وللحق، فإن مفهوم القهر بشتى أنواعه يخضع للأيديولوجيا والفكر الخاص بمن يكتب. في عندما تحاول فهم هذا المصطلح ستصدم برؤى كثيرة و متباينة. فللماركسي رؤيته و كذلك اللبرالي العلماني، وحتى الإسلامي. وهذا الاختلاف يسبب الكثير من التشويش على القارىء، خاصة ذلك الذي لا يدرك أن الأيديولوجيا تتحكم في الكاتب، وتوجهه أكثر بكثير من الموضوعية والحيدة المطلوبة.
ولأننا في الغالب نتعاطف مع من يفكر مثلنا، ويكتب بلساننا، ويسوّق أفكارا نجلها ونقدرها، فإن هذا التعاطف يجعلنا – نحن القراء- ضحايا للقهر الأيديولوجي. وبما يقول قائل بأن التنوع والاختلاف في الرؤى والأفكار وطرق التناول للموضوعات الفكرية أمور مهمة ونافعة. وأنا معه بشرط أن يكون الكاتب قادرا على إخضاع الأيديولوجيا وليس خاضعا لها، منفتحا على الآخر المخالف، وموضوعيا في نقده.
ولأن هذه الشروط غير متوفرة نجد أن التشنيع وذم الآخر، واتهامه بأبشع النعوت "سلوكيات" رائجة بين المثقفين أكثر من غيرهم، مع أن الثقافة تعني في بعض تعريفاتها بأنها التهذيب والتأدب واحترام الآخر.
وثمة قضية أخرى ذات صلة مباشرة بالموضوع وهي عدم اعتراف من يمارس القهر الثقافي ضد الثقافات الأخرى بأنه أداة لتحقيق هذا القهر وإنجازه بحماس، لأنه يعتبر ثقافته هي "المعيار" الذي يجب على الآخر "المقهور" التماهي معها، والقبول بها، بل والترويج لها. وأي معارضة للقهر من قبل المقهور فهي دعوة للتخلف والتقهقر عن "معايير" السيد الذي وضع تلك المعايير.
هذه المقدمة ضرورية حتى نفهم من أين يصدر المثقفون بشكل عام. ولهذا سنبدأ بسؤال مهم ليكون مدخلنا لفهم هذا الموضوع.
ما هو القهر الثقافي؟
القهر الثقافي هو ممارسة السيطرة على قلوب الناس وعقولهم من خلال أدوات ضغط مختلفة، مادية أو معنوية، وتأتي السيطرة بأساليب وأدوات يختارها "القاهر" بعد دراسة واعية لنفسية الشعوب أو الجماعات التي يراد إلحاقها بالثقافة الغالبة والقاهرة، بقصد "تدجين" الآخر ونهب مقدراته، ووضعه في حالة من الإحباط واليأس من أي محاولة للخروج من مأزقه.
الإنسان المقهور
هو الفرد الذي يعيش حالة من الشعور بالعجز الممزوج بالمرارة والإحباط وغياب القدرة على تطوير آليات مناسبة للمغالبة ومحاولة الخروج من تلك الحالة التي قد تصل به إلى غياب وعيه وشلل في تفكيره، مما ينتج عنه الكثير من الأمراض النفسية والعقلية. ولأن المقهور "فاقد للوعي" فإنه يعيش حالة من الإنكار والرفض الذي قد يؤدي إلى ظهور الجريمة بأنواعها واشكالها المختلفة.
والإنسان المقهور مرتبط ارتباطا مصيريا بالقاهر، لذلك فإنه في النهاية يتحول بعد "تدجينه " من قبل السلطة القاهرة إلى قبول مستوى ما من العبودية، بل قد يتحول إلى محام يدافع عن القهر والاستعباد، ليجد نوعا من التوازن والرضى النفسي الموهوم، والإبقاء على حياة لا الحياة، لأن هناك فرق كبير بين من يبحث عن الحياة وآخر يبحث عن مجرد حياة، حتى ولو كان عنوانها العبودية، وهذا نجده في توبيخ القرآن لمثل هؤلاء "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة".
ويرى الدكتور مصطفى حجازي في كتابه المهم " التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" أن القهر سمة المجتمعات المتخلفة. وأرى أن القهر في المجتمعات "المتقدمة" له سمات ومظاهر أخرى من أهمها الانتحار والاتجار بالمخدرات والممنوعات، وارتكاب الجرائم لرد العدوان على ذاته المقهورة، حيث في هذه السلوكيات حلا "مؤقتا" لإنهاء حالة القهر التي يعيشها.
وللحديث بقية