون.
ان مشهد هروب المستوطنين الصهاينة في باب العامود نتيجة مواجهات المقدسيين لهم في البلدة القديمة يجب ان تبث من جديد وفي كل وقت مرات ومرات للتذكير بقوة المقدسيين.. هذا المشهد يكرس الهزيمة المعنوية القاسية بجموع وقطعان المستوطنين الصهاينة الذين رغم وجود جيشهم المدجج بالسلاح هربوا في مشهد درامي مؤلم، يعزز من دور المقاومة الشعبية وتأثيرها وفاعليتها في سرد الرواية الفلسطينية بالصورة.
أما العلم الفلسطيني الطائر عبر طائرة صغيرة مسيرة، فحدث عن حجم القهر والغيظ الذي عاشه الصهاينة في تحليقه فوق رؤوسهم دون ان تطاله أيديهم او رصاصاتهم التي عجزوا عن اطلاقها لتحييده، بالفعل كان العلم الفلسطيني الطائر إضافة نوعية في الفعل المقدسي الثوري ضد الاحتلال، فاق التوقعات الصهيونية في فرض رواية السيطرة على الأرض دون السيطرة على السماء التي انتصر فيها المقدسيون.
ان تجربة "مسيرة الاعلام الصهيونية" فيها الكثير مما يمكن استثماره في فضح الرواية الإسرائيلية وتعزيز الرواية الفلسطينية على المستويات الدولية والمحلية، المهم، كيف نستثمر ذلك وندعم به حقنا وروايتنا، بل كيف نعمل على تنسيق الجهود الفلسطينية في داخل وخارج الأرض المحتلة لتحقيق الهزيمة النفسية والإعلامية بمحتل قرب أوان رحيله.