ينطلق كثير من النقاد في معالجتهم لوظيفة الأدب باعتباره انعكاسا للواقع من رؤية واضحة تهتم بالقيم الدلالية دون ربطها بأي بعد فني أو فلسفي، ويتجاوز آخرون هذا الحد معتبرين الأدب مشكلا للواقع؛ لكن الرؤية الثاقبة في الفنان المبدع قد تذهب بعيدا إلى حد رسم معالم المستقبل من خلال نبوءة رؤيوية، تنطلق بعيدا كوحي إلهامي يجعل لغة الشعر أكثر عمقا من اللغة الوصفية التحليلية التي تساوق الحدث وتعكس إشعاعاته.
النكبة الفلسطينية عام 48 تعد منعطفا خطيرا في تاريخ هذه الأمة، ومنعرجا صعبا في بنية الجغرافيا السياسية وجغرافيا التواجد الفلسطيني بعد أن تشتت الجموع وعصفت بلم الشمل الخطوب فاستوطن الفلسطينيون الأرض وان كان حلم العودة قد في رقابهم كبيعة عقدية لازمتهم بقسم معظم قسما إنا عائدون ، وبقي المفتاح والقوشان رمزا لا يجوز التفريط به مهما طال الزمن، وتغيرت المعايير
. وخاض السياسيون في مصاير الأحرار، وتبنوا فكرة التنازل مرة بعد الأخرى، وشهدت (كامبديفد) و(شرم الشيخ) و(جينيف) و(أسلو) و(طابا) وغيرها من ساحات العار جولات سجلت انزلا قات لن يغفر لها التاريخ. لكن ثقافة التنازل لم تكن رائدة في تشكيل الرؤية المستقبلية لما يريده الشعب، لان ثقافة الانهزام ثقافة انحرافية لا تنتمي للوطن الذي يصاغ على عين الحقيقة، ومن هنا يأتي دور المثقف الشاعر ليرسم معالم التجربة، ومستقبل الهوية من خلال تصور رؤيوي يعيد الأمل ويرسم النهاية بعيدا عن التصورات الانزلاقية؛ وتعددت نماذج الإبداع الفني الذي حدد استراتيجية في خطاب الهوية، حينما أكد على ثوابت الأمة ووضعها في مصاف المقّدس الرفيع، ومن هذه النماذج المبكرة قصائد الشاعر " هارون هاشم رشيد" ومع أن علاقة المثقف بالسياسة لم تكن –دائما- في تصالح مع الواقع؛ إلا أن هذا الشاعر كان متصالحا مع ضميره، موفقا في انتمائه، مع أن عمله في السياسة كان يمكن أن ينحرف به عن مساره،لكنه بقي شاعرا يملك الكلمة ويمكن أن نشير إلى شيء من تاريخ الرجل لنؤكد على هذه الحقيقة التي لم تعيب فيه الشاعر الإنسان فشاعرنا فلسطيني الجنسية، من مواليد مدينة غزة، عام 1927م أصدر عشرين ديوانًا وشغل منصب المناوب بجامعة الدول العربية وعضوا في منظمة التحرير الفلسطينية، وممثلا لها في غير موقع،إلا أن أعماله الشعرية تدل على انتمائه الصارخ للكلمة المقاتلة، ولا أدل على ذلك من أعماله التي حملت عناوين الوطن. حيث كان حضور موضوع حق العودة بارزا منذ ديوانه الأول عودة الغرباء (بيروت، 1956م Kوديوانه الثالث "حتى يعود شعبنا" بيروت، 1965م وأيضا "سفينة الغضب" الكويت، 1968م وبقية أعماله الشعرية والنثرية
. إلا أن الحديث عن قصيدته "سنرجع يوما" يمتاز- في رأيي- بقضيتين، هما : صدق تجربته الشعرية، من خلال دفق النص العاطفي، وانسيابية اللغة، و الشعرية، وتخطي أزمة المباشرة والخطابية، والذهاب بعيدا إلى جوهر الخطاب الشعري، من خلال بناء النص لا بناء الفكرة، وان كانت الفكرة جوهريا وقد تمثل ذلك في دلالة العنوان الصارم "سنرجع يوما"، وان كان التنكير في كلمة "يوما" سيفتح الزمن على اللامحدود، لكن الفعل المضارع المتجدد الواعد من خلال حرف الاستقبال" سنرجع" أكد حتمية الرجوع، ثم أن حضور ضمير الجميع يشير إلى فعل استعاري ثوري،يؤكد أن الشاعر يؤمن بروح الجماعة،والالتزام بصوت الشعب، ولا يخضع لتموجات السياسية التي تضع أحلام الملايين وراء ظهرها. أما المزاوجة بين دلالات العنوان ودلالات المقاطع الشعرية المتمثلة في الأسطر الشعرية أو الأبيات على اعتبار أن النص الذي نتناوله نصا عموديا؛ فان مضمون هذه الأبيات يؤكد هذه الانتمائية وذلك الأيمان منذ السطر الأول :
سنرجع يوما إلى حينا
ونغرق في دافئات المنى
أما الغرق في دافئات المنى، فهو يمثل حالة شعورية انتعاشية من نحو؛ حيث نشوة الاستقرار والعودة، لكن هذا الشعور لن يتأتى دون إصرار، ومصابرة رغم العقبات الجسام المتمثلة في مرور الزمن ومسافات القطع والتفريق بين الأهل:
سنرجع مهما يمر الزمان
وتنأى المسافات ما بينن
