لكل كلمة من الكلمات الأربع التي اخترتها لتكون عنوانا لهذا المقال حمولة كبيرة لابد من التوقف عنها. ولا يقتصر الأمر على الكلمات منفردة، بل ايضا المصطلح والنظرية فالمثقف المسلم تعبير له دلالة تجمع طرفي التعبير. وكذلك الحال بالنسبة لتعبير التحدي والاستجابة. ولذلك سأقدم في المقدمة فهمي لهذا العنوان لكل كلمة ومن ثم للتعبيرين مجتمعين.
فكلمة مثقف أو إن شئت مصطلح مثقف له دلالات عميقة ابتعدت عن الأصل وهو مصطلح "ثقافة". فقد اشتق من هذه المفردة أسماء وصفات وتعابير كثيرة. فلدينا المثقف، والفعل تثاقَف، والمصدر مُثاقفة. وعند البحث المستفيض والمعمق، سنجد أن كلمة ثقافة ليست محل اتفاق بين كثيرين. وبالتالي سنجد الخلاف قد امتد إلى المشتقات منها.
فالثقافة لها عدة معان ترتبط بشكل عام بالتهذيب، وبناء القيم الراقية، وتطوير الوعي وإثارة الحماس للتغيير الإيجابي. كما ارتبطت بالإنسان الذي يطمح لتحقيق مصالح مجتمعه من خلال أدوات ومعارف وعلوم وفنون وآداب مختلفة. والمشتقات كالتثاقف والمثقافة أصبحتا مصدرا لنقاش وحوار بيين أبناء الثقافات المختلفة أملا في تعزيز المشترك الإنساني والتسامح فيما يختلفون فيه.
ولأن حديثي اليوم عن المثقف المسلم، فسأتوقف عند هذا الموضوع لعله يثير نقاشا نافعا بين المهتمين. خاصة وأن الفكر و التنظير اصبح عند كثيرين للاسف مرادفا للترف وإضاعة الوقت وربما زاد بعضهم فقالوا إنه من العلم الذي لا ينفع.
فمن هو المثقف المسلم؟ ما وظيفته؟ وماهي مسؤولياته؟
لقد أعجبني تعريف الدكتور عماد الدين خليل لمصطلح المثقف المسلم وتحدي وظيفته ومسؤولياته
فكتب " والمثقف المسلم الذي نعنيه في هذا السياق، هو ذلك المثقف الذي نجده على وعي مقدّر بالعالم المعاصر وأحداثه وقضاياه، وبموقعه المتميزفي هذا العالم، إذ تتجلى ثقافته الإسلامية في طريقة تفكيره، وسلوكه وتعامله مع عوالم الأفكار و الناس والاشياء". أما وظيفته فهي "إثارة الوعي تجاه قضايا المجتمع، وإثارة الوعي نابعة من التساؤل و النقد بوصفهما مفردتين رئيستين في خطاب المثقف". (مجلة الفكر الإسلامي المعاصر،العدد103 ).
وهذا التعريف يدل على أن المثقف المسلم مشتبك مع واقعه في مستوياته المختلفة المحلية و العالمية، فقضايا الإنسان هي قضاياه، إذ أنه جزء من هذا العالم ويعيش على هذا الكوكب. فالخير يمسه وكذلك الشر. ولكن هذه العالمية لا تبعده عن واقعه المحلي والخاص. فالمثقف يدرك تماما أن القضايا التي يتناولها متداخلة وتؤثر بشكل مباشر على مجتمعه. فهو عندما يتحدث عن البيئة أوخطر السلاح النووي والاحتباس الحراري، والاستبداد والاحتلال والديمقراطية وكذلك الرخاء الاجتماعي والسلم العالمي، إنمايريد بذلك أن ينشر الوعي المجتمعي بقضايا يظنها بعض الناس لا أهمية لها أو ليست أولوية الآن. وعندما يتحدث عن قيم التسامح والاحترام ويستخدم الحوار و النقاش الموضوعي لإدراكه بأن مجتمعه اليوم ليس منعزلا عن العالم من حوله.
ولعل من المهم أن نشير هنا إلى أن المثقف ليس مجرد متفلسف أو ناقل أو متبن لكل ما يُطرح في سوق الأفكار، بل مهمته الأساسية هي النظر والبحث والنقد. ولذلك فإن عماد الدين خليل يضع خريطة عمل للمثقف تتمثل في "محاورة المنظومةالسائدة، وتفحص مقوماتها ومناقبها ومثالبها،
والعمل في الوقت ذاته على تاسيس منظومة مجتمعية صالحة للارتقاء بمجتمعه". وهذه المهمة تتمثل في القيام بمسؤوليتين برأي الدكتور عماد الدين وهما "المسؤولية الثقافية القيمية من خلال استيعاب ثقافة الأمة وتمحيص غثها من سمينها، وتجاوز ذلك بتحديث الثقافة، وأخذ ما يلائم المجتمع... والمسؤولية الاجتماعية من خلال تفعيل طاقات المجتمع تجاه أفكاره والتعبيرعن ضمير المجتمع وتقريب المسافة بين المنشود والموجود وهو هنا ينتقل من إثارة الوعي إلى صنع ذلك الوعي" (المصدر السابق ص6).
وعودا على عنوان مقالتنا، فإن التساؤل المطروح يتضمن وعيا بالواقع وإدراكا لمعنى التعامل مع هذا الواقع. فهل المثقف المسلم اليوم على قدر التحديات التي تواجه مجتمعه خاصة والعالم عامة؟ أي هل خرج المثقف المسلم ليتساءل مع غيره من مثقفي العالم عما يجب فعله من أجل عالم أكثر أمنا وسلاما للبشر على هذا الكوكب. فمشكلات الناس وانشغال الكثيرمنهم بقضاياهم اليومية وما يعانونه ليس بعيداعما يجري في هذا العالم.
إن التحديات كثيرة ومعقدة ومتشابكة، وربما يقول قائل كيف تتحقق الاستجابة والمثقف المسلم محاصر، وأنفاسه وكلماته محسوبة، والرقيب ينتظر كلامه ليؤوله حسب فهمه القاصر لإنزال العقاب بهذا المثقف. فمجرد أن يدخل ساحة النقد وإثارة التسالات والجرأة في تشريح الواقع، سيكون عندئذ في نظر الرقيب ليس إلا محرضا ومثيرا للفتن. وقد رأينا في الأعوام السابقة كيف كان مصير من طرح تساؤلات جادة حول الواقع.
والرد على ذلك ليس سهلا، فنحن إزاء واقع يحارب المثقف بشكل عام و المسلم بشكل خاص. ولكن أليس بمقدور المثقف المسلم أن ينقد ويتساءل ويقدم رؤى وطروحات دون الدخول في صدام مع الآخر المتربص؟ إن الاستجابة لكل هذه التحديات تفرض على المثقف المسلم أن يبحث عن منابر ومواقع للتواصل مع جمهوره، وأن يكون هدفه الأساس الإصلاح وليس التثوير، وأن يجتهد في تقديم الجديد والملائم لمجتمعه.
وليعلم من يريد الإصلاح أن شعوبنا رغم ما تعيشه من ظروف بائسة لاتزال بخير، وتتطلع إلى من يخلصها من الهوان والتراجع، شرط بناء الثقة والصدق والإلتزام، ولا يكون ما يكتبه ويقوله مجرد سلم يستخدمه لتحقيق مصالحه كما رأينا من قبل ونرى اليوم.