• وإذا كان المطلع الافتتاحي التأملي مباشرا،تقريريا إلى حد ما، فان نسمة التصوير الفني تنداح مع انفتاح النص على همس الموسيقا بحروف سلسة، تكشف عن استقرار ذهني، وغياب الاضطراب النفسي مما يمهد لولوج الرؤية التشكيلية التي تنبأنا بها في مقدمة المقال، ويتجلى ذلك من خلال التهيئة التي يقدمها الشاعر بواسطة حرف النداء طالبا من القلب أن يتمهل،ثم بتلك الصورة الفنية الشفيفة لقلب يرتمي على درب العودة:
فيا قلب مهلا
ولا ترتمي على درب عودتنا
إن الإرادة التي تحتل المكانة الأولى في النبوءة الشعرية تكشف -أيضا- عن عالم شعوري يتمثل في ذلك الحزن المنبعث من نون الجماعة، وهي تشاهد رفوف الطيور تقطع مسافات بعيدة عائدة لأعشاشها، بينما يترنح الشعب في المنافي قابعا تحت سياط يأسه وخطوب محنته، ومن هنا؛ فان مزج الإرادة مع الحلم يقصف جناح اليأس ويشعل فتيل التصميم
يعز علينا غدا أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا
إذا كان الزمان قد مثل الحلم والبعد النفسي في وجدان الشاعر؛ فان المكان بشموخه وثباته يصرخ بالنازحين صرخة من يجمع حوله الجند. هنالك عند التلال تلال لكن هذا الصراخ لم يكن مجلجلا بل همسا رؤيويا على طريقة التصوير الفني المنسجمة مع طبيعة الشعر،ولذا ستتجلى صورة مشهدية يرافقها ظرف المكان هناك لترتفع في البعيد عند التلال، ثم تستقر بهدوء عليها الحالمون، واثقين بتحقق العهد، هؤلاء الواثقون يستحقون هذه النهاية الموعودة لأنهم " هم الحب " وأيامهم الحب، هم ينتظرون لحظة تحلق فيها الغناءات كرف حمام شجى عبقري شهي:
تنام وتصحو على عهدنا
وناس هم الحب أيامهم
هدوء انتظار شجي الغنا
وتتجلى مساحات الشوق عبر مساحات الأرض التي تمثل المشوق أو المعشوق في ذاكرة الحالمين، ربوع من المد تنحني على صفحة الماء :
ربوع مدى العين صفصافها
على كل ماء وهى فانحنى
ثم تنحني زهراتها اليافعة لتعب عبير الهدوء وصفو الهناء، وهنا فقط تصل النشوة غايتها ويعلن افتتاح المهرجان ليغني العندليب " سنرجع" هذا الغناء العذب لم يكن الا نبوءة خبر بها العندليب غداة لقائه الشاعر على واحد من منحنيات الرحيل وهناك أيضا كانت البلابل تزغرد زغردة صاغ مقاطعها الشعراء:
تعب الزهيرات في ظله
عبير الهدوء وصفو الهنا
سنرجع خبرني العندليب
غداة التقينا على منحنى
بأن البلابل لما تزل
هناك تعيش بأشعارنا
ومازال بين تلال الحنين
وناس الحنين مكان لنا
فيا قلب كم شردتنا الريح
سنرجع يوما إلى حينا....
هذه الرؤية الحالمة ليست نزفا أو شجنا ما دامت مرتبطة بإرادة فاعلة، الإرادة التي تصاغ من خلال الوعي المشارك في تشكيل المرحلة عبر صناعة ثقافة الأمل وصد تهافتات الرحيل عبر تنازلات الساسة. أي أن الشعر الناعم –هنا- يعيد سبك الرؤية السياسية من خلال بنيته الحكيمة التي تجعل الواقع أكثر صلابة من خلال بث روح الأمل في تعرجات الزمان، وإشراك البيئة في زغردة العرس المنتظر.
وهنا يدخل البعد الإنساني،بل الكوني في صياغة هذا الحلم وبناء أركانه. لم يكن الشعر في يوم من الأيام إلا واجهة من واجهات التنظير الإنساني، من خلال رسالة تشكل بعدا مضمونينا مساندا للبعد الجمالي والتغني الناجم عن الرقة أو العذبة سيلتحم بالتغني الناجم عن الحلم والوعد والأمل، وهي كلها معاني سامية تحلق في سماء حق العودة، وترسم خيوط شروطه التي لا تنازل عنها أبدا، لان الحق في مثاليته أشبه بالشعر في جماليته، وإذا ما انتقص المبنى الجمالي بانتقاص صدق التجربة؛ فان الدلالة أو القيمة المعرفية التي يتناولها النص ستبقى ناقصة ما لم تحلق عاليا في سماء الإباء والعزة.
ومن هو ذاك الدعي الذي يستطيع أن يسقط حق امة في ان تستعيد كرامتها وتعود إلى ديارها، وكيف يكون ذلك التغيير منطقيا والطيور المغردة تعزف على لحن النصر وتأبى أن تعيش في عبودية الحبس
. إن قيمة النص لا تتشكل من مقاطعه الموسيقية فقط بل ستندغم مع قيمه المضمونية لتكتمل فيه رؤيته الفنية والمضمونية. هذا التصوير الفني البديع جعل واحدة من مشاهير الغناء العربي"فيروز" تشدو بهذه المعزوفة بلحن رقراق بديع ، ولعل من أعجب ما في هذا الغناء أن كثيرا من السامعين يظنون فيروز تقول سنرجع يوما إلى حيفا؛ لما بين اللفظتين " حينا " و"حيفا" من تناغم عجيب.ولم تكن فيروز فريدة في التفاتتها الذكية إلى شاعرية هذا المتألق، بل إن المجموعة القطرية صدحت منذ عقود بقصيدته الرائعة احبك يا قدس